فى عالم الروايات، تتبدَّد أدوار البطولة من أيدى القادة والساسة والمشاهير، لتسقط فى أيدى البشر العاديين. فى عالم الروايات، يمكن لبيت عادى أن يصير محورَ العالم، بل يستطيع مطبخ البيت بمفرده أن يصبح المحرك الأساسى للأحداث الجِسام، وصانعًا للأقدار والتحولات المذهلة.. كل هذا ممكن جدًّا فى عالم الروايات.
«كالماء للشوكولاتة»، للكاتبة المكسيكية لاورا إسكابيل، هو عنوان إحدى هذه الروايات صغيرة الحجم عظيمة القدْر والتأثير؛ رواية يصعب أن تخرج منها سليمًا معافًى، مهما كنتَ راضيًا عن قناعاتك السابقة، إنها من نوع الروايات الذى يزرع الديناميت أسفل قواعدك، ثم يتركه يتفجّر ببطء أثناء القراءة، فصلًا بعد فصل.
«كالماء للشوكولاتة»، تعبير يُستخدَم فى العديد من الدول الناطقة بالإسبانية، لوصف المشاعر حين تكون على حافة الغلَيان، إذ من الضرورى أن يصل الماء لهذه الدرجة من السخونة –تحت الغلَيان مباشرةً- قبل أن يستقبل الشوكولاته ويُذيبها، لأجل إعداد المشروب اللذيذ الذى تشتهر به دول أميركا اللاتينية. ومِصداقًا لعنوانها، توشِك عناصر الرواية على الغلَيان طوال الوقت؛ الرغبات المكبوتة والأشواق المضمَرة، هى ما يُشكِّل شُعلةَ الموقِد التى يغلى فوقها كل شيء، درجةَ أن نظرة عاشقٍ أو لمسةً من يد حبيب، قد تبعث حرارةً تكفى لإضرام النار فى المكانبأكمله. لكنْ على الجهة المقابلة، لا نستطيع إغفال انعكاس العنوان على السرد المنساب مثل الماء، والحكايات المغموسةفى مرارة الشوكولاتة وحلاوتها اللاذعة.
>>>
المطبخ هنا هو مركز العالم، فليس الطعام فقط ما يتم تحضيره بداخل المطبخ، بل مصائر البشر وحكاياتهم. بإمكان الطعام الشهيّوالمطبوخ بمحبةٍ صادقة، أن يصنع السعادة وينقل المشاعر عبر قنوات اللذة الحسِّية والروحية، كما باستطاعة الطبخة التى تُصنَع تحت تأثير الغم والحزن أن تُفسِد الحياة وتستجلب المرض والموت؛ إنه عملٌ كيميائى دقيق، بإمكانه أن يُنتِج المتفجرات ويستحضرأسباب الموت، كما بإمكانه أن يؤجِّج العواطف ويثير الشهوات ويستدعى أجمل الذكرايات.
من هنا يأتى استخدام الطبخات المكسيكية التقليدية القديمة كأساس لبناء الرواية، فتبدو فصول الرواية كما لو أنها مقتبسة من كتابٍ للطهي، فالطعام هو صانع الأحداث الرئيسى والدافع الأساسى وراء التحولات، كما يتم ربطُ وصفات الطعام بشهور السنة الميلادية، كأنهاأداة يستخدمها الزمن فى رسم المصائر وصُنعالمفارقات.
«تيتا»، بطلة الرواية، هى الابنة الصغرى لـ «ماما إيلينا»، والمنذورة طبقًا لتقاليد العائلة لخدمة أمها إلى نهاية عمرها، لذا فهى ممنوعة من الزواج والارتباط طالما بقيت «ماما إيلينا» على قيد الحياة. من هنا تتفجَّر مأساة الرواية، فـ «تيتا» تقع فى غرام «بيدرو»، فيما تمنعها التقاليد من إشباعها عشقها بالزواج منه، فيختار بيدرو أن يقبل عرض «ماما إيلينا» ويتزوج من «روساورا»، أخت «تيتا»، فقط ليبقى قريبًا من محبوبته. أما الأخت الكبرى، «جرترودس»، فهى ابنة «ماما إيلينا» من علاقة سرية مع عشيق قديم كانت ترغب فى الهرب معه، ما جعلها تعيش بحرمانها هى الأخرى فوق قمة هذا الهرم النسويّ الذى يُشكِّل قوام الرواية.
يمكن رؤية «ماما إيلينا» وابنتها الصغرى «تيتا» كوجهَين متناقضَين لما ينتج عن ضياع الحب تحت سطوة التقاليد، فالأم تمارس أقصى درجات القسوة والصرامة مع ابنتها الصغرى،حتى تحرمها من الحب وتمنعها من الارتباط، كأنما تُعاقِب العالم على قسوته معها وعلى حِرمانها السابق من حبيبها. أما «تيتا»، وبدعم من مُربِّيتها «ناتشا»، فتفعل العكس؛ إنها تُفرغ مشاعرها المكبوتة فى آنِية الطهي، فتنشر الحب عبر أكلاتها الموروثة والمبتكرة معًا. هى أفضل طاهية عرفها البيت بعد «ماما إيلينا»، غير أن ماما المفجوعة فى حُبِّها القديم، تقوم بالطبخ بالصرامة نفسها التى تُحاصر بها مشاعر ابنتها، أما «تيتا» فتصنع الطعام كأنها تكتب رسالة حب، كأن الطهى سبيلُها لمقاومة الحزن ومجابهة الموت، حتى إنها تُحوِّل دون قصدٍ منها عددًا من مصائر الشخصيات، فقط بتمريرها الدموع أو اللوعة أو الشوق عبر طبخاتها العجيبة.
كلاهما تُمرِّر التقاليد الموروثة للأجيال اللاحقة على طريقتها، ففيما تفرض»ماما إيلينا» تقاليدَ العائلة المحافِظة والمجتمع السلطويّ، التى تكبت العواطف وتسلب الحرية وتصنع الحِرمان، تُشارك «تيتا»مع «ناتشا» فى تمرير تقاليد المطبخ المكسيكى ومذاقاته التى تواكب المناسبات وتصنع الأفراح والأتراح. وبمرور الزمن تذوى التقاليد، ولا يبقى إلا الحب، فكل ما يبقى من «ماما إيلينا» هو هذا الصندوق الذى أخفَت فيه رسائلها السرية لحبيبها القديم، بينما يبقى من «تيتا» وصفاتها الخالدة التى أذابت فيها العواطف المكبوتة والصادقة.
>>>
لذا يُمكن تأمُّل مكونات الطعام هنا كمرادف للعواطف، حيث تتبدَّل خصائصها حين تتعرَّض للقدر الكافى من الحرارة والضغط، كما تصنع باندماجها وصفات تدفع المصائر فى كل اتجاه، وبذلك تصبح النار التى تُنضِج الطعام مرادفًا للشهوة فى عدد من المشاهد، وللَّهفة والهيام فى مشاهد أخرى؛ جميعها نيران يُمكن رؤيتها بالعين واختبارها بالحواس، يمكن أن تصنع غيمةً فى السماء، أو تستدعى حبيبًا مثل «خوان»ليختطف فتاةً مثل «جرترودس»–الأخت الوسطى- ويمارس معها حبَّه الجنونى فوق صهوة حصانه.
من المثير أن نتأمَّل «جرترودس» كحالة استثنائية بين الأخوات الثلاث، لكونها نتاجَ علاقة سرية مطوية فى ماضى «ماما إيلينا»،لذا فالنار تسكنهامنذ البذرة الأولى، حتى تؤجِّجها حرارة الاستحمام ذات يوم فتنطلق عاريةً فى سبيل العشق بلا رادع، وبذلكتتحقَّق عبرها تلكالرغبات المكبوتة لنساء العائلة، كما تتمثل فيها القُدرة على التمرُّد على التقاليد، حتى إنها تتحوَّل لقائد عسكرى يقود كتيبةً من الرجال مع مرور الزمن!فى المقابل تقف «روساورا»، التى تتزوج «بيدرو» برغم معرفتها بعشقه لـ «تيتا»، إذ هى تُمجِّد التقاليد وتُعلى من أهمية الشكل العام فوق كل اعتبار، حتى إنها تحتقن بالغازات المعوية وتموت مُنفجرة من شدة الكبت، فتكتب بذلك نهايةَ المواجهة الصامتة بين تقاليد الطعام، وتقاليد الشكل العام.
وعلى الرغم من تضمين عناصر عديدة تُناقض الواقع الذى نعرفه، فإن إدراج رواية «كالماء للشوكولاتة» تحت تصنيف «الواقعية السحرية» يحُدُّ منها بدرجة ما، ويُضيِّق عليها أفُق التأويل الذى تستحقُّه روايةٌ بهذه الفرادة. فالرواية لا تُضمِّن هذه المفردات السحرية فى عالمهافقط لتصنع الحالة العجائبية التى نشعر بها أثناء القراءة، بل إنها تُعيد رسم العالم من وجهة نظر روحيَّة صرنا لا ننتبه إليها فى غمرة حياتنا اليومية، تراه من بُعْد موازٍ فقدنا اتصالنا به تحت تأثير العلم وقواعد المنطق. تُعيد «كالماء للشوكولاتة» لهذا البُعد الروحيّ والأثيرى زخمَه وقوَّته.حتى الدكتور جون، العلميُّ البارع جدًّا، يُقيم مختبر أبحاثه فى نفس الغرفة التى كانت جدَّتُه تختلى فيها لتمارس اتصالها الروحيّ، فالطبيب يؤمن بمعارف جدَّته وتقاليدها الروحية، بل ويسعى لاستكمالها والبناء عليها عبر اكتشافاته العلمية الجديدة.
>>>
هذه رواية ترى العالم من بُعْد آخر، بُعْد يمكن فيه للنظرة أن تُشعل الشموعَ فى روح الحبيب، يمكن للفسفور الذى يتسلل إلى الجسد عبر الطعام، أن يتحوَّل لكبريت يشتعل ويتوهَّج ثم يذوى وينطفئ. رواية تجعلكَ فى المرة التالية التى تُعِد فيها طعامًا لشخص تُحبُّه، تتأكَّد من أنك تُضمِّن فيه أكبر قدرٍ من المحبة، من حرارة الشوق والعاطفة الصادقة، فهذه الطاقة التى تُضيفها خارج حِسبة السعرات الحرارية المعروفة والمكتوبة على أغلفة المكوِّنات، هى ما يمُدُّ الحياة بالحرارة اللازمة، وما يُزكى العواطف التى ترسم علاقاتنا مع الآخرين.