لفت نظرى بشدة من بين إصدارت الجزويت كتاب « هاملت الجرافيك المصري» للدكتور ياسر منجي، فالكاتب يرفع تراب السنين والظلم والتجاهل الذى أهيل على مدى قرابة سبعين عاما على الفنان الراحل نحميا سعد( 1912 – 1945 )، وهو فنان لمع كشهاب فى سماء مصر وحقق إنجازات وقطع فراسخ فى هذا السبيل قبل أن يرحل وحيدا فى صمت فى إحدى مصحات حلوان متأثرا بالسل، ولم يكن معه فى لحظاته الأخيرة إلا فتاة مجهولة فقيرة كانت تعمل موديل ووقعت فى غرامه وأصرّت أن تكون إلى جانبه وهو يغادر الدنيا.
قصة نحميا سعد ليست فاجعة ميلودرامية على الرغم من اكتمال كل عناصر الميلودراما فيها، لكنها للأسف واقعة حقيقية لواحد يعتبره الكثيرون رائد الطباعة الفنية أو الجرافيك .
بدأ كبيرا، بل متقدما على معاصريه بشدة، فهو أول من نال الميدالية الذهبية لمعرض باريس الدولى عام 1937 وقد كان من أهم الفعاليات الفنية فى النصف الأول من القرن الماضي، ثم وجهّت له الدعوة فى العام التالى لبينالى فينسيا..وبدا المستقبل أمامه مفروشا بالورود.
ولد الفنان عام 1912 فى أسيوط، والتحق بمدرسة الفنون الجميلة عام 1928 أى وهو فى السادسة عشرة من عمره، وتخرج عام 1933 من قسم التصوير، ومع ذلك نبغ فى الجرافيك متتلمذا على يد واحد من كبار فنانى الجرافيك فى العالم، وهو الإنجليزى تشارلز رايس أحد أساتذة المدرسة الذى أمضى فى مصر عشرين عاما. ويُجمع كثير من الفنانين المعاصرين على ريادة نحميا. فالفنان بيكار مثلا، والمعروف بالحيدة والنزاهة المطلقة كتب كثيرا عن ريادة نحميا، وأنه» استطاع أن يجعل من رسومه مقطوعات شعرية بالغة الرقة والعذوبة، وأن يجعل من إيقاعها نغما قدسيا أشبه بترانيم الملائكة».
ويكشف د. منجى عن المظالم التى أصابت نحميا فى مقتل، فعلى الرغم من حصوله على الميدالية الذهبية من معرض باريس عن رسومه التى امتدت على مساحة 30 مترا فى 18 لوحة فى الجناح المصري( وقد فُقدت مثلما ضاعت واختفت كل آثاره ولم ينج إلا أقل القليل وأغلب هذا القليل كان ضمن مجموعات خاصة، استطاع د. منجى التوصل إليها وأورد نسخا منها فى الكتاب). كانت أولى هذه المظالم الإطاحة به بعيدا فى الأقصر بدلا من المنصب المستحق كمدرس فى مدرسة الفنون الجميلة، وتمت محاربته من جانب المتنفذين، ويذكر د.منجى من بينهم الفنان الراحل محمد ناجي، وانتهى به الأمر موظفا فى مصلحة المساحة التى أعلنت عن حاجتها لرسامى خرائط، فتقدم ونجح فى المسابقة بتفوق، وكان يتقاضى بضعة جنيهات أبقته على خط الفقر.
ويشارك كل من الكاتب محمد زكى عبد القادر ومحمد صدقى الجباخنجى وبدر الدين أبو غازى وحسن سليمان، وكلهم مشهود لهم بالنزاهة المطلقة، فى رد الاعتبار لنحميا سعد من خلال مقالاتهم وشهاداتهم التى بذل د.منجى كثيرا من الجهود للوصول إليها.
غاب نحميا بعد ذلك تماما ونسيه الجميع حتى تصدى الراحل الكبير بدر الدين أبو غازى عام 1972، أى بعد رحيل نحميا بسبعة وعشرين عاما لإقامة معرض يضم مانجحت في جمعه جمعية محبى الفنون الجميلة التى كان أبو غازى رئيسها آنذاك من لوحات، وكانت أغلب اللوحات الأصلية وكثير منها تخطيطات واسكتشات غير مكتملة فى حوزة صديق الفنان وهو الأستاذ أحمد جلال الدين رأفت.
وأخير انتظرنا قرابة خمسين عاما بع إقامة المعرض المشار إليه حتى جاء د. ياسر منجى لنستعيد معه ذلك الشهاب الذى ظلمناه طويلا.