قراءة: أحمد الجمَّال
العارفون بالله نشأوا فى مصر، هذا ملخص ما ورد فى 13 لفافة من ورق البردى عمرها 1700 عام، أما الحكاية فترويها آخرساعة فى تقرير نشرته قبل 65 عاماً، حين عثر مزارع صعيدى فى نجع حمادى بمحافظ قنا على جرةٍ فى أرضه الزراعية ولما فتحها لم يجد سوى هذه اللفائف، ليكتشف علماء من ست دول بعد فحصها وترجمة مضمونها سراً خطيراً مفاده أن معرفة الإنسان بالله بدأت من مصر، وأن مصر مهد الرهبنة.. التفاصيل بالكامل نعيد نشرها نصاً فى السطور التالية بتصرف محدود:
بدأت فى هذا الأسبوع عملية حل رموز أوراق البردى التى عثر عليها فلاح فى أرض نجع حمادى (بمحافظة قنا)، فقد عثر العلماء القادمون من ستة بلدان ليشتركوا فى حل طلاسم البردى على حقيقة ضخمة.. إن معرفة الإنسان بالله بدأت فى مصر!
حفنة من العلماء تكتشف سر العارفين بالله!.. جاءوا إلى مصر من أمريكا وفرنسا وهولندا وسويسرا وإنجلترا والنمسا، ليقفوا على السر ويعلنوه للعالم، ومن ورائهم جاءت وكالات الأنباء ومحطات التلفزيون لتنقل للملايين فى أمريكا صورة حية لمناقشات العلماء العشرة.
جرة مصنوعة من الفخار اكتشفها فلاح مصرى كانت السبب فى هذه الضجة، فقد عثر فى بطن الجرة على 13 ملفاً من أوراق البردى عمرها 1700 سنة ومكتوبة بالزعفران، بحروف يونانية وديموطيقية.
وللمرة الأولى فى التاريخ سيقف العالم على حقائق جديدة مذهلة:
< الفلسفات التى كانت تعزى إلى اليونان وأصبحت تعزى إلى الشرق.
< فلسفات العالم التى نقلت عن مصر عبر التاريخ القديم.
< علاقة الإنسان بأخيه ثم بالله، قبل المسيحية وبعدها.
< اللغة الهيروغليفية، وكيف تطوَّرت فى القرن الثالث الميلادى.
< مصر التى تفتح أبواب المعرفة والتعاون مع جميع العلماء.. لا فرق بين فرنسى أو إنجليزى أو مصرى.
فى الجرة كنز
وبعد ذلك سننشر هذه الحقائق المسجّلة على أوراق البردى باللغة المصرية القديمة المكتوبة بها، والتى كانت معروفة فى القرن الثالث الميلادى، ثم تترجم إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ثم إلى العربية.. فما حكاية أوراق البردى التى شغلت علماء العالم؟ وكيف عثر عليها الفلاح المصرى؟ ولماذا اجتمع كل هؤلاء العلماء حولها شهراً كاملاً؟ وما نتيجة دراستها ونشرها؟ وإلى أى حد ستؤثر فى الفلسفات الجديدة؟ ولماذا فتحت مصر ذراعيها، لترحب بعلماء من فرنسا وإنجلترا فى هذا الوقت بالذات؟
لقد كان حدثاً خطيراً فى حياة فلاح من قرية صغيرة بنجع حمادى، حينما عثر على جرةٍ من الفخار مطمورة فى أرضه الزراعية، وظن يومها أنه عثر على كنز من الذهب، وعاش القروى فى حلم لذيذ إلى أن فتح الجرة فوجدها مشحونة بلفائف من أوراق مكتوبة لا يفهم منها حرفاً واحداً.
لقد فكَّر يومها فى حرقها كوقود لتدفئته فى الليل، لكنه تراجع حينما نصحه قريبه فى الحقل أن يعرض الأمر على العُمدة، وكان الأخير أكثر ذكاءً من فلاحه، فأشار عليه بعرض اللفائف للبيع، واقتسم وإياه الغنيمة التى نجت من الحريق بأعجوبة!
وبعد قليل كان نصيب أحدهما، وهو الجزء الأكبر، يُعرض على تاجر عاديات إيطالى فى القاهرة، وأسرع التاجر بشراء الصفقة، وعرضها للبيع باسم مدام اديتارىب الإيطالية.
20 ألف جنيه ثمن اللفائف
وخرج تاجر العاديات الإيطالى يعرض الصفقة على علماء الآثار ويطلب ثمناً قدره 20 ألف جنيه، ويومها عرف الدكتور باهور لبيب مدير المتحف القبطى كل التفصيلات، وعرف أن وراء الصفقة قصة مثيرة، وأن لهذه الأوراق بقية تسربت إلى معهد يونج بسويسرا عن طريق أحد لصوص الآثار الأجانب.. لقد أدرك أنه وقع على كنزٍ ثمين.
ولكن مدير المتحف لم يستطع دفع الثمن، ورفع الأمر إلى المسئولين عن الآثار، وطالب بمعاملة الآثار المخطوطة معاملة الآثار الحجرية، وبإصدار قانون بمصادرتها قبل أن تتسرب إلى الخارج وبأن تكافأ مدام اديتارىب مكافأة مجزية، ولكنها رفعت دعوى عاجلة تطالب بالثمن كاملاً، وكان يؤيدها أحد الوزراء السابقين وهو من المحامين.. وصدر قانون المصادرة فعلاً، وبذلك أصبحت هذه الأوراق ملكاً للدولة، وسارت القضية فى طريقها أمام المحاكم.
دعوة للعلماء
وفى أول أكتوبر الحالى (1956) وافقت وزارة التربية والتعليم على اقتراح مجلس الآثار الأعلى بتكوين لجنة دولية من مصريين وأجانب لدراسة أوراق البردى الجديدة، وكانت الرسائل تصل إلى أقطار الدنيا، وأسماع العلماء فى فرنسا وسويسرا وإنجلترا وأمريكا.
وتلقت مصر ردوداً مختلفة من هؤلاء العلماء ومن الجامعات، وكلها تطلب مزيداً من التفاصيل.. وشهدت قاعة الاجتماعات بالمتحف القبطى بمصر القديمة أول اجتماع من نوعه.. مجموعة من العلماء يمثلون دول أوروبا وأمريكا، ومعهم أربعة من علماء الآثار المصريين الأخصائيين فى اللغة القبطية بالذات وهم يقومون بدراسة أوراق البردى التى كتبت فى أول عهد للمسيحية، وافتتح الدكتور هويبلد الهولندى الجنسية الأستاذ بجامعة أوترخت أول جلسة يشكر حكومة مصر باسمه وباسم زملائه العلماء لأنها أتاحت لهم الفرصة للبحث العلمى البحت، وفى أرض الأحلام.
العارفون بالله
ويفتح العلماء العشرة عيونهم على التفصيلات المثيرة التى تكمن داخل المخطوطات، ويظلون يعملون فى صمت وفى صبر طويل، خلال الجلسات التى استغرقت شهراً كاملاً، والتى انتهت هذا الأسبوع بالوقوف على الحقائق الجديدة عن دنيا التصوف قبل المسيحية وبعدها، وعن فلسفة العارفين بالله.
لقد كانوا لا يعرفون كيف تطوَّرت اللغة الهيروغليفية القديمة فى آخر مراحل حياتها الديموطيقية، للتعبير عن اللغة المصرية، وأن بعض النصوص السوريانية والقبطية واليونانية كانت تؤكد أن أصل فلسفة العارفين بالله التى انتشرت قبل المسيحية، ثم معرفة الإنسان بالله لم تكن سوى فلسفة منبعها اليونان، والآن كشفت لهم المخطوطات البردية - وبالذات ما جاء فيها خاصاً برسالة مصر- حقيقة الموقف، وأكدت لهم بما لا يدع مجالاً للشك أن أصل هذه الفلسفة شرقى بحت، لا كما كان يؤكد العلماء قديماً وينشرون، وأن نشأة التصوف كانت مصرية، مستقاة من طبيعة الصحراء، إلى أن أصبحت مصر مهد الرهبنة، ثم خرجت منها إلى العالم.
ويقول الدكتور مراد كامل، رئيس قسم اللغات الشرقية بكلية آداب القاهرة، عميد مدرسة الألسن، عضو اللجنة المصرى: إن نشأة التصوف قديماً جاءت من طبيعة الصحراء التى كانت تغرى المصريين بالالتجاء إليها كلما أراد الواحد منهم أن ينسى همومه أو ينشد الراحة والعلاج والهدوء بعيداً عن الناس، وأن القدماء كانوا يعتبرون أن التقرب إلى الطبيعة يوصل الإنسان إلى الخالق.
ويستعيد الدكتور مراد ذكرياته عن الفلسفة المصرية ويقول: إن فلسفة العارفين بالله التى كشفت عنها المخطوطات، والفلسفة عامة، كان الأجانب ينكرون فضل مصر عليها، ويتجهون إلى أنها فلسفة يونانية، وبعد أن أثبتت هذه الأوراق الحقيقة نستطيع أن نفتخر بتاريخنا الفلسفى الضارب فى أعماق التاريخ، ونستطيع أن ندرك إلى أى مدى حاول الأجانب القضاء على ثقافة مصر وحضارتها القديمة، ولكنهم لم يفلحوا، إذ إن هذه الحضارة لا يمكن القضاء عليها، بل انطوى عليها أهلها يحفظونها حتى جاء من أبنائها من أتاح لها النشر فى عهدها الجديد.
والطريف أن العلماء الأجانب كانوا يعيشون بعد الانتهاء من أبحاثهم فى أجواء شرقية بحتة.. واحد منهم اسمه الدكتور بويسن، الأستاذ بـاالكليج دى فرانسب، عاش طول مدة إقامته فى مصر، وهو يطلب الملوخية والحمام والكباب والكفتة فى كل وجبات الطعام، وأن العالم الهولندى الأستاذ بجامعة أوترخت الدكتور كويسيل، ما كاد يعرف أن موعد الجلسات قد أوشك على الانتهاء حتى أبرق إلى زوجته الهولندية لتحضر إلى مصر لتزور معه آثارها هذا الأسبوع قبل عودته إلى بلاده.. وجاءت زوجته فعلاً، وقد كانت تعرف خمس لغات معرفة جيدة، وذهب معها إلى الأقصر وأسوان.
ثم ماذا؟
بقى أن نعرف أن اللجنة قد انتهت من وضع قراراتها وأن مناقشاتها كانت تبلغ حداً عنيفاً حينما كان يطالب بعض العلماء الأجانب بنقل المخطوطات إلى الخارج، وأن من بين هذه القرارات أن تتعهد هولندا بطبع المخطوط.. وأن ذلك العمل سوف يستغرق نحو عشر سنوات كاملة، وأن الطبع سيبدأ بعد الحصول على نسخة مصوّرة لكل ورقة، تُنقل إلى الخارج لتعد للطبع أولا بأول حتى تخرج كلها إلى النور.