«15 ب شارع نوبار» هنا كان الوحي يزور صلاح عبد الصبور وصلاح جاهين وعبد الرحمن الخميسي

حسن عبد الموجود يكتب .. عمارة الشعراء

عمارة الشعراء
عمارة الشعراء

‮«‬15‭ ‬ب‭ ‬شارع‭ ‬نوبار‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬عنواناً‭ ‬عادياً،‭ ‬وإنما‭ ‬عنوان‭ ‬لثلاثة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬شعراء‭ ‬مصر‭. ‬كان‭ ‬الوحي‭ ‬يهبط‭ ‬ليوزع‭ ‬حصصه‭ ‬على‭ ‬الشعراء‭ ‬الثلاثة،‭ ‬فوفروا‭ ‬عليه‭ ‬عناء‭ ‬التحليق‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬وأصبح‭ ‬بمقدوره‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬واحدة،‭ ‬من‭ ‬شقة‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الأول،‭ ‬إلى‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين‭ ‬في‭ ‬الثاني،‭ ‬إلى‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور‭ ‬في‭ ‬الخامس‭.‬

هذه‭ ‬العمارة‭ ‬تلخص‭ ‬عدَّة‭ ‬عقود‭ ‬مصرية‭. ‬بناها‭ ‬ببذخ‭ ‬شديد‭ ‬أحمد‭ ‬باشا‭ ‬القرشي،‭ ‬عضو‭ ‬مجلس‭ ‬الشيوخ‭ ‬أيام‭ ‬الملك،‭ ‬وتعد‭ ‬تحفة‭ ‬معمارية‭ ‬بأعمدتها‭ ‬وبمدخلها‭ ‬الواسع‭ ‬وواجهتها‭ ‬الجميلة‭ ‬وأساسها‭ ‬المتين،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قامت‭ ‬الثورة‭ ‬بالتأميمات‭ ‬فانتزعت‭ ‬شركة‭ ‬التأمين‭ ‬الأهلية‭ ‬ملكيتها‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬عبد‭ ‬الناصر،‭ ‬وفتحت‭ ‬مكتباً‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬شقة‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي،‭ ‬ومنذ‭ ‬فترة‭ ‬رفع‭ ‬ورثة‭ ‬الباشا‭ ‬قضية‭ ‬لاستعادة‭ ‬ملكية‭ ‬هذه‭ ‬العمارة،‭ ‬كأن‭ ‬التاريخ‭ ‬يعيد‭ ‬سيرته‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬من‭ ‬الباشوية‭ ‬إلى‭ ‬الناصرية‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬المكاسب‭ ‬الاجتماعية‭ ‬إلى‭ ‬المطالبة‭ ‬باستعادة‭ ‬الباشوية‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭. ‬

في‭ ‬نهايات‭ ‬عهد‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬عندما‭ ‬خفت‭ ‬صوت‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬كتب‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور‭ ‬قصيدته‭: ‬‮«‬الظل‭ ‬والصليب‮»‬‭ ‬ليعبِّر‭ ‬عن‭ ‬ضجر‭ ‬ويأس‭ ‬وحزن‭ ‬وقلق‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المصريين،‭ ‬إذ‭ ‬قال‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬زمان‭ ‬السأم‮»‬‭. ‬

تجاور‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العمارة‭ ‬الماركسي‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي،‭ ‬مع‭ ‬الناصري‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين،‭ ‬مع‭ ‬الوجودي‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور،‭ ‬كما‭ ‬تجاور‭ ‬فيها‭ ‬تاريخ‭ ‬الملكية،‭ ‬مع‭ ‬تاريخ‭ ‬بواكير‭ ‬الثورة،‭ ‬مع‭ ‬تاريخ‭ ‬خفوتها،‭ ‬وتجاور‭ ‬فيها‭ ‬تاريخ‭ ‬شعر‭ ‬الفصحى‭ ‬مع‭ ‬تاريخ‭ ‬شعر‭ ‬العامية،‭ ‬وكان‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الجيران‭ ‬الثلاثة‮»‬‭: ‬الإنسانية‭ ‬وحب‭ ‬الناس‭ ‬والحياة‭ ‬وإيمانهم‭ ‬بالقضية‭ ‬الوطنية‭ ‬رغم‭ ‬اختلاف‭ ‬نزعاتهم‭. ‬كان‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬يطرق‭ ‬باب‭ ‬جاهين‭ ‬باستمرار،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قابله‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬بالصدفة‭ ‬في‭ ‬مدخل‭ ‬العمارة‭ ‬وتعرف‭ ‬عليه‭ ‬ونشأت‭ ‬قصة‭ ‬صداقة‭ ‬بين‭ ‬صبي‭ ‬في‭ ‬مقتبل‭ ‬حياته‭ ‬وشاعر‭ ‬معروف‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الأدب‭ ‬والصحافة‭ ‬والفن،‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬وصفا‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬‮«‬حياة‭ ‬رجراجة‮»‬‭ ‬لوصف‭ ‬تلك‭ ‬الحيوية‭ ‬التي‭ ‬ميَّزت‭ ‬جاهين‭ ‬صاحب‭ ‬الجسد‭ ‬والقلب‭ ‬الهائلين،‭ ‬أما‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور‭ ‬فبدا‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬شعاع‭ ‬خافت‭ ‬لشمس‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬غروب‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬وصفاً‭ ‬لأبيه‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬‮«‬حياة‭ ‬متوثبة،‭ ‬وهو‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬وصف‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الاهرام‭ ‬حين‭ ‬توفي‭ ‬في‭ ‬أبريل‭ ‬‮١٩٨٧‬‭: ‬لا‭ ‬كان‭ ‬فمه‭ ‬مفتوحاً‭ ‬علي‭ ‬أخره،‭ ‬مستعداً‭ ‬لابتلاع‭ ‬الحياة‭ ‬كلها‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬طعام‭ ‬وشراب‭ ‬وجمال‭ ‬‮»‬‭.‬

كان‭ ‬الشعراء‭ ‬الثلاثة‭ ‬الكبار‭ ‬جيراناً‭ ‬في‭ ‬العمارة‭ ‬وعلى‭ ‬صفحات‭ ‬الجرائد‭ ‬والمجلات‭. ‬لم‭ ‬يلتقوا‭ ‬كثيراً،‭ ‬لكن‭ ‬هناك‭ ‬بعض‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬ربطتهم‭ ‬معاً،‭ ‬عبد‭ ‬الصبور‭ ‬الموظف‭ ‬رفيع‭ ‬المستوى‭ ‬اصطحب‭ ‬الصبي‭ ‬حينذاك‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬بسيارته‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬هيئة‭ ‬الكتاب‭. ‬بهاء‭ ‬جاهين‭ ‬الطفل‭ ‬الانطوائي‭ ‬كان‭ ‬يرفض‭ ‬اللعب‭ ‬مع‭ ‬الخميسي‭ ‬وأخوته‭. ‬والدة‭ ‬الخميسي‭ ‬كانت‭ ‬موظفة‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬الكتاب‭ ‬وكانت‭ ‬تلتقي‭ ‬بعبد‭ ‬الصبور‭ ‬بحكم‭ ‬أنه‭ ‬أصبح‭ ‬رئيس‭ ‬هيئة‭. ‬كانت‭ ‬تحكي‭ ‬لابنها‭ ‬عن‭ ‬بساطة‭ ‬الشاعر‭ ‬وتواضعه‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬ومع‭ ‬الموظفين‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭. ‬صارت‭ ‬عمارة‮«‬15‭ ‬ب‭ ‬شارع‭ ‬نوبار‮»‬‭ ‬محطة‭ ‬من‭ ‬محطاتهم‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬إذ‭ ‬سكن‭ ‬ثلاثتهم‭ ‬في‭ ‬شقق‭ ‬وبيوت‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬أحياء‭ ‬بعيدة،‭ ‬وتركوا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬أرواحهم‭ ‬وحكاياتهم‭. ‬وكانت‭ ‬العمارة‭ ‬خشبة‭ ‬مسرح‭ ‬لجمهور‭ ‬ومثقفي‭ ‬وسط‭ ‬البلد‭. ‬كان‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانين‭ ‬يأتون‭ ‬إلى‭ ‬شقة‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬ثم‭ ‬ينطلقون‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬الرزق‭ ‬والشهرة‭ ‬وليصبحوا‭ ‬أبطالاً‭ ‬في‭ ‬قصص‭ ‬واقعية‭ ‬شديدة‭ ‬الغرابة،‭ ‬لكن‭ ‬غربتهم‭ ‬لا‭ ‬تطول‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬الخارج،‭ ‬فالشقة‭ ‬تناديهم‭ ‬والعمارة‭ ‬تفتح‭ ‬بابها‭ ‬لاحتضانهم‭. ‬عمارة‭ ‬الشعراء‭ ‬والأحلام‭ ‬والأيام‭ ‬الجميلة‭. ‬

باب‭ ‬لا‭ ‬يُغلق

لم‭ ‬يكن‭ ‬باب‭ ‬شقة‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي‭ ‬يُقفل‭ ‬بالمعنى‭ ‬الحرفي‭ ‬للكلمة‭. ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬غريب‭ ‬مُرحَّب‭ ‬به‭. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬الباب‭ ‬مفتوح‭ ‬لا‭ ‬يطرق‭. ‬يدخل‭ ‬مباشرة‭ ‬ويجد‭ ‬كثيرين‭ ‬يرحِّبون‭ ‬به،‭ ‬ولا‭ ‬يعلم‭ -‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭- ‬أن‭ ‬من‭ ‬يرحِّبون‭ ‬به‭ ‬غرباء‭ ‬مثله‭. ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬الطفل‭ ‬نفسه‭ ‬ابن‭ ‬صاحب‭ ‬الشقة‭ ‬كان‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬ويجد‭ ‬أشخاصاً‭ ‬لا‭ ‬يعرفهم،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬الغرباء‭ ‬كانوا‭ ‬يصيحون‭ ‬به‭ ‬حين‭ ‬يشاهدونه‭ ‬على‭ ‬الباب‭: ‬‮«‬يا‭ ‬أهلاً‭.. ‬اتفضل‭ ‬اتفضل‮»‬‭ ‬كأنهم‭ ‬هم‭ ‬أصحاب‭ ‬المكان،‭ ‬وكان‭ ‬هذه‭ ‬طبيعياً،‭ ‬فبخلاف‭ ‬أصدقاء‭ ‬أبيه‭ ‬وأمه،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬أصدقاء‭ ‬أخوته‭ ‬الخمسة‭ ‬‭(‬ضياء‭ ‬وفتحي‭ ‬وعزة‭ ‬وعائشة‭ ‬ومنى‭)‬،‭ ‬وأصدقاء‭ ‬أصدقائهم،‭ ‬وربما‭ ‬جيرانهم،‭ ‬أو‭ ‬معارفهم‭ ‬ممن‭ ‬يأتون‭ ‬ليبيتوا‭ ‬في‭  ‬الشقة‭. ‬

والدة‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬‮«‬الكاتب‭ ‬العربي‮»‬‭ (‬هيئة‭ ‬الكتاب‭ ‬حالياً‭) ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬النشر‭ ‬للشبان‭. ‬عادت‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬وقالت‭ ‬له‭: ‬‮«‬يا‭ ‬أحمد‭ ‬أنا‭ ‬جالي‭ ‬شاب‭ ‬طيب‭ ‬ولطيف‭ ‬للغاية‭ ‬ومعه‭ ‬شوال‭ ‬قصص،‭ ‬عنده‭ ‬15‭ ‬سنة‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬تشأ‭ ‬أن‭ ‬تكسر‭ ‬خاطره،‭ ‬فأخبرته‭ ‬أن‭ ‬ابنها‭ ‬أحمد‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬عمره‭ ‬تقريباً‭ ‬و‭ ‬يكتب‭ ‬‭(‬وبتعبيرها‭ ‬يعك‭) ‬القصص‭ ‬مثله،‭ ‬ثم‭ ‬منحته‭ ‬عنوان‭ ‬الشقة‭ ‬طالبة‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬ليتعرَّف‭ ‬عليه‭. ‬جاء‭ ‬جمال‭ ‬الغيطاني‭ ‬في‭ ‬السادسة‭ ‬مساء‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬وكانت‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬يقع‭ ‬فيها‭ ‬نظر‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشاب‭ ‬النحيف‭. ‬وجدوه‭ ‬شخصاً‭ ‬مريحاً‭ ‬وطيِّباً‭ ‬فأحبوه‭ ‬جميعاً،‭ ‬وساعده‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي‭ ‬في‭ ‬الالتحاق‭ ‬بعمل‭. ‬يشير‭ ‬أحمد‭ ‬إلى‭ ‬كرسي‭ ‬في‭ ‬الركن‭ ‬ويقول‭ ‬إن‭ ‬جمال‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الكرسي‭ ‬دائماً‭. ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وكان‭ ‬مزاجه‭ ‬رائقاً‭ ‬التفوا‭ ‬حول‭ ‬جمال‭ ‬فراح‭ ‬يغني‭ ‬‮«‬متحسبوش‭ ‬يا‭ ‬بنات‭ ‬إن‭ ‬الجواز‭ ‬راحة‮»‬،‭ ‬وضحك‭ ‬وضحكوا‭ ‬وهم‭ ‬يرددون‭ ‬المقطع‭ ‬خلفه‭. ‬

كانت‭ ‬لدى‭ ‬الغيطاني‭ ‬رغبة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬الخميسي‭ ‬الصغير‭ ‬في‭ ‬الذيوع‭ ‬الأدبي،‭ ‬ولديه‭ ‬حماس‭ ‬بالغ‭ ‬في‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬الأدباء‭ ‬الكبار،‭ ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬أحمد‭ ‬ذات‭ ‬صباح‭ ‬أن‭ ‬يذهبا‭ ‬لمقابلة‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭. ‬فقال‭ ‬الخميسي‭ ‬بدهشة‭: ‬‮«‬محفوظ‭ ‬مرة‭ ‬واحدة؟‭!‬‮»‬‭. ‬الغيطاني‭ ‬أعد‭ ‬العدة‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬رصد‭ ‬خط‭ ‬سير‭ ‬محفوظ،‭ ‬وقال‭ ‬لأحمد‭: ‬‮«‬إنه‭ ‬يخرج‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬بيته‭ ‬على‭ ‬النيل‭ ‬ويسير‭ ‬فوق‭ ‬كوبري‭ ‬قصر‭ ‬النيل‭ ‬حتى‭ ‬ماسبيرو،‭ ‬لأنه‭ ‬يعمل‭ ‬مستشاراً‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭ ‬والتلفزيون‮»‬‭. ‬كانت‭ ‬الخطة‭ ‬أن‭ ‬ينصبا‭ ‬كميناً‭ ‬في‭ ‬الثامنة‭ ‬صباحاً‭ ‬لحظة‭ ‬عبور‭ ‬محفوظ‭ ‬على‭ ‬الكوبري،‭ ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يتأخر‭ ‬أبداً،‭ ‬فقد‭ ‬فاجأه‭ ‬الاثنان‭ ‬في‭ ‬الموعد،‭ ‬وأشهر‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬ووضعاها‭ ‬في‭ ‬يده‭. ‬رحب‭ ‬الأستاذ‭ ‬العظيم‭ ‬بهما‭ ‬كعادته‭ ‬مع‭ ‬الناس،‭ ‬خاصة‭ ‬وقد‭ ‬رآهما‭ ‬في‭ ‬مقتبل‭ ‬العمر،‭ ‬وأخبراه‭ ‬أنهما‭ ‬سيأتيان‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المكان‭ ‬على‭ ‬الكوبري‭ ‬ليعرفا‭ ‬رأيه‭ ‬في‭ ‬القصتين‭.‬

انتظرا‭ ‬الإشادة‭ ‬وحصلا‭ ‬عليها‭. ‬قال‭ ‬محفوظ‭ ‬للخميسي‭ ‬الصغير‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬قرأت‭ ‬قصتك‭ ‬يا‭ ‬أحمد‭ ‬ولو‭ ‬هناك‭ ‬درجات‭ ‬سأقيِّمها‭ ‬9‭ ‬من‭ ‬10،‭ ‬وقرأت‭ ‬قصتك‭ ‬يا‭ ‬جمال‭ ‬وهي‭ ‬قصة‭ ‬جميلة‭ ‬ولطيفة‭ ‬ولو‭ ‬هناك‭ ‬درجات‭ ‬سأمنحها‭ ‬9‭ ‬من‭ ‬10‮»‬‭. ‬فرح‭ ‬الخميسي‭ ‬جداً‭ ‬يومها‭ ‬لكن‭ ‬فرحته‭ ‬لم‭ ‬تدم‭ ‬طويلاً‭ ‬إذ‭ ‬عرف‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬الأستاذ‭ ‬العظيم‭ ‬يجامل‭ ‬‮«‬طوب‭ ‬الأرض‮»‬‭ ‬تشجيعاً‭ ‬للجميع،‭ ‬وأنه‭ ‬لهذا‭ ‬لم‭ ‬ينتقدهما‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬ينتقد‭ ‬غيرهما،‭ ‬يحدوه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬حرصه‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يُحطِّم‭ ‬بالصرامة‭ ‬قلماً‭ ‬شاباً‭. ‬يحكي‭ ‬الخميسي‭: ‬‮«‬قرأت‭ ‬الثلاثية‭ ‬وفتنتني‭.‬‭ ‬دلَّني‭ ‬يحيى‭ ‬الطاهر‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬جلسة‭ ‬الروائي‭ ‬العظيم‭ ‬في‭ ‬الأوبرا،‭ ‬فترددت‭ ‬عليه‭. ‬لكنه،‭ ‬ربما‭ ‬لمدة‭ ‬عامين‭ ‬لم‭ ‬ينطق‭ ‬بأي‭ ‬كلمة‭ ‬مفيدة‭ ‬أبداً‭ ‬أمامنا‭. ‬وجدته‭ ‬ينطق‭ ‬ببضع‭ ‬كلمات،‭ ‬وأحياناً‭ ‬يسألنا‭ ‬رأينا‭ ‬عن‭ ‬أمور‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬أو‭ ‬المجتمع‭. ‬مثلاً‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬‮«‬اللص‭ ‬والكلاب‮»‬،‭ ‬ظل‭ ‬يسألنا‭ ‬كلما‭ ‬جلسنا‭ ‬معه‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نكتب‭ ‬حادثة‭ ‬محمود‭ ‬سليمان‭ ‬سفاح‭ ‬الإسكندرية‭ ‬أدبياً؟‭ ‬وطبعاً‭ ‬لم‭ ‬ننطق‭ ‬أمامه‭ ‬بأي‭ ‬شيء‭ ‬مفيد،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬أسئلته‭ ‬البسيطة‭ ‬والاستماع‭ ‬إلى‭ ‬إجاباتنا‭ ‬الساذجة‭ ‬وبعدها‭ ‬بأربعة‭ ‬أو‭ ‬خمسة‭ ‬أشهر‭ ‬أصدر‭ ‬رواية‭ ‬اللص‭ ‬والكلاب‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1966‭ ‬طلب‭ ‬الغيطاني‭ ‬من‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬أن‭ ‬يذهبا‭ ‬سوياً‭ ‬إلى‭ ‬ثروت‭ ‬أباظة‭ ‬لينشرا‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬القصة‮»‬‭. ‬كان‭ ‬أباظة‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭ ‬الفعلي‭ ‬من‭ ‬الباطن‭ ‬بينما‭ ‬الاسم‭ ‬الموضوع‭ ‬كرئيس‭ ‬تحرير‭ ‬على‭ ‬المجلة‭ ‬هو‭ ‬محمود‭ ‬تيمور‭. ‬الرجل‭ ‬البواب‭ ‬ظن‭ ‬أنهما‭ ‬قريبان‭ ‬لأباظة،‭ ‬فحداثة‭ ‬سنهما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أبداً‭ ‬أن‭ ‬تنبئ‭ ‬بأنهما‭ ‬كاتبان،‭ ‬وفعلاً‭ ‬سمعاه‭ ‬يقول‭ ‬له‭: ‬‮«‬يا‭ ‬ثروت‭ ‬بيه‭ ‬فيه‭ ‬اتنين‭ ‬أولاد‭ ‬قرايبك‮»‬‭.‬نظر‭ ‬إليهما‭ ‬ثروت‭ ‬أباظة‭ ‬بدهشة‭ ‬لكنه‭ ‬عاملها‭ ‬بشكل‭ ‬لطيف‭. ‬قرأ‭ ‬القصص‭ ‬في‭ ‬وجودهما،‭ ‬ثم‭ ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬الخميسي‭ ‬لينبهه‭ ‬إلى‭ ‬خطورة‭ ‬اللهجة‭ ‬العامية‭ ‬التي‭ ‬يستخدمها‭ ‬في‭ ‬الحوار‭. ‬نطق‭ ‬أمامه‭ ‬بكلمة‭ ‬عامية‭ ‬من‭ ‬القصة‭ ‬وسأله‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬معناها‭ ‬بالليبية،‭ ‬فهز‭ ‬الخميسي‭ ‬رأسه‭ ‬بمعنى‭: ‬لا،‭ ‬فأخبره‭ ‬أباظة‭ ‬أن‭ ‬معنى‭ ‬الكلمة‭ ‬سيئ‭ ‬جدا‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬ونصحه‭ ‬بأن‭ ‬يستخدم‭ ‬كلمة‭ ‬أخرى‭ ‬بدلاً‭ ‬منها‭. ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬اللغة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وأننا‭ ‬لا‭ ‬نكتب‭ ‬لقراء‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬فقط،‭ ‬وأن‭ ‬للمجلة‭ ‬جمهوراً‭ ‬واسعاً‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية،‭ ‬وغادر‭ ‬الاثنان‭ ‬بعدها‭ ‬بانطباع‭ ‬جيد،‭ ‬وأصبح‭ ‬الانطباع‭ ‬ممتازاً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نشر‭ ‬القصتين‭ ‬معاً‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬عدد‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬كان‭ ‬لأحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬ابن‭ ‬عم‭ ‬يدرس‭ ‬في‭ ‬معهد‭ ‬الخدمة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بجاردن‭ ‬سيتي،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬زملائه‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬صلاح‭ ‬عيسى‭ ‬وصبري‭ ‬حافظ‭ ‬وأنيس‭ ‬البياع،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬اليوم‭ ‬الدراسي‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬يأتون‭ ‬إلى‭ ‬شقة‭ ‬الخميسي‭ ‬ليستريحوا‭ ‬جميعاً،‭ ‬وهكذا‭ ‬تعرف‭ ‬الغيطاني‭ ‬على‭ ‬صلاح‭ ‬عيسى‭. ‬يقول‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭: ‬‮«‬صلاح‭ ‬عيسى‭ ‬بالمناسبة‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬فتح‭ ‬أبواب‭ ‬التاريخ‭ ‬للغيطاني‭ ‬ولنا‭. ‬كنا‭ ‬نذهب‭ ‬إليه‭ ‬أنا‭ ‬والغيطاني،‭ ‬في‭ ‬شقته‭ ‬بالقرب‭ ‬منا‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬متفرع‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬خيرت،‭ ‬وهناك‭ ‬شاهدت‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬صور‭ ‬مصطفى‭ ‬النحاس،‭ ‬وسعد‭ ‬زغلول،‭ ‬وكان‭ ‬كل‭ ‬زعماء‭ ‬ثورة‭ ‬19‭ ‬خارج‭ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬ندرسه،‭ ‬وصلاح‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬لفت‭ ‬نظر‭ ‬الغيطاني‭ ‬لابن‭ ‬إياس‭ ‬والجبرتي‭ ‬وهذا‭ ‬الباب‭ ‬بالكامل‭ ‬من‭ ‬مدوِّني‭ ‬التاريخ‭ ‬العظماء،‭ ‬واكتشفنا‭ ‬أن‭ ‬عيسى‭ ‬الذي‭ ‬يكبرنا‭ ‬بحوالي‭ ‬تسعة‭ ‬أعوام‭ ‬يكتب‭ ‬القصة‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‮»‬‭. ‬

حينما‭ ‬اعتقل‭ ‬جمال‭ ‬في‭ ‬1966‭ ‬تصور‭ ‬الخميسي‭ ‬أنه‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬شيئاً،‭ ‬وقرر‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬الغيطاني‭ ‬في‭ ‬درب‭ ‬الطبلاوي،‭ ‬ولأنه‭ ‬يخشى‭ ‬الاعتقال‭ ‬مثل‭ ‬أقرانه‭ -‬في‭ ‬هذا‭ ‬التوقيت‭- ‬استقل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أتوبيس‭ ‬طوال‭ ‬الطريق،‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬التمويه،‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬والدة‭ ‬جمال،‭ ‬وقال‭ ‬لها‭ ‬إنها‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تخبِّئ‭ ‬أوراق‭ ‬ابنها‭. ‬يحكي‭: ‬‮«‬كان‭ ‬لديّ‭ ‬تصور‭ ‬ساذج‭ ‬أن‭ ‬الغيطاني‭ ‬يملك‭ ‬أوراقاً‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬أحدهم،‭ ‬فالمباحث‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تهجم‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وقد‭ ‬يشكل‭ ‬هذا‭ ‬خطراً‭ ‬شديداً‭ ‬عليه،‭ ‬واصطحبتني‭ ‬إلى‭ ‬دولابه،‭ ‬وفرزنا‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وأخذت‭ ‬هي‭ ‬الأوراق‭ ‬وأحرقتها‭ ‬أمامي‭. ‬علاقتي‭ ‬استمرت‭ ‬بالغيطاني‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نقله‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمود‭ ‬أمين‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬دار‭ ‬أخبار‭ ‬اليوم‭. ‬علاقتي‭ ‬به‭ ‬فيها‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الطفولة،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬السهولة‭ ‬أن‭ ‬أفقده‭ ‬أبداً،‭ ‬أو‭ ‬يسرقه‭ ‬منى‭ ‬النسيان‮»‬‭. ‬

يتذكر‭ ‬الخميسي‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الوجوه‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭. ‬كان‭ ‬أنيس‭ ‬البياع‭ ‬يكتب‭ ‬الشعر،‭ ‬وكانت‭ ‬القافية‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬تنتهي‭ ‬بحرف‭ ‬الكاف،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الخميسي‭ ‬معجباً‭ ‬بما‭ ‬يسمعه،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬البيَّاع‭ ‬يردد‭ ‬كل‭ ‬بضعة‭ ‬سطور‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬أشكرَك‮»‬‭ ‬فردد‭ ‬الخميسي‭ ‬بصوت‭ ‬عالٍ‭ ‬خلفه‭: ‬‮«‬عفريت‭ ‬ينقرَك‮»‬،‭ ‬وقهقه‭ ‬صلاح‭ ‬عيسى‭ ‬وقال‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬جملته‭ ‬تعبِّر‭ ‬عن‭ ‬رأيه‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬أيضاً‭. ‬يتذكر‭ ‬كذلك‭ ‬الأبنودي‭ ‬الذي‭ ‬سكن‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬بميدان‭ ‬التحرير‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬من‭ ‬قنا‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬كان‭ ‬يتردد‭ ‬عليهم‭ ‬في‭ ‬نوبار‭ ‬كذلك،‭ ‬وكلما‭ ‬صدرت‭ ‬أسطوانة‭ ‬بأغنية‭ ‬كتبها‭ ‬يُحضِرها‭ ‬ويضعها‭ ‬في‭ ‬‮«‬الجرامفون‮»‬‭ ‬ليسمعوها‭ ‬سوياً،‭ ‬ومنها‭ ‬أغنية‭ ‬شادية‭ ‬‮«‬طاب‭ ‬واستوى‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬يحيى‭ ‬الطاهر‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬فكان‭ ‬شبه‭ ‬مقيم‭ ‬في‭ ‬الشقة،‭ ‬بينما‭ ‬احتل‭ ‬عبد‭ ‬الرحيم‭ ‬منصور‭ ‬غرفة‭ ‬الخميسي‭ ‬الصغير،‭ ‬وأخذ‭ ‬مكانه‭. ‬لو‭ ‬رآه‭ ‬أحدهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬لشعر‭ ‬أن‭ ‬الخميسي‭ ‬وأخوته‭ ‬ضيوف‭ ‬على‭ ‬عبد‭ ‬الرحيم‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬القاهرة‭ ‬بعد‭ ‬استقرار‭ ‬الأبنودي‭ ‬بخمس‭ ‬سنوات،‭ ‬وأخذ‭ ‬نفس‭ ‬مساره‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر‭ ‬والأغاني،‭ ‬وشاع‭ ‬عنه‭ ‬أنه‭: ‬‮«‬جاي‭ ‬شايل‭ ‬قفص‭ ‬لهجة‮»‬‭. ‬يحكي‭ ‬الخميسي‭: ‬‮«‬تزوج‭ ‬عبد‭ ‬الرحيم‭ ‬منصور‭ ‬ابن‭ ‬الأعوام‭ ‬الخمسة‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬العرائس،‭ ‬تجاوزت‭ ‬الستين‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬وسكن‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬شقتها‭ ‬بشارع‭ ‬خيرت‭. ‬ثم‭ ‬اختلفا‭ ‬فتركها‭ ‬وجاء‭ ‬ليعيش‭ ‬معنا‭. ‬عاش‭ ‬عندنا‭ ‬لمدة‭ ‬ثلاثة‭ ‬شهور‭ ‬لا‭ ‬يغادر‭ ‬المكتب،‭ ‬وأنا‭ ‬شعرت‭ ‬بالغيظ‭ ‬الشديد‭. ‬أنا‭ ‬لست‭ ‬كاتباً‭ ‬كبيراً،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬مكتبي،‭ ‬وقلت‭ ‬له‭: ‬دعنا‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬وخلينا‭ ‬في‭ ‬حقوق‭ ‬الملكية‭. ‬أنا‭ ‬أريد‭ ‬مكتبي‭. ‬دعنا‭ ‬نستخدمه‭ ‬سوياً،‭ ‬يوم‭ ‬لك‭ ‬ويوم‭ ‬لي‭. ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يأبه‭. ‬يستيقظ‭ ‬فيصيح‭ ‬بصوت‭ ‬عالٍ‭ ‬طالباً‭ ‬الإفطار،‭ ‬ثم‭ ‬دور‭ ‬الشاي‭ ‬الأول‭ ‬فالثاني،‭ ‬ثم‭ ‬يهرش‭ ‬شعره‭ ‬ويغلق‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬المكتب‭ ‬ليكتب‭. ‬كنت‭ ‬أقول‭ ‬لنفسي‭: ‬أنا‭ ‬أيضاً‭ ‬كاتب‭ ‬وأريد‭ ‬مكتبي‭. ‬ظل‭ ‬معنا‭ ‬حتى‭ ‬سارت‭ ‬أموره‭ ‬مع‭ ‬الأغنية‭ ‬كما‭ ‬يجب،‭ ‬وقابلته‭ ‬بالصدفة‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬طلعت‭ ‬حرب‭ ‬يقود‭ ‬سيارة‭ ‬طولها‭ ‬ستة‭ ‬أمتار‭. ‬هبط‭ ‬منها‭ ‬فاندهشت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الثراء‭ ‬وتلك‭ ‬النعمة‭ ‬وتصافحنا‭ ‬وجلسنا‭ ‬على‭ ‬مقهى‭ ‬نتذكر‭ ‬الماضي‮»‬‭.‬

الأبنودي‭ ‬حضر‭ ‬مرات‭ ‬قليلة‭ ‬إلى‭ ‬عمارة‭ ‬نوبار‭ ‬وبادله‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬الزيارة‭ ‬في‭ ‬شقته‭ ‬بالتحرير،‭ ‬وقد‭ ‬شهد‭ ‬الخميسي‭ ‬الضجة‭ ‬التي‭ ‬أحدثها‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬الأرض‭ ‬والعيال‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬وسط‭ ‬أجواء‭ ‬من‭ ‬الصمت‭ ‬الناصري‭. ‬شِعْر‭ ‬فيه‭ ‬حرارة‭ ‬واحتجاج‭ ‬وغضب‭.‬

اعتقل‭ ‬الأبنودي‭ ‬وإبراهيم‭ ‬فتحي‭ ‬والغيطاني‭ ‬عام‭ ‬1966‭ ‬فأصبح‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬بطلاً‭ ‬لقصة‭ ‬غريبة‭ ‬جداً‭. ‬أيامها‭ ‬كان‭ ‬يحيى‭ ‬الطاهر‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬هارباً،‭ ‬لم‭ ‬يعتقل،‭ ‬ويرفض‭ ‬أن‭ ‬يقابل‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬باستثناء‭ ‬الخميسي‭. ‬وكان‭ ‬يحيي‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬يراه‭ ‬يستحلفه‭ ‬ويوصيه‭ ‬بصرامة‭ ‬ألا‭ ‬يخبر‭ ‬عطيات‭ ‬الأبنودي‭ ‬أبداً‭ ‬بمكانه‭. ‬يحكي‭: ‬‮«‬كانت‭ ‬حينما‭ ‬تقابلني‭ ‬تخبرني‭ ‬أنها‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تُرسل‭ ‬ملابس‭ ‬ثقيلة‭ ‬ليحيى،‭ ‬وكنت‭ ‬أقسم‭ ‬لها‭ ‬كاذباً‭ ‬طبعاً‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬مكانه‭. ‬طاهر‭ ‬عبد‭ ‬الحكيم‭ ‬عنده‭ ‬كتاب‭ ‬جزم‭ ‬فيه‭ ‬بأنها‭ ‬أرادت‭ ‬أن‭ ‬تتقرب‭ ‬إلى‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية،‭ ‬لأنها‭ ‬ظنت‭ ‬أنها‭ ‬بذلك‭ ‬ستساهم‭ ‬في‭ ‬الإفراج‭ ‬عن‭ ‬الأبنودي‭ ‬بسرعة،‭ ‬وقد‭ ‬حذَّرها‭ ‬طاهر‭ ‬عبد‭ ‬الحكيم‭ ‬وطلب‭ ‬منها‭ ‬ألا‭ ‬تستسلم‭ ‬لهذا‭ ‬الخداع،‭ ‬وحينما‭ ‬قررت‭ ‬أخبار‭ ‬الأدب‭ ‬عمل‭ ‬ملف‭ ‬عن‭ ‬يحيى‭ ‬الطاهر‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬الغيطاني‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬تلك‭ ‬الواقعة‭. ‬ذكَّرني‭ ‬بأنني‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أقابل‭ ‬يحيى‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬وكتبت‭ ‬في‭ ‬أخبار‭ ‬الأدب‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يرتعش‭ ‬ذعراً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬عطيات‭ ‬مكانه‭. ‬بعد‭ ‬الإفراج‭ ‬عنهم‭ ‬أخبروني‭ ‬أن‭ ‬إحدى‭ ‬قدميَّ‭ ‬كانت‭ ‬داخل‭ ‬المعتقل‭ ‬والأخرى‭ ‬خارجه،‭ ‬فقد‭ ‬سألوهم‭ ‬جميعاً‭ ‬عني،‭ ‬فقالوا‭ ‬لهم‭ ‬إنني‭ ‬مجرد‭ ‬شاب‭ ‬يكتب‭ ‬القصة‭ ‬وليس‭ ‬لي‭ ‬علاقة‭ ‬بالسياسة،‭ ‬وبعد‭ ‬خروج‭ ‬الأبنودي‭ ‬من‭ ‬المعتقل‭ ‬عمل‭ ‬لقاء‭ ‬سخيفاً‭ ‬جداً‭ ‬مع‭ ‬شعراوي‭ ‬جمعة‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬التلفزيون،‭ ‬فهاجمه‭ ‬أحمد‭ ‬فؤاد‭ ‬نجم‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المعتقل،‭ ‬وقد‭ ‬شهدتُ‭ ‬تلك‭ ‬المعركة‭ ‬بعد‭ ‬اعتقالي‭ ‬والزج‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬سجن‭ ‬القناطر،‭ ‬إذ‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬مواجهتي‭ ‬أحمد‭ ‬فؤاد‭ ‬نجم،‭ ‬ومن‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬يعيش‭ ‬المثقف‭ ‬على‭ ‬مقهى‭ ‬ريش‮»‬‭ ‬فرد‭ ‬الأبنودي‭ ‬عليه‭ ‬يهاجمه‭ ‬بقصيدة‭ ‬‮«‬يعيش‭ ‬الملحن‭ ‬في‭ ‬غرزة‭ ‬حشيش‮»‬‭. ‬وحينما‭ ‬خرجنا‭ ‬دعا‭ ‬الأبنودي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء‭ ‬للاحتفال‭ ‬بي‭ ‬في‭ ‬كافيه‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬قصر‭ ‬العيني‭ ‬كان‭ ‬منهم‭ ‬الناقد‭ ‬سيد‭ ‬خميس،‭ ‬ناديت‭ ‬الأبنودي‭ ‬دوماً‭ ‬بـ‮«‬يا‭ ‬عبده‮»‬‭ ‬واعترف‭ ‬لي‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يناديه‭ ‬بهذا‭ ‬الاسم‭ ‬إلا‭ ‬أنا‭ ‬وأمه‭. ‬سألته‭ ‬لماذا‭ ‬تهاجم‭ ‬نجم‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬المعتقل؟‭ ‬فقال‭ ‬بسخرية‭: ‬‮«‬وهوَّ‭ ‬ده‭ ‬شاعر‭ ‬يعني؟‭!‬‮»‬‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬إنهم‭ ‬لم‭ ‬يعتقلوه‭ ‬حرصاً‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الشعر،‭ ‬ونقل‭ ‬سيد‭ ‬خميس‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬إلى‭ ‬نجم‭ ‬فضمَّنها‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الفاجومي‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬ابتلعت‭ ‬الأبنودي‭ ‬السكك‭ ‬الأخرى‭ ‬كما‭ ‬ابتلعت‭ ‬عبد‭ ‬الرحيم‭ ‬منصور‭ ‬فتباعدنا‭ ‬أيضاً،‭ ‬أما‭ ‬علاقتي‭ ‬بيحيى‭ ‬الطاهر‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬فظلت‭ ‬قوية‭. ‬هو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬وجهني‭ ‬إلى‭ ‬السينما،‭ ‬واصطحبني‭ ‬معه‭ ‬لمشاهدة‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭. ‬نبهني‭ ‬أيضاً‭ ‬لأسماء‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭. ‬يحيى‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الوسواس‭ ‬القهري‭ ‬كان‭ ‬شخصاً‭ ‬مرهقاً‭ ‬وجلاداً،‭ ‬ولا‭ ‬يترك‭ ‬أحداً‭ ‬ليتحدث‭. ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬أن‭ ‬يتحدث‭ ‬بمفرده‭ ‬طوال‭ ‬الوقت،‭ ‬وأسمعني‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الحكايات‭ ‬المُختَلَقَة‭. ‬حينما‭ ‬نشرت‭ ‬قصة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬رجل‭ ‬صغير‮»‬‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬صباح‭ ‬الخير‮»‬‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬تعبيراً‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أنساه‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬فيها‭ ‬شيئان،‭ ‬الأول‭ ‬أنها‭ ‬قصة‭ ‬كاملة‭ ‬مكتوبة‭ ‬باقتدار‭ ‬كاتب،‭ ‬والثانية‭ ‬أن‭ ‬رائحتها‭ ‬رائحة‭ ‬طفولة‮»‬‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بيننا‭ ‬مجاملة،‭ ‬وكان‭ ‬مشاءً‭ ‬عظيماً‭. ‬كنا‭ ‬نسير‭ ‬يومياً‭ ‬حتى‭ ‬الثالثة‭ ‬فجراً‭ ‬وجلسنا‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬نصبة‭ ‬شاي‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬التحرير،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬علاقته‭ ‬جيدة‭ ‬بالمال،‭ ‬أقصد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مفلساً‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬وعلاقته‭ ‬الوثيقة‭ ‬الوحيدة‭ ‬بالمال‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬يقترضه‭ ‬من‭ ‬أصدقائه،‭ ‬لكن‭ ‬وسط‭ ‬الصخب‭ ‬والهوس‭ ‬والوساوس‭ ‬والاضطراب‭ ‬شعرت‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬جوهرة‭ ‬إنسانية‭ ‬بداخله،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬صالحني‭ ‬على‭ ‬الأبنودي‭ ‬بعد‭ ‬خلاف‭ ‬وقع‭ ‬بيننا،‭ ‬وبعدها‭ ‬كتب‭ ‬لي‭ ‬الأبنودي‭ ‬رسالة‭ ‬جميلة‭ ‬للغاية‭ ‬ذيلها‭ ‬بتوقيع‭ ‬غريب‭ ‬‮«‬أخوك‭ ‬البغل‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الأبنودي‮»‬،‭ ‬وذهبت‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬شقته‭ ‬لأخبره‭ ‬أن‭ ‬الأمور‭ ‬بسيطة‭ ‬فقال‭ ‬لي‭ ‬بلهجته‭ ‬الصعيدية‭ ‬المحببة‭: ‬لا‭ ‬والله‭. ‬أنا‭ ‬زعلت‭ ‬قوي‭ ‬من‭ ‬نفسي‮»‬‭.‬

نجم‭ ‬يدخل‭ ‬من‭ ‬الشباك

كان‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬وأحمد‭ ‬فؤاد‭ ‬نجم‭ ‬من‭ ‬زوار‭ ‬الشقة،‭ ‬لكن‭ ‬قصة‭ ‬تعرف‭ ‬الخميسي‭ ‬الصغير‭ ‬عليهما‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬بعيد‭. ‬كان‭ ‬الخميسي‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الثاني‭ ‬الثانوي‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬المبتديان،‭ ‬وأيامها‭ ‬خرجت‭ ‬مظاهرات‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬ضد‭ ‬الملك،‭ ‬ومع‭ ‬الطلبة‭ ‬المغاربة‭ ‬الذين‭ ‬خرجوا‭ ‬خرج‭ ‬أيضاً‭ ‬طلاب‭ ‬مصريون‭ ‬كانوا‭ ‬يدرسون‭ ‬هناك،‭ ‬والبوليس‭ ‬المغربي‭ ‬فتح‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬الجميع،‭ ‬ومات‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة‭ ‬خمسة‭ ‬طلبة‭ ‬مصريين،‭ ‬وأصدر‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬أمراً‭ ‬بأن‭ ‬يخرج‭ ‬طلبة‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬في‭ ‬مظاهرات‭ ‬احتجاجاً‭ ‬على‭ ‬ملك‭ ‬المغرب،‭ ‬وخرج‭ ‬الخميسي‭ ‬مع‭ ‬طلاب‭ ‬مدرسة‭ ‬المبتديان‭ ‬ومروا‭ ‬على‭ ‬المدارس‭ ‬القريبة‭ ‬في‭ ‬الأحياء‭ ‬المجاورة‭ ‬واصطحبوا‭ ‬الطلبة‭ ‬المحتشدين‭ ‬هناك،‭ ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أدى‭ ‬الخميسي‭ ‬وزملاؤه‭ ‬المهمة‭ ‬بإخلاص‭ ‬شديد‭ ‬قرروا‭ ‬مكافأة‭ ‬أنفسهم‭. ‬اشتروا‭ ‬‮«‬كشري‮»‬‭ ‬ودخلوا‭ ‬سينما‭ ‬‮«‬إيزيس‮»‬‭ ‬في‭ ‬السيدة‭ ‬زينب،‭ ‬لكن‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬لم‭ ‬يكتف‭ ‬بما‭ ‬حدث،‭ ‬أعجبه‭ ‬الموضوع‭ ‬جداً‭ ‬لدرجة‭ ‬شعر‭ ‬معها‭ ‬بأنه‭ ‬خُلق‭ ‬ليصبح‭ ‬قائداً‭ ‬في‭ ‬مظاهرة‭. ‬لم‭ ‬يتحمل‭ ‬كتمان‭ ‬حماسه‭ ‬تحت‭ ‬جلده‭ ‬فصاح‭ ‬في‭ ‬زملائه‭ ‬أنهم‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يخرجوا‭ ‬في‭ ‬مظاهرة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وكان‭ ‬ناظر‭ ‬المدرسة‭ ‬شخصاً‭ ‬مهيباً‭. ‬شعر‭ ‬زملاؤه‭ ‬بالقلق،‭ ‬وطمأنهم‭. ‬طلب‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يحملوه‭ ‬فقط‭ ‬ويتركوا‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عليه‭: ‬‮«‬بعد‭ ‬تحية‭ ‬العلم‭ ‬رفعوني‭ ‬فعلاً،‭ ‬ورفعت‭ ‬صوتي‭ ‬مردداً‭ ‬تلك‭ ‬الجملة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الناظر‭: ‬‮«‬عاش‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‮»‬‭ ‬كأنني‭ ‬أتحداه‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬عكس‭ ‬هذا‭ ‬الكلام،‭ ‬ثم‭ ‬استداروا‭ ‬بي‭ ‬وخرجوا‭ ‬وهم‭ ‬يرفعونني‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬وذهبنا‭ ‬إلى‭ ‬السينما‭ ‬وأكلنا‭ ‬الكشري،‭ ‬وقد‭ ‬تخيلنا‭ ‬أننا‭ ‬يمكننا‭ ‬تكرار‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬مالانهاية،‭ ‬لكن‭ ‬الناظر‭ ‬طلب‭ ‬لنا‭ ‬البوليس،‭ ‬فأمْطرْنا‭ ‬العساكرَ‭ ‬بالأحجار،‭ ‬ودخلت‭ ‬المباحث‭ ‬على‭ ‬الخط‭. ‬سألوا‭ ‬عني‭ ‬وبمجرد‭ ‬أن‭ ‬عرفوا‭ ‬اسمي‭ ‬فهموا‭ ‬الأمر،‭ ‬فأبي‭ ‬شيوعي‭ ‬معروف‭ ‬وخيلاني‭ ‬كذلك،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬الضابط‭ ‬وقتها‭: ‬‮«‬لولا‭ ‬إنك‭ ‬صغير‭ ‬كنت‭ ‬قطمتك‮»‬،‭ ‬وصدر‭ ‬قرار‭ ‬بفصلي،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬مدارس‭ ‬القُطر‭ ‬المصري،‭ ‬وعرفت‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬أنه‭ ‬يمكنني‭ ‬أن‭ ‬أواصل‭ ‬الدراسة‭ ‬من‭ ‬البيت،‭ ‬وأحضر‭ ‬أيام‭ ‬الامتحانات‭ ‬فقط‭. ‬ذهبت‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الإذاعة‭ ‬والتلفزيون‮»‬‭ ‬وهناك‭ ‬قابلت‭ ‬شخصاً‭ ‬جيداً‭ ‬اسمه‭ ‬عبد‭ ‬القادر‭ ‬حميدة،‭ ‬عهد‭ ‬إليّ‭ ‬بإعادة‭ ‬صياغة‭ ‬الموضوعات‭ ‬وتنقيحها،‭ ‬وبما‭ ‬أني‭ ‬أذهب‭ ‬دوماً‭ ‬ومعي‭ ‬كتب‭ ‬الدراسة‭ ‬شاهدني‭ ‬حميدة‭ ‬وأنا‭ ‬أمسك‭ ‬بكتاب‭ ‬الجغرافيا‭ ‬وسألني‭ ‬ما‭ ‬هذا؟‭ ‬فأخبرته‭. ‬ترجاني‭ ‬أن‭ ‬أغلِّفه‭ ‬بأوراق‭ ‬جريدة‭ ‬لأنني‭ ‬صغير‭ ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬أراجع‭ ‬موضوعات‭ ‬يكتبها‭ ‬خريجو‭ ‬ليسانس،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬مشاكل‭ ‬معهم‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬شعرت‭ ‬بالزهق‭ ‬تركتهم‭ ‬وذهبت‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬منظمة‭ ‬التضامن‭ ‬الأفروآسيوي‭ ‬وكان‭ ‬مقرها‭ ‬في‭ ‬فيلا‭ ‬بالمنيل‭. ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬يعمل‭ ‬هناك،‭ ‬وغرفة‭ ‬مكتبه‭ ‬بها‭ ‬نافذة‭ ‬تطل‭ ‬على‭ ‬السطوح،‭ ‬وفجأة‭ ‬ونحن‭ ‬جالسان‭ ‬رأيت‭ ‬شخصاً‭ ‬يقفز‭ ‬من‭ ‬الشباك‭ ‬المفتوح‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬الحجرة‭. ‬إنه‭ ‬أحمد‭ ‬فؤاد‭ ‬نجم‭. ‬ومن‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬سواه؟‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬لديه‭ ‬فرصة‭ ‬ليرتكب‭ ‬خطأ‭ ‬فلماذا‭ ‬يقوم‭ ‬بالصواب؟‭ ‬كنا‭ ‬نخرج‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬يومياً‭ ‬ونجلس‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬قريب،‭ ‬وكان‭ ‬أمل‭ ‬يدندن‭ ‬قصائد‭ ‬مع‭ ‬نفسه،‭ ‬أو‭ ‬نلعب‭ ‬عشرة‭ ‬طاولة،‭ ‬حتى‭ ‬ينتهي‭ ‬موعد‭ ‬الدوام،‭ ‬فنعود‭ ‬للتوقيع‭. ‬كنا‭ ‬نذهب‭ ‬يوماً‭ ‬وعشرة‭ ‬لا،‭ ‬وأحياناً‭ ‬كنت‭ ‬أصطحبهما‭ ‬إلى‭ ‬الشقة‭ ‬لنستريح‭ ‬ثم‭ ‬نرى‭ ‬ما‭ ‬سنفعله‭ ‬في‭ ‬المساء‮»‬‭. ‬

حينما‭ ‬نقلت‭ ‬المنظمة‭ ‬مقرها‭ ‬من‭ ‬فيلا‭ ‬الروضة‭ ‬إلى‭ ‬جمعية‭ ‬الأدباء‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬العيني،‭ ‬نادى‭ ‬رئيسها‭ ‬يوسف‭ ‬السباعي‭ ‬على‭ ‬الخميسي‭ ‬ونجم‭ ‬ودنقل‭. ‬وقف‭ ‬ثلاثتهم‭ ‬في‭ ‬مواجهته‭. ‬أغلق‭ ‬الباب‭ ‬وطلب‭ ‬منهم‭ ‬الجلوس،‭ ‬وصارحهم‭ ‬بمشكلة‭ ‬عدم‭ ‬التزامهم‭ ‬بالحضور،‭ ‬وخوفه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬سلوكهم‭ ‬إلى‭ ‬بقية‭ ‬الموظفين،‭ ‬فتحدث‭ ‬فوضى‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الموظفين‭ ‬بدأوا‭ ‬يتساءلون‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬التساهل‭ ‬مع‭ ‬الثلاثة،‭ ‬ثم‭ ‬نطق‭ ‬السباعي‭ ‬بعبارات‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬التأويل‭: ‬‮«‬أمامكم‭ ‬حل‭ ‬من‭ ‬اثنين،‭ ‬إما‭ ‬تحضروا‭ ‬بانتظام،‭ ‬وإما‭ ‬لا‭ ‬تحضروا‭ ‬نهائياً،‭ ‬وستصلكم‭ ‬روابتكم‭ ‬بانتظام‭ (‬وحلف‭ ‬بالطلاق‭) ‬وهناك‭ ‬حل‭ ‬ثالث‭ ‬وهو‭ ‬سهل‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬أفصلكم‮»‬‭. ‬شد‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬جسده،‭ ‬وتعالى‭ ‬صوته‭ ‬ببيت‭ ‬شعري‭: ‬‮«‬بالأمس‭ ‬كنت‭ ‬مشرداً‭ ‬أهلياً،‭ ‬واليوم‭ ‬صرت‭ ‬مشرداً‭ ‬رسمياً‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬لم‭ ‬ينطل‭ ‬على‭ ‬يوسف‭ ‬السباعي،‭ ‬الذي‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬رواتب‭ ‬الثلاثة‭ ‬معقولة‭ ‬بمعايير‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن،‭ ‬فكل‭ ‬واحد‭ ‬يقبض‭ ‬15‭ ‬جنيهاً،‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬سعر‭ ‬القميص‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬لم‭ ‬يزد‭ ‬عن‭ ‬نصف‭ ‬جنيه،‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬لا‭ ‬يا‭ ‬سي‭ ‬أمل‭. ‬رسمياً‭ ‬إيه‭ ‬وأهلياً‭ ‬إيه‭. ‬بالأمس‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معك‭ ‬مليم،‭ ‬واليوم‭ ‬صار‭ ‬معك‭ ‬15‭ ‬جنيهاً‮»‬،‭ ‬ونجم‭ ‬مثَّل‭ ‬بدوره‭ ‬أنه‭ ‬غاضب‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬يا‭ ‬يوسف‭ ‬بك،‭ ‬أحب‭ ‬انبهك‭ ‬لو‭ ‬فصلتني‭ ‬هتكون‭ ‬دى‭ ‬المرة‭ ‬التالتة‮»‬‭ ‬وسأله‭ ‬السباعي‭: ‬‮«‬يعني‭ ‬إيه؟‭!‬‮»‬‭ ‬فقال‭ ‬نجم‭: ‬‮«‬يعني‭ ‬عشان‭ ‬ارجعلك‭ ‬لازم‭ ‬محلل‭!‬‮»‬‭.‬

في‭ ‬نهاية‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬وصف‭ ‬الخميسي‭ ‬يوسف‭ ‬السباعي‭ ‬بأنه‭ ‬شخص‭ ‬طيب‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الإنساني،‭ ‬فقبل‭ ‬اعتقال‭ ‬الخميسي‭ ‬بشهرين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬قطع‭ ‬علاقته‭ ‬بالمنظمة‭ ‬وجمعية‭ ‬الأدباء،‭ ‬وحينما‭ ‬علم‭ ‬يوسف‭ ‬السباعي‭ ‬بأمر‭ ‬اعتقاله‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬الموظفين‭ ‬أن‭ ‬يعيدوا‭ ‬اسم‭ ‬الخميسي‭ ‬كموظف‭ ‬في‭ ‬الأوراق‭ ‬الرسمية،‭ ‬لكي‭ ‬يمكنه‭ ‬استلام‭ ‬راتبه‭ ‬كل‭ ‬شهر،‭ ‬وطلب‭ ‬منهم‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬أسرته‭ ‬حتى‭ ‬يأتي‭ ‬أحدهم‭ ‬لاستلام‭ ‬الراتب‭. ‬

خمسة‭ ‬جنيهات‭ ‬مجانية

ظروف‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬كانت‭ ‬صعبة‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬عبلة‭ ‬الرويني‭ ‬قد‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬حياته‭. ‬اتصل‭ ‬مرة‭ ‬بالخميسي‭ ‬ليخبره‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬فرصة‭ ‬عظيمة‭ ‬ليحصل‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬على‭ ‬خمسة‭ ‬جنيهات،‭ ‬فهناك‭ ‬صديق‭ ‬يعمل‭ ‬مخرجاً‭ ‬إذاعياً‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬‮«‬إذا‭ ‬عرفت‭ ‬الحل‮»‬‭ ‬يقدم‭ ‬هذا‭ ‬المبلغ،‭ ‬واعترض‭ ‬أحمد‭ ‬قائلاً‭ ‬إنه‭ ‬ابن‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬المقبول‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬مسابقات،‭ ‬فطمأنه‭ ‬أمل‭ ‬بأن‭ ‬المخرج‭ ‬صديقه‭ ‬وسيوافق‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يشاركا‭ ‬باسمين‭ ‬مستعارين،‭ ‬فوافق‭: ‬‮«‬ذهبنا‭ ‬إلى‭ ‬الاستوديو،‭ ‬وأعطانا‭ ‬المخرج‭ ‬الحلول‭ ‬مسبقاً‭ ‬في‭ ‬ورقة،‭ ‬وسأل‭ ‬سؤالاً‭ ‬فرفع‭ ‬أمل‭ ‬يده‭ ‬وقال‭: ‬أنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬محمود‭ ‬والحل‭ ‬هو‭ ‬الزعيم‭ ‬مصطفى‭ ‬كامل،‭ ‬فصاح‭ ‬المخرج‭ ‬بحماس‭: ‬صح‭ ‬اتفضل‭ ‬يا‭ ‬افندم‭ ‬خمسة‭ ‬جنيه‭. ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬الدور‭ ‬عليَّ‭ ‬وكان‭ ‬اسمي‭ ‬المستعار‭ ‬مصطفى‭ ‬عبد‭ ‬ربه‭ ‬وحصلت‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬خمسة‭ ‬جنيهات،‭ ‬وخرجنا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬لنأكل‭ ‬الكباب‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المطاعم‭ ‬الرخيصة‮»‬‭.‬

أما‭ ‬أحمد‭ ‬فؤاد‭ ‬نجم‭ ‬فقد‭ ‬انتقلت‭ ‬علاقة‭ ‬الخميسي‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الشقة‭ ‬إلى‭ ‬المعتقل‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قُبض‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬مظاهرات‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬فبراير‭ ‬1968‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬تأييداً‭ ‬لمظاهرات‭ ‬عمال‭ ‬حلوان‭ ‬الخاصة‭ ‬بأحكام‭ ‬الطيران‭. ‬وأصبح‭ ‬نجم‭ ‬من‭ ‬أقرب‭ ‬الناس‭ ‬إليه،‭ ‬وقد‭ ‬طلب‭ ‬منه‭ ‬مسجون‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬له‭ ‬كلمات‭ ‬متقاطعة،‭ ‬ووافق‭ ‬نجم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬لعمل‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬للترفيه‭ ‬عن‭ ‬المساجين،‭ ‬وقد‭ ‬توسطت‭ ‬زنزانة‭ ‬الخميسي‭ ‬زنزانة‭ ‬السجين‭ ‬ونجم،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬باستطاعتهما‭ ‬التواصل‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الخميسي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يطرق‭ ‬السجين‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬زنزانة‭ ‬الخميسي‭ ‬ويطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يسأل‭ ‬نجم‭ ‬عن‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬مطرب‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬حروف‮»‬،‭ ‬والخميسي‭ ‬يطرق‭ ‬بدوره‭ ‬جدار‭ ‬زنزانة‭ ‬نجم‭ ‬وينقل‭ ‬له‭ ‬الرسالة‭ ‬فيقول‭ ‬بغضب‭: ‬‮«‬يعني‭ ‬انا‭ ‬أعملها‭ ‬له‭ ‬الصبح‭ ‬واحلها‭ ‬له‭ ‬بالليل؟‭!‬‮»‬‭.‬

كومبارس‭ ‬ناطق

في‭ ‬هذه‭ ‬الشقة‭ ‬وقع‭ ‬الخميسي‭ ‬في‭ ‬الغرام‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬وكسر‭ ‬كنبة‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬وكتب‭ ‬قصة‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬وحصل‭ ‬على‭ ‬أول‭ ‬درس‭ ‬في‭ ‬حياته‭.‬

في‭ ‬الشقة‭ ‬المواجهة‭ ‬كانت‭ ‬تسكن‭ ‬أسرة‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬تركية،‭ ‬وهناك‭ ‬بنت‭ ‬من‭ ‬بناتها‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الجمال‭ ‬اسمها‭ ‬منى،‭ ‬كان‭ ‬مبهوراً‭ ‬بها‭ ‬لكنه‭ ‬يخاف‭ ‬أن‭ ‬يحدثها،‭ ‬وكتب‭ ‬عنها‭ ‬قصيدة‭ ‬رديئة‭ ‬يقول‭ ‬مطلعها‭: ‬‮«‬منى‭ ‬شعرها‭ ‬ذهب،‭ ‬وقلبي‭ ‬معها‭ ‬ذهب‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬أحد‭ ‬أقربائهم‭ ‬وكان‭ ‬يعمل‭ ‬مخرجاً‭ ‬وطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬مسلسل،‭ ‬كان‭ ‬دوره‭ ‬صغيراً‭. ‬مجرد‭ ‬كومبارس‭ ‬ناطق،‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يعبر‭ ‬في‭ ‬ممر‭ ‬مستشفى‭ ‬فيوقفه‭ ‬أحدهم‭ ‬ليسأله‭ ‬عن‭ ‬رقم‭ ‬غرفة،‭ ‬والمطلوب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يشير‭ ‬إليها‭ ‬وينطق‭ ‬برقمها‭. ‬وافق‭ ‬الخميسي‭ ‬على‭ ‬العرض،‭ ‬لكن‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬سأله‭ ‬الممثل‭ ‬عن‭ ‬رقم‭ ‬الغرفة‭ ‬لم‭ ‬ينطق‭ ‬الجملة‭ ‬المقررة‭ ‬وإنما‭ ‬قال‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الخطبة‭ ‬الطويلة‭. ‬أوقف‭ ‬المخرج‭ ‬التصوير‭ ‬وطلب‭ ‬منه‭ ‬الالتزام‭. ‬بعدها‭ ‬بفترة‭ ‬وجد‭ ‬فتاة‭ ‬أحلامه‭ ‬منى،‭ ‬فائقة‭ ‬الجمال،‭ ‬تشرق‭ ‬في‭ ‬مواجهته‭ ‬على‭ ‬السلم‭ ‬بابتسامة‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬مثلها‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬وتهتف‭ ‬بانبهار‭: ‬‮«‬أحمد‭ ‬أنا‭ ‬شفتك‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‮»‬،‭ ‬فقال‭ ‬لها‭ ‬محاولاً‭ ‬أن‭ ‬يبدو‭ ‬متواضعاً‭: ‬‮«‬ده‭ ‬دور‭ ‬بسيط‭ ‬لكن‭ ‬أنا‭ ‬هدقق‭ ‬بعد‭ ‬كده‭ ‬في‭ ‬المعروض‭ ‬عليَّ‮»‬‭.‬

أصاب‭ ‬الخميسي‭ ‬أمه‭ ‬بالجنون‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرأ‭ ‬عبارة‭ ‬لجوركي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬‮«‬جئت‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬لأختلف‭ ‬معه‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬أعجبته‭ ‬الجملة‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬لطخ‭ ‬بها‭ -‬بأقلام‭ ‬الفولماستر‭ ‬وطلاء‭ ‬الأظافر‭- ‬حوائط‭ ‬وأبواب‭ ‬ونوافذ‭ ‬ودواليب‭ ‬وكراسي‭ ‬الشقة،‭ ‬حتى‭ ‬صاحت‭ ‬أمه‭: ‬‮«‬خلاص‭ ‬عرفنا‭ ‬إنك‭ ‬جئت‭ ‬للعالم‭ ‬لتختلف‭ ‬معه‭ ‬ارحم‭ ‬الشبابيك‭ ‬والبيبان‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬كسر‭ ‬الخميسي‭ ‬الكنبة‭ ‬الزان،‭ ‬واندهش‭ ‬أبوه‭ ‬وسأله‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬بهذه‭ ‬الصلابة‭ ‬فكيف‭ ‬كسرتها؟‭ ‬فرد‭ ‬عليه‭ ‬أحمد‭: ‬‮«‬كسرها‭ ‬من‭ ‬أسهل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‮»‬،‭ ‬ومثَّل‭ ‬له‭ ‬جريمته‭. ‬كانت‭ ‬علاقته‭ ‬بأبيه‭ ‬رائعة‭ ‬للغاية،‭ ‬كأنهما‭ ‬صديقان،‭ ‬تفصل‭ ‬بينهما‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة،‭ ‬وأول‭ ‬درس‭ ‬تعلمه‭ ‬منه‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يفرط‭ ‬في‭ ‬كرامته‭ ‬لأي‭ ‬سبب‭. ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الأول‭ ‬الثانوي‭ ‬كان‭ ‬الخميسي‭ ‬الصغير‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬الدروس‭ ‬ومعه‭ ‬رواية‭ ‬ويجلس‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬دكة‭ ‬ليخفي‭ ‬أنظاره‭ ‬عن‭ ‬المدرس‭ ‬ويضع‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬حجره‭ ‬ويستغرق‭ ‬في‭ ‬القراءة‭. ‬وفي‭ ‬حصة‭ ‬كيمياء،‭ ‬كان‭ ‬مندمجاً‭ ‬كالعادة‭ ‬ولم‭ ‬ينتبه‭ ‬إلى‭ ‬نداءات‭ ‬المعلم،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬المعلم‭ ‬شعر‭ ‬بعدم‭ ‬انتباه‭ ‬الخميسي‭ ‬فغضب‭ ‬للغاية،‭ ‬واقترب‭ ‬منه‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬فوق‭ ‬رأسه‭ ‬وشتمه‭ ‬بالأم،‭ ‬فانتصب‭ ‬الخميسي‭ ‬واقفاً‭ ‬ورد‭ ‬الشتيمة‭ ‬بمثلها‭ ‬فوراً،‭ ‬وطرده‭ ‬المدرس‭ ‬وخاف‭ ‬الخميسي‭ ‬أن‭ ‬يضربه‭ ‬بـ«الشلوت‮»‬‭ ‬فتلكأ‭ ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬المدرس‭ ‬أن‭ ‬يسير‭ ‬أمامه‭ ‬حتى‭ ‬غادر‭ ‬الفصل‭: ‬‮«‬مكثت‭ ‬في‭ ‬الشقة‭ ‬أربعة‭ ‬أيام،‭ ‬وأبي‭ ‬انزعج‭ ‬من‭ ‬صمتي‭ ‬وعدم‭ ‬ذهابي‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة،‭ ‬وسألني‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬عن‭ ‬السبب،‭ ‬حتى‭ ‬حكيت‭ ‬له‭ ‬أخيراً،‭ ‬وسألني‭: ‬‮«‬ولما‭ ‬شتمك‭ ‬انت‭ ‬قلت‭ ‬له‭ ‬إيه؟‭!‬‮»‬‭ ‬وخفت‭ ‬أن‭ ‬أخبره‭ ‬بالحقيقة‭ ‬فيعاقبني‭ ‬إذ‭ ‬سيجدني‭ ‬طفلاً‭ ‬قليل‭ ‬الأدب‭ ‬يشتم‭ ‬المدرس،‭ ‬فعاد‭ ‬ليسألني‭ ‬مجدداً‭ ‬بحزم‭: ‬‮«‬وانت‭ ‬قلت‭ ‬له‭ ‬إيه؟‭!‬‮»‬‭ ‬فأخبرته،‭ ‬فنهض‭ ‬من‭ ‬مكانه‭ ‬واحتضنني‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬انت‭ ‬كده‭ ‬ابني‭ ‬وأنا‭ ‬هوريلك‭ ‬مقامه‭ ‬بكرة‭. ‬واصطحبني‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬وعمل‭ ‬ملحمة‭ ‬ضخمة‮»‬‭.‬

تنقل‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬مع‭ ‬والديه‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭. ‬سكنوا‭ ‬في‭ ‬حدائق‭ ‬القبة،‭ ‬ثم‭ ‬شارع‭ ‬مصر‭ ‬والسودان‭ ‬أمام‭ ‬أجزخانة‭ ‬الحياة،‭ ‬وكذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬عدلي،‭ ‬وشقة‭ ‬نوبار،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬علاقة‭ ‬أبيه‭ ‬بأصدقائه‭ ‬قوية‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يقابلهم‭ ‬بترحاب‭ ‬خاصة‭ ‬الغيطاني،‭ ‬اعتبره‭ ‬مثل‭ ‬ابنه،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬الغيطاني‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أحاديثه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أشار‭ ‬أساسا‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬والدة‭ ‬أحمد‭ ‬في‭ ‬حياته‭. ‬كان‭ ‬لدى‭ ‬الأب‭ ‬كذلك‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬نجم‭ ‬والشيخ‭ ‬إمام،‭ ‬وتعاطف‭ ‬معهما،‭ ‬وحينما‭ ‬قامت‭ ‬مظاهرات‭ ‬الطلاب‭ ‬عام‭ ‬1968‭ ‬كان‭ ‬نجم‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬الخميسي‭ ‬فأغلقوا‭ ‬عليه‭ ‬باب‭ ‬حجرة‭ ‬ولم‭ ‬يسمحوا‭ ‬بدخول‭ ‬شيء‭ ‬إليه‭ ‬سوى‭ ‬الشاي‭ ‬والسجائر،‭ ‬وطالبوه‭ ‬بكتابه‭ ‬قصيدة‭ ‬فكتب‭ ‬‮«‬رجعوا‭ ‬التلامذة‭ ‬يا‭ ‬عم‭ ‬حمزة‮»‬‭.‬

أصدقاء‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي‭ ‬أطلقوا‭ ‬عليه‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬القديس‮»‬‭ ‬وناداه‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬وخارجه‭ ‬بـ‮«‬يا‭ ‬قديس‮»‬‭. ‬محمد‭ ‬عودة‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬وشاعر‭ ‬اسمه‭ ‬مخيمر‭ ‬استقلا‭ ‬بصحبته‭ ‬حنطوراً،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬قبض‭ ‬مرتبه‭ ‬للتوِّ‭. ‬نظر‭ ‬الخميسي‭ ‬إلى‭ ‬سائق‭ ‬الحنطور‭ ‬وقال‭ ‬بأسى‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬لم‭ ‬يأكل‭ ‬منذ‭ ‬زمن،‭ ‬لا‭ ‬هو‭ ‬ولا‭ ‬حصانه،‭ ‬فالهزال‭ ‬يبدو‭ ‬واضحاً‭ ‬على‭ ‬الاثنين،‭ ‬ثم‭ ‬أخرج‭ ‬راتبه‭ ‬ووضعه‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الرجل،‭ ‬فأطلق‭ ‬الصديقان‭ ‬عليه‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬القديس‮»‬‭ ‬من‭ ‬وقتها‭. ‬

كان‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬يقابل‭ ‬أصدقاء‭ ‬أبيه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الشقة‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬البيوت‭ ‬التي‭ ‬سكنوها،‭ ‬وكان‭ ‬محمود‭ ‬السعدني،‭ ‬ومحمد‭ ‬عودة‭ ‬أقربهم‭ ‬إليه‭. ‬السعدني‭ ‬تردد‭ ‬كثيراً‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الشقة‭ ‬وجاء‭ ‬لتقديم‭ ‬واجب‭ ‬العزاء‭ ‬للعائلة‭ ‬حينما‭ ‬مات‭ ‬الأب‭: ‬‮«‬حكى‭ ‬أبي‭ ‬أمامي‭ ‬وأمامه،‭ ‬ذات‭ ‬مرة،‭ ‬أنه‭ ‬حينما‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬سكن‭ ‬في‭ ‬بيت،‭ ‬فقاطعه‭ ‬محمود‭ ‬سعدني‭ ‬ساخراً‭: ‬بيت‭ ‬إيه‭ ‬يا‭ ‬صايع؟‭! ‬قول‭ ‬سكنت‭ ‬جنب‭ ‬بيت‭!‬‮»‬‭. ‬الصدفة‭ ‬قادت‭ ‬الخميسي‭ ‬الصغير‭ ‬لمعرفة‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬أصدقاء‭ ‬الأب‭: ‬‮«‬قريب‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬استوديو‭ ‬مصر‭ ‬سألني‭ ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬أحب‭ ‬الفرجة‭ ‬على‭ ‬الممثلين‭ ‬أثناء‭ ‬التصوير؟‭ ‬ذهبنا‭ ‬فوجدت‭ ‬شكري‭ ‬سرحان‭ ‬يصور‭ ‬مشهداً،‭ ‬ثم‭ ‬أخذني‭ ‬قريبي‭ ‬من‭ ‬يدي‭ ‬إليه‭ ‬وقال‭ ‬له‭ ‬هذا‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي،‭ ‬فنظر‭ ‬لي‭ ‬بانبهار‭ ‬وقال‭: ‬معقول؟‭ ‬أنا‭ ‬كنت‭ ‬أشيلك‭ ‬على‭ ‬إيدي‭ ‬وانت‭ ‬صغير‭. ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬وسألت‭ ‬أبي‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬يعرف‭ ‬شكري‭ ‬سرحان؟‭ ‬فضحك‭ ‬طويلاً‭ ‬وهو‭ ‬يهز‭ ‬رأسه‭ ‬وأخبرني‭ ‬أن‭ ‬نجومية‭ ‬شكري‭ ‬سرحان‭ ‬جعلته‭ ‬محاطاً‭ ‬ومرغوباً‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬الفتيات‭ ‬الجميلات،‭ ‬ولهذا‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬صداقة‭ ‬معه‭. ‬كان‭ ‬يصطحبه‭ ‬إلى‭ ‬كافتيريا‭ ‬في‭ ‬شبرد‭ ‬أو‭ ‬هيلتون‭ ‬بصفته‭ ‬سنارة‭ ‬يصطاد‭ ‬بها‮»‬‭.‬

شهد‭ ‬الخميسي‭ ‬أول‭ ‬لقاء‭ ‬جمع‭ ‬الأب‭ ‬بسعاد‭ ‬حسني‭. ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يسير‭ ‬مع‭ ‬والده‭ ‬في‭ ‬عابدين،‭ ‬وأوقف‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬والده‭ ‬وعرَّفه‭ ‬بنفسه،‭ ‬وقال‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يحضر‭ ‬لأبيه‭ ‬محاضرات‭ ‬الموسيقى‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬وإنه‭ ‬يسكن‭ ‬في‭ ‬الفوَّالة،‭ ‬ودعا‭ ‬الأب‭ ‬للغداء‭ ‬فوافق‭ ‬ببساطة‭: ‬‮«‬ذهبنا‭ ‬إليه‭ ‬وكان‭ ‬البيت‭ ‬بسيطاً‭ ‬بل‭ ‬وفقير‭ ‬للغاية،‭ ‬دخلنا‭ ‬ووجدنا‭ ‬السيدة‭ ‬جوهرة‭ ‬وهي‭ ‬أم‭ ‬سعاد‭ ‬حسني،‭ ‬وزوجها‭ ‬الذي‭ ‬دعانا‭ ‬وهو‭ ‬عبد‭ ‬المنعم‭ ‬حافظ‭. ‬أكلنا‭ ‬وكنا‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬المغادرة‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬فتاة‭ ‬فائقة‭ ‬الجمال‭ ‬تشبه‭ ‬أمها،‭ ‬هي‭ ‬سعاد‭ ‬حسني،‭ ‬وضعت‭ ‬أمامنا‭ ‬صينية‭ ‬الشاي‭ ‬وجلست،‭ ‬تمعن‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬ملامحها‭ ‬ثم‭ ‬أشار‭ ‬إليها‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬البنت‭ ‬نجمة‮»‬‭. ‬استغربت‭ ‬واستغربوا‭ ‬جداً‭. ‬ولأني‭ ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬مجامل‭ ‬فقد‭ ‬سألته‭ ‬حين‭ ‬غادرنا‭ ‬بيتهم‭:‬‭ ‬هل‭ ‬كنت‭ ‬تجاملهم‭ ‬يا‭ ‬قديس؟‭! ‬فقال‭: ‬‮«‬لا‭ ‬والله‭ ‬يا‭ ‬ابني،‭ ‬البنت‭ ‬دي‭ ‬نجمة‭ ‬ونجمة‭ ‬كبيرة‭ ‬كمان‮»‬‭. ‬ظلت‭ ‬سعاد‭ ‬مخلصة‭ ‬لأبي‭ ‬وحين‭ ‬ترك‭ ‬مصر‭ ‬عام‭ ‬1972‭ ‬أحضرت‭ ‬سعاد‭ ‬حقيبة‭ ‬كبيرة‭ ‬مليئة‭ ‬برزم‭ ‬المال‭ ‬إلى‭ ‬شقة‭ ‬نوبار‭ ‬حيث‭ ‬أمي،‭ ‬وأشارت‭ ‬إليها‭ ‬وقالت‭ ‬لها‭: ‬من‭ ‬فضلك‭ ‬خدي‭ ‬اللي‭ ‬انتي‭ ‬عايزاه‭ ‬منها،‭ ‬خديهم‭ ‬كلهم‭. ‬كل‭ ‬ده‭ ‬من‭ ‬فضل‭ ‬عم‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭. ‬أمي‭ ‬رفضت‭ ‬وشكرتها،‭ ‬فقالت‭ ‬سعاد‭: ‬عشان‭ ‬خاطري‭ ‬لو‭ ‬احتجتي‭ ‬أي‭ ‬حاجة‭ ‬متروحيش‭ ‬لحد‭ ‬أبداً‭. ‬كلميني‭ ‬أنا‮»‬‭. ‬

يجلس‭ ‬فى‭ ‬مكتبه‭ ‬بالبيجامة

كان‭ ‬القديس‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬المكتب‭ ‬في‭ ‬الثامنة‭ ‬صباحاً،‭ ‬وكان‭ ‬يدخل‭ ‬مكتبه‭ ‬ذاك‭ ‬عبر‭ ‬باب‭ ‬مشترك‭ ‬مع‭ ‬غرفة‭ ‬النوم،‭ ‬فيستقر‭ ‬على‭ ‬الكرسي‭ ‬بالبيجامة‭ ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يفق‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬النوم،‭ ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬اتصل‭ ‬بمؤسسة‭ ‬السينما‭ ‬لأمر‭ ‬ما‭ ‬ولم‭ ‬يرد‭ ‬عليه‭ ‬أحد‭ ‬فشعر‭ ‬بالغيظ‭. ‬نادى‭ ‬أحمد‭ ‬ولم‭ ‬تزل‭ ‬آثار‭ ‬النوم‭ ‬بادية‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬مستغرب‭ ‬جداً،‭ ‬الناس‭ ‬مش‭ ‬بيروحوا‭ ‬شغلهم‭ ‬في‭ ‬مواعيد‭ ‬مظبوطة‭ ‬ليه؟‭ ‬ما‭ ‬أنا‭ ‬قاعد‭ ‬في‭ ‬مكتبي‭ ‬آهو‭ ‬من‭ ‬الساعة‭ ‬تمانية‭ ‬الصبح‭!‬‮»‬،‭ ‬وضحك‭ ‬أحمد‭ ‬قائلاً‭ ‬له‭: ‬‮«‬تمانية‭ ‬إيه‭.. ‬ده‭ ‬انت‭ ‬مغسلتش‭ ‬وشك‭!‬‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬إحدى‭ ‬المرات‭ ‬جاء‭ ‬إليه‭ ‬شابان،‭ ‬طلبا‭ ‬مقابلته،‭ ‬كانا‭ ‬يريدان‭ ‬أن‭ ‬يصبحا‭ ‬نجمين‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬محمود‭ ‬المليجي‭ ‬فهجم‭ ‬الشابان‭ ‬عليه،‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬حضورهما‭: ‬‮«‬انت‭ ‬وحش‭ ‬الشاشة‭ ‬يا‭ ‬عم‭ ‬محمود‭ ‬مع‭ ‬إن‭ ‬شكلك‭ ‬طيب‮»‬‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬وحش‭ ‬الشاشة‭ ‬إيه‭ ‬يا‭ ‬ابني‭ ‬أنا‭ ‬كل‭ ‬اللي‭ ‬احتكم‭ ‬عليه‭ ‬محل‭ ‬جزم‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬ثروت،‭ ‬وبيخسر‭!‬‮»‬‭. ‬المليجي‭ ‬جلس‭ ‬قليلاً‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬ثم‭ ‬خرج‭ ‬ودخل‭ ‬بعده‭ ‬أحمد‭ ‬بك‭ ‬مظهر،‭ ‬فألحَّ‭ ‬الشابان‭ ‬في‭ ‬الدخول‭ ‬فطلبت‭ ‬من‭ ‬القديس‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬إليهما،‭ ‬وسألهما‭ ‬ماذا‭ ‬يريدان‭ ‬فقالا‭: ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬فرصة‭ ‬للنجومية،‭ ‬مجرد‭ ‬فرصة‭ ‬يستطيعان‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬إثبات‭ ‬موهبتهما،‭ ‬فسألهما‭ ‬عن‭ ‬اسميهما،‭ ‬فقال‭ ‬الأول‭: ‬‮«‬محمد‭ ‬عدس‮»‬،‭ ‬وقال‭ ‬الثاني‭: ‬‮«‬شوقي‭ ‬الشامخ‮»‬‭ ‬وحينما‭ ‬سمع‭ ‬والدي‭ ‬اسم‭ ‬الشامخ‭ ‬نظر‭ ‬للأول،‭ ‬أي‭ ‬لمحمد‭ ‬عدس،‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬‮«‬شايف‭ ‬الأسماء‭ ‬يا‭ ‬عدس؟‭!‬‮»‬‭.‬

علاقة‭ ‬الخميسي‭ ‬الصغير‭ ‬بصلاح‭ ‬جاهين‭ ‬لم‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬الجيرة،‭ ‬وإنما‭ ‬من‭ ‬ملحق‭ ‬الأهرام‭: ‬‮«‬كنت‭ ‬أقرأ‭ ‬الرباعيات‭ ‬وأحفظها،‭ ‬فهي‭ ‬سهلة‭ ‬وجميلة،‭ ‬وجاهين‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬حبَّبني‭ ‬في‭ ‬العامية‭. ‬كانوا‭ ‬ينشرون‭ ‬صورته‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬قد‭ ‬رأيته‭ ‬بعْدُ‭ ‬رغم‭ ‬أننا‭ ‬نسكن‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬العمارة،‭ ‬حتى‭ ‬وجدته‭ ‬في‭ ‬مواجهتي‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬مدخلها‭ ‬ونظرت‭ ‬إليه‭ ‬بذهول‭. ‬قلت‭ ‬لنفسي‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬أقرأ‭ ‬له‭ ‬وأرى‭ ‬صورته‭ ‬في‭ ‬الجريدة،‭ ‬وسألته‭ ‬ببراءة‭ ‬شديدة‭: ‬‮«‬انت‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين؟‭!‬‮»‬‭ ‬ونظر‭ ‬إليّ‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬آه‮»‬،‭ ‬فقلت‭: ‬‮«‬بس‭ ‬شكلك‭ ‬حاجة‭ ‬تانية‭!‬‮»‬‭. ‬سألني‭ ‬عن‭ ‬سكني‭ ‬واسمي،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬عرف‭ ‬أنني‭ ‬ابن‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي،‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬إنه‭ ‬الآن‭ ‬فهم‭ ‬سر‭ ‬الفضول‭ ‬المبكر‭ ‬نحو‭ ‬الشعراء‭. ‬كان‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬هو‭ ‬يوم‭ ‬إجازتي‭ ‬من‭ ‬المدرسة،‭ ‬ويوم‭ ‬نومي،‭ ‬ويوم‭ ‬صدور‭ ‬ملحق‭ ‬الأهرام‭ ‬الأدبي،‭ ‬وطبعاً‭ ‬لأني‭ ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬الجريدة‭ ‬تنفد‭ ‬في‭ ‬التاسعة‭ ‬صباحاً،‭ ‬وأنني‭ ‬أستيقظ‭ ‬بعد‭ ‬الظهر،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتردد‭ ‬أبداً‭ ‬في‭ ‬الصعود‭ ‬إلى‭ ‬شقة‭ ‬الأستاذ‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين،‭ ‬فقد‭ ‬اعتبرت‭ ‬أننا‭ ‬أصبحنا‭ ‬أصدقاء‭ ‬ولم‭ ‬أنتبه‭ ‬إلى‭ ‬فارق‭ ‬السن‭ ‬الضخم‭ ‬بيننا‭. ‬أطرق‭ ‬الباب،‭ ‬فيسألني‭ ‬ضاحكاً‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬مجيئي‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬يعرف‭ ‬السبب،‭ ‬فأطلب‭ ‬منه‭ ‬كالعادة‭ ‬ملحق‭ ‬الأهرام‭. ‬يدخل‭ ‬ويحضر‭ ‬نسخة،‭ ‬ويقول‭ ‬ضاحكاً‭ ‬بصوت‭ ‬جهوري‭ ‬طيِّب‭: ‬‮«‬يا‭ ‬ابني‭ ‬عيب‭. ‬أبوك‭ ‬صحفي‭. ‬اشتروا‭ ‬الجورنال‭ ‬بقى‭. ‬عيب‭!‬‮»‬‭.‬

جمعت‭ ‬علاقة‭ ‬ممتدة‭ ‬وقوية‭ ‬بين‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي‭ ‬وصلاح‭ ‬جاهين‭ ‬كما‭ ‬يظن‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي،‭ ‬المشترك‭ ‬فيها‭ ‬صداقتهما‭ ‬لسعاد‭ ‬حسني،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يرهما‭ ‬يلتقيان‭ ‬أبداً‭: ‬‮«‬أما‭ ‬بهاء‭ ‬جاهين‭ ‬فكان‭ ‬صغيراً‭. ‬نراه‭ ‬أنا‭ ‬وأصدقائي‭ ‬يسير‭ ‬وقد‭ ‬عقد‭ ‬يديه‭ ‬خلف‭ ‬ظهره‭ ‬مطرق‭ ‬الرأس،‭ ‬كأنه‭ ‬مشغول‭ ‬بحل‭ ‬مسألة‭ ‬فلسفية‭. ‬نطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يلعب‭ ‬معنا‭ ‬فيرفض‭ ‬برزانة‭. ‬لكننا‭ ‬أحببناه‭ ‬وظللنا‭ ‬نلح‭ ‬عليه‭ ‬ونطلب‭ ‬صداقته‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬نتمكن‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬وهو‭ ‬كبير‮»‬‭.‬

كان‭ ‬الخميسي‭ ‬الصغير‭ ‬من‭ ‬أشد‭ ‬معجبي‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور،‭ ‬وحفظ‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬أحلام‭ ‬الفارس‭ ‬القديم‮»‬،‭ ‬ودائماً‭ ‬يردد‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭:‬‭ ‬‮«‬لو‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬جناحي‭ ‬نورس‭ ‬رقيق،‭ ‬وناعم،‭ ‬لا‭ ‬يبرح‭ ‬المضيق‭....‬‮»‬‭. ‬يحكي‭: ‬‮«‬رأيته‭ ‬مرات‭ ‬قليلة،‭ ‬خاصة‭ ‬حينما‭ ‬كان‭ ‬يركب‭ ‬سيارته‭ ‬الفولكس‭ ‬الصغيرة‭ ‬متجهاً‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬أمام‭ ‬العمارة‭ ‬15‭ ‬ب‭ ‬شارع‭ ‬نوبار‭ ‬إلى‭ ‬هيئة‭ ‬الكتاب‭. ‬يصر‭ ‬على‭ ‬توصيلي‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬حينما‭ ‬يراني‭. ‬كان‭ ‬شخصاً‭ ‬شديد‭ ‬النبل،‭ ‬به‭ ‬مسحة‭ ‬غير‭ ‬عادية‭ ‬من‭ ‬الحزن،‭ ‬كأن‭ ‬داخله‭ ‬هو‭ ‬مركز‭ ‬حزن‭ ‬العالم‭. ‬في‭ ‬السيارة‭ ‬لا‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬أبداً،‭ ‬ويسألني‭ ‬عن‭ ‬الأحوال‭ ‬وأبي‭ ‬وأمي‭ ‬وأخوتي،‭ ‬وفوجئت‭ ‬به‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬البرنامج‭ ‬الثاني‭ ‬يقول‭: ‬عندما‭ ‬يهبط‭ ‬غبار‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬ستبقى‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬قصائد‭ ‬قليلة،‭ ‬منها‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬في‭ ‬الليل‮»‬‭ ‬لعبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬غريباً‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي،‭ ‬فلم‭ ‬أتصور‭ ‬أن‭ ‬يلتفت‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬لأنها‭ ‬رومانتيكية،‭ ‬أما‭ ‬أجمل‭ ‬مفاجأة،‭ ‬فقد‭ ‬حدثت‭ ‬بعد‭ ‬سنوات،‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬غربتي‭ ‬في‭ ‬روسيا‭. ‬حين‭ ‬جاء‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الثلج،‭ ‬وبحث‭ ‬عني‭ ‬حتى‭ ‬وجدني،‭ ‬وكان‭ ‬مصرَّاً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يعاملني‭ ‬بنفس‭ ‬الرفق‭ ‬والمحبة‭ ‬والبساطة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعاملني‭ ‬بها‭ ‬وأنا‭ ‬صغير‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬فاجأني‭ ‬بهدية‭ ‬من‭ ‬القاهرة‮»‬‭.‬

اعتذار‭ ‬إلى‭ ‬الطفل‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ ‬

انتهت‭ ‬حكايات‭ ‬الطفل‭ ‬الأول‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي،‭ ‬لتبدأ‭ ‬حكايات‭ ‬الطفل‭ ‬الثاني‭ ‬بهاء‭ ‬جاهين‭:‬‭ ‬‮«‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬شقة‭ ‬عمارة‭ ‬نوبار‭ ‬لأني‭ ‬كنت‭ ‬ابن‭ ‬عامين،‭ ‬باستثناء‭ ‬ثلاثة‭ ‬مشاهد،‭ ‬أو‭ ‬فلنقل‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬دقة‭ ‬ثلاث‭ ‬لحظات،‭ ‬أستعيدها‭ ‬بالصوت‭ ‬والصورة‭. ‬في‭ ‬يوم‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬أشخاص‭ ‬يجلسون‭ ‬على‭ ‬كراسي‭ ‬خشب‭ ‬أحضرها‭ ‬أبي،‭ ‬ووضعها‭ ‬بامتداد‭ ‬حوائط‭ ‬الصالون،‭ ‬لتكفي‭ ‬عزومة‭ ‬يحضرها‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭. ‬أتذكر‭ ‬المشهد‭ ‬جيداً‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬شكل‭ ‬الأكواب‭ ‬والمشاريب‭ ‬داخلها،‭ ‬وأتذكر‭ ‬كذلك‭ -‬والله‭ ‬أعلم‭- ‬أنني‭ ‬أمسكت‭ ‬كوباً‭ ‬وارتشفت‭ ‬رشفة‭ ‬واحدة‭. ‬وقد‭ ‬حكى‭ ‬لي‭ ‬أحدهم‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أحب‭ ‬عبد‭ ‬الحليم‭ ‬حافظ‭ ‬جداً،‭ ‬وأتحدث‭ ‬عنه‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬مع‭ ‬أبي،‭ ‬فقال‭ ‬لي‭: ‬‮«‬طيب‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭ ‬أنا‭ ‬هجيبلك‭ ‬عبد‭ ‬الحليم‮»‬‭. ‬كان‭ ‬عندي‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التوقيت‭ ‬حينما‭ ‬رأيت‭ ‬عبد‭ ‬الحليم‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭. ‬المشهد‭ ‬التالي‭ ‬وأيضاً‭ ‬حكاه‭ ‬لي‭ ‬أحدهم‭ ‬أنني‭ ‬صعدت‭ ‬إلى‭ ‬الدور‭ ‬الخامس،‭ ‬في‭ ‬العمارة،‭ ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬حفلة،‭ ‬وصاحبها‭ ‬شخص‭ ‬اسمه‭ ‬صلاح‭. ‬أحدهم‭ ‬مد‭ ‬يده‭ ‬إليَّ‭ ‬بقزازة‭ ‬كازوزا،‭ ‬شربت‭ ‬منها،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬حكوا‭ ‬لي‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬عن‭ ‬صاحب‭ ‬هذه‭ ‬الشقة،‭ ‬فهمت‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور‭. ‬أما‭ ‬شقة‭ ‬الأستاذ‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي‭ ‬فلم‭ ‬تربطني‭ ‬بها‭ ‬ذكرى،‭ ‬وأنا‭ ‬أعتذر‭ ‬للأستاذ‭ ‬أحمد‭ ‬الخميسي‭ (‬يضحك‭) ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬صددته،‭ ‬ورفضت‭ ‬اللعب‭ ‬معه‭ ‬أو‭ ‬مع‭ ‬غيره‮»‬‭.‬

وهناك‭ ‬مشهد‭ ‬يعتبره‭ ‬بهاء‭ ‬ماستر‭ ‬سين‭ ‬للعلاقة‭ ‬مع‭ ‬الأب،‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬نوبار‭. ‬كان‭ ‬أبوه‭ ‬يحذره‭ ‬دائماً‭ ‬أن‭ ‬يغلق‭ ‬باب‭ ‬الحمام‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬لكنه‭ ‬تجاهل‭ ‬الأمر‭ ‬مرة‭ ‬وأغلقه،‭ ‬وحينما‭ ‬حاول‭ ‬فتحه‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭. ‬بكى‭ ‬بصوت‭ ‬عالٍ‭. ‬طرق‭ ‬الباب‭ ‬كثيراً،‭ ‬وفوجئ‭ ‬بأحدهم‭ ‬يدخل‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬شباك‭ ‬الحمام‭:‬‭ ‬‮«‬حينما‭ ‬تبيَّنتُه‭ ‬اتضح‭ ‬أنه‭ ‬أبي‭. ‬سحبني‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الحمام،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬انتهى‭ ‬الموقف‭ ‬بسلام‭ ‬واطمأن‭ ‬عليَّ‭ ‬تماماً،‭ ‬أنامني‭ ‬فوق‭ ‬فخذه‭ ‬و«هاتك‭ ‬يا‭ ‬ضرب‭ ‬بالشبشب‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬أكف‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭ ‬عن‭ ‬إغلاق‭ ‬باب‭ ‬الحمام‭ ‬من‭ ‬الداخل‮»‬‭. ‬استغرب‭ ‬بهاء‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬أبوه‭ ‬بهذه‭ ‬الحركات‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬رشاقة‭ ‬كبيرة‭. ‬كيف‭ ‬دخل‭ ‬بجسده‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬شباك‭ ‬المطبخ‭ ‬ثم‭ ‬تسحَّب‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬شباك‭ ‬الحمام؟‭ ‬لكن‭ ‬أمه‭ ‬أخبرته‭ ‬بعدها‭ ‬بسنوات‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يقم‭ ‬بحركات‭ ‬بهلوانية‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬المغامرة‭ ‬مخاطرة،‭ ‬إذ‭ ‬سار‭ ‬على‭ ‬أفريز‭ ‬عريض‭.‬

وقف‭ ‬بهاء‭ ‬مع‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين‭ ‬في‭ ‬البلكونة‭ ‬ذات‭ ‬مساء‭ ‬والأب‭ ‬سأله‭: ‬‮«‬نفسك‭ ‬تطلع‭ ‬إيه؟‮»‬‭ ‬ورد‭ ‬عليه‭: ‬‮«‬مهندس‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬حكى‭ ‬له‭ ‬حكاية‭ ‬حدثت‭ ‬أيام‭ ‬الوحدة‭ ‬بين‭ ‬مصر‭ ‬وسوريا‭ ‬ويصفها‭ ‬بهاء‭ ‬ضاحكاً‭ ‬بـ«فضيحة‮»‬‭. ‬جاءت‭ ‬الإذاعة‭ ‬لتسجِّل‭ ‬مع‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين‭ ‬ورأوا‭ ‬بهاء‭ ‬الطفل‭ ‬الصغير‭ ‬يمرُّ‭ ‬بالصدفة‭ ‬أمامهم‭ ‬فسأله‭ ‬المذيع‭: ‬‮«‬وانت‭ ‬يا‭ ‬حبيبي‭ ‬إيه‭ ‬رأيك‭ ‬في‭ ‬الوحدة؟‭!‬‮»‬‭ ‬فأمسك‭ ‬بالمايك‭ ‬وقال‭ ‬بصوت‭ ‬صبغه‭ ‬بلكنة‭ ‬أجنبية،‭ ‬ليبدو‭ ‬وكأنه‭ ‬إنجليزي،‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬الإنجليز‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬غادروا‭ ‬مصر‭ ‬منذ‭ ‬عامين‭ ‬فقط،‭ ‬والكراهية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تلاحقهم‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬أتكلم‭ ‬إنجليزى‭!‬‮»‬،‭ ‬يعلق‭ ‬بهاء‭ ‬ضاحكاً‭: ‬‮«‬يعني‭ ‬ضد‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬طول‭!‬‮»‬‭.  ‬حكى‭ ‬له‭ ‬أبوه‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬ضمن‭ ‬حكايات‭ ‬كثيرة‭ ‬أخرى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كبر‭ ‬قليلاً‭ ‬وصار‭ ‬يعي‭ ‬الأشياء‭.  ‬

يتذكر‭ ‬بهاء‭ ‬أن‭ ‬وعيه‭ ‬الداخلي‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬يتشكل‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬الهرم،‭ ‬وهو‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬دورين‭: ‬‮«‬كنا‭ ‬نسكن‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬العلوي،‭ ‬وجدتي‭ ‬وأبي‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬الأرضي‭.‬‭ ‬نزلت‭ ‬السلم‭ ‬وأنا‭ ‬عندي‭ ‬ست‭ ‬سنين،‭ ‬وتوقفت‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬الأرضي،‭ ‬فقد‭ ‬سمعت‭ ‬كلاماً‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬ينطلق‭ ‬في‭ ‬دماغي،‭ ‬كأن‭ ‬هناك‭ ‬شخصاً‭ ‬آخر‭ ‬بداخلي،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬حدث‭ ‬لي‭ ‬أبداً‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬فمي‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يعمل،‭ ‬أما‭ ‬دماغي‭ ‬فهذه‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬يعمل‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬كأنه‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يتحدث‭ ‬وليس‭ ‬أنا‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الوعي‭ ‬الداخلي،‭ ‬ومعناه‭ ‬أنني‭ ‬غادرت‭ ‬مرحلة‭ ‬البغبغان‭ ‬بلا‭ ‬رجعة‭. ‬كان‭ ‬إحساساً‭ ‬مدهشاً‭ ‬للغاية‭ ‬حتى‭ ‬أنني‭ ‬سألت‭ ‬نفسي‭: ‬ما‭ ‬هذا؟‭ ‬ارتبطت‭ ‬ببيتنا‭ ‬في‭ ‬الهرم‭ ‬لأسباب‭ ‬كثيرة،‭ ‬أولاً‭ ‬لأن‭ ‬جدي‭ ‬وجدتي‭ ‬لأبي‭ ‬اللذين‭ ‬أحبهما‭ ‬معي،‭ ‬وكذلك‭ ‬أولاد‭ ‬عماتي‭ ‬موجودون‭ ‬ونلعب‭ ‬سوياً‭. ‬وعيي‭ ‬تشكَّل،‭ ‬وبدأت‭ ‬أحفظ‭ ‬وأعي‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬حولي،‭ ‬ولا‭ ‬أحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬يحكي‭ ‬لي‭ ‬موقفاً‭ ‬عشته‭ ‬سابقاً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬انمحى‭ ‬تماماً‭ ‬من‭ ‬ذاكرتي‭. ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الذاكرة‭ ‬شبه‭ ‬ومضات‭ ‬أو‭ ‬لقطات‭ ‬أو‭ ‬مشاهد‭ ‬متفرقة‭ ‬وغير‭ ‬مترابطة،‭ ‬وإنما‭ ‬أصبح‭ ‬هناك‭ ‬شريط‭ ‬ملون‭ ‬وواضح‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭ ‬والذكريات‭. ‬مثلاً‭ ‬هناك‭ ‬مشهد‭ ‬مضحك‭ ‬جداً‭. ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الكبار‭ ‬قد‭ ‬قالوا‭ ‬لنا‭ ‬حينما‭ ‬توضع‭ ‬الأطباق‭ ‬على‭ ‬السفرة‭ ‬لا‭ ‬تمدوا‭ ‬أيديكم‭ ‬حتى‭ ‬يجلس‭ ‬الكبار‭ ‬ونأكل‭ ‬جميعاً‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد،‭ ‬وفي‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬جاءت‭ ‬عماتي‭ ‬وكنت‭ ‬ألعب‭ ‬مع‭ ‬أولادهن‭ ‬ودخلنا‭ ‬من‭ ‬الجنينة‭ ‬وكان‭ ‬الأكل‭ ‬الشهي‭ ‬موضوعاً‭ ‬على‭ ‬السُّفرة‭ ‬ويبدو‭ ‬أنني‭ ‬مددت‭ ‬يدي‭ ‬إلى‭ ‬طبق‭ ‬الفراخ‭ ‬وفوجئت‭ ‬بأبي‭ ‬يجري‭ ‬باتجاهي‭ ‬ويهجم‭ ‬عليَّ،‭ ‬فهربت‭ ‬منه،‭ ‬لكنه‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬مطاردتي‭ ‬حول‭ ‬طاولة‭ ‬السفرة،‭ ‬وكان‭ ‬جدي‭ ‬يجري‭ ‬وراء‭ ‬أبي‭ ‬حتى‭ ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬الفتك‭ ‬بي‭. ‬كانت‭ ‬أجيال‭ ‬الأسرة‭ ‬كلها‭ ‬تجري‭ ‬حول‭ ‬السفرة‭. ‬ثم‭ ‬عاقبوني‭ ‬بأن‭ ‬أودعوني‭ ‬غرفة‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬انتهوا‭ ‬من‭ ‬الغداء‭ ‬جاءت‭ ‬جدتي‭ ‬واصطحبتني‭ ‬لآكل‭ ‬مثلهم‮»‬‭.‬

الأب‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬كثيراً،‭ ‬وجزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬شغله‭ ‬خارج‭ ‬البيت،‭ ‬وهذه‭ ‬الفترة‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬فترة‭ ‬السبعينات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يخرج‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬البيت،‭ ‬إلا‭ ‬للشديد‭ ‬القوي،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بهاء‭ ‬يراه‭ ‬كثيراً‭. ‬عبد‭ ‬الحليم‭ ‬حافظ‭ ‬جاء‭ ‬إليهم‭ ‬بعربته‭ ‬المكشوفة‭ ‬ذات‭ ‬صباح‭. ‬سار‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬الهرم‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬بيتهم،‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬أسماعهم‭ ‬أن‭ ‬بنات‭ ‬الهرم‭ ‬كن‭ ‬يجرين‭ ‬خلف‭ ‬سيارته‭. ‬بهاء‭ ‬رأى‭ ‬عبد‭ ‬الحليم‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬مكتب‭ ‬الأب‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬الثاني،‭ ‬بدا‭ ‬له‭ ‬أنه‭ ‬يحلم‭ ‬وهو‭ ‬يتطلع‭ ‬إليه‭. ‬يراه‭ ‬وقد‭ ‬غادر‭ ‬التلفزيون‭ ‬ليجلس‭ ‬قبالته‭. ‬بهاء‭ ‬كان‭ ‬شديد‭ ‬الانبهار‭ ‬به،‭ ‬وقد‭ ‬رأى‭ ‬كذلك‭ ‬كمال‭ ‬الطويل‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬المكتب‭ ‬يطبل‭ ‬ويغني،‭ ‬ثم‭ ‬نهض‭ ‬عبد‭ ‬الحليم‭ ‬وجلس‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬البيانو‭ ‬وعزف‭ ‬وغنَّى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يلحنه‭ ‬الطويل‭: ‬‮«‬ميولي‭ ‬الفنية‭ ‬لم‭ ‬تتعد‭ ‬حبي‭ ‬لعبد‭ ‬الحليم،‭ ‬والبيانو‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬أبي‭ ‬أحضروه‭ ‬لي‭ ‬لأتعلم‭ ‬عليه،‭ ‬لكني‭ ‬لم‭ ‬أتعلم‭. ‬أمي‭ ‬كانت‭ ‬تذهب‭ ‬معي‭ ‬إلى‭ ‬الكونسرفتوار‭ ‬وتجلس‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬الفصل،‭ ‬وتنقل‭ ‬الكلام‭ ‬الذي‭ ‬يُكتب‭ ‬على‭ ‬السبورة‭ ‬في‭ ‬كراسة‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬إليها‭ ‬أبداً،‭ ‬ثم‭ ‬أرسلوني‭ ‬إلى‭ ‬معلمة‭ ‬خاصة‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬ينجح‭ ‬الأمر‭. ‬كانت‭ ‬تضعني‭ ‬على‭ ‬البيانو‭ ‬وأنا‭ ‬سرحان‭. ‬تمسك‭ ‬يدي‭ ‬وتضعها‭ ‬على‭ ‬المفاتيح‭ ‬وتقول‭ ‬بلكنتها‭ ‬الأجنبية‭: ‬‮«‬قول‭ ‬دو‭ ‬يا‭ ‬أخْمد‮»‬،‭ ‬فأنا‭ ‬اسمي‭ ‬في‭ ‬الورق‭ ‬عندها‭ ‬أحمد‭ ‬بهاء‭ ‬الدين،‭ ‬ثم‭ ‬قالت‭ ‬تلك‭ ‬السيدة‭ ‬الجميلة‭ ‬لأبي‭ ‬وأمي‭ ‬صراحة‭ ‬أنني‭ ‬لن‭ ‬أتعلم‭ ‬أبداً،‭ ‬ثم‭ ‬طلبوا‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أتدرب‭ ‬بمفردي،‭ ‬فقلت‭ ‬لهم‭ ‬إنني‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬العزف‭ ‬بل‭ ‬تأليف‭ ‬الموسيقى‭ ‬على‭ ‬البيانو‭ ‬مباشرة،‭ ‬والاثنان‭ ‬نظرا‭ ‬لي‭ ‬باستغراب‭ ‬شديد‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬ثقتي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬مبرر‭ ‬لها‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬أنا‭ ‬نفسي‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬جاءتني،‭ ‬فالفكرة،‭ ‬فكرة‭ ‬تأليف‭ ‬الموسيقى‭ ‬طرأت‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬التو،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬قد‭ ‬فكرت‭ ‬فيها‭ ‬سابقاً‮»‬‭.‬

هناك‭ ‬مشهد‭ ‬آخر‭ ‬يرتبط‭ ‬ببيت‭ ‬شارع‭ ‬سامي،‭ ‬وهو‭ ‬البيت‭ ‬الذى‭ ‬وُلد‭ ‬فيه‭ ‬وكان‭ ‬يقع‭ ‬أمام‭ ‬بيت‭ ‬جدته‭ ‬لأمه‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬لاظوغلي‭. ‬يتذكر‭ ‬بهاء‭ -‬أثناء‭ ‬وقوفه‭ ‬في‭ ‬البلكونة‭ ‬النحيلة‭ ‬الطويلة‭- ‬ولدين‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الطول‭ ‬ويرتديان‭ ‬نفس‭ ‬الملابس،‭ ‬يقفان‭ ‬أمامه‭. ‬ظل‭ ‬يتبادل‭ ‬معهما‭ ‬النظر‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يحاول‭ ‬أحدهما‭ ‬مبادرة‭ ‬الآخر‭ ‬بأي‭ ‬إشارة‭. ‬عرف‭ ‬بهاء‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أنهما‭ ‬أمين‭ ‬حداد‭ ‬وأخوه‭ ‬سليم‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬أقدم‭ ‬مشهد‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي،‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬فهمت‭ ‬أنهما‭ ‬أمين‭ ‬وسليم‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬المهم‭ ‬أنني‭ ‬عرفت‭ ‬وخلاص‭. ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬أول‭ ‬شقة‭ ‬سكناها،‭ ‬ثم‭ ‬تركناها‭ ‬إلى‭ ‬شقة‭ ‬نوبار،‭ ‬ثم‭ ‬بيت‭ ‬الهرم،‭ ‬ثم‭ ‬عدت‭ ‬مع‭ ‬أمى‭ ‬وأختى‭ ‬إلى‭  ‬بيت‭ ‬جدتي‭ ‬فى‭ ‬لاظوغلى‭. ‬كنت‭ ‬أحب‭ ‬شقة‭ ‬جدتي‭ ‬بمعمارها‭ ‬القديم‭ ‬ذي‭ ‬السقف‭ ‬المرتفع،‭ ‬ولم‭ ‬أحب‭ ‬الشقة‭ ‬التي‭ ‬وُلدتُ‭ ‬فيها‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬حديثة‭ ‬وذات‭ ‬سقف‭ ‬واطئ‭.‬‭ ‬لقد‭ ‬جاءت‭ ‬جدتي‭ ‬وسكنت‭ ‬هنا‭ ‬منذ‭ ‬الأربعينيات‭ ‬تقريباً،‭ ‬أنا‭ ‬أحب‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬لأني‭ ‬أحب‭ ‬جدتي‭. ‬وبيت‭ ‬الروضة‭ ‬الذي‭ ‬عشت‭ ‬فيه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬ارتبط‭ ‬بحرب‭ ‬67‭. ‬الحرب‭ ‬قامت‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتقلنا‭ ‬إليه‭ ‬بشهور،‭ ‬ورغم‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬طفلاً‭ ‬ولا‭ ‬أفهم‭ ‬معنى‭ ‬الحرب‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أحبه‭. ‬السيدة‭ ‬صاحبة‭ ‬العمارة‭ ‬بنت‭ ‬طابقين،‭ ‬وكلما‭ ‬جمعت‭ ‬مبلغاً‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬بنت‭ ‬طابقاً‭ ‬آخر‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬العمارة‭ ‬ستة‭ ‬طوابق،‭ ‬وحينما‭ ‬انتقلنا‭ ‬إليها‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬الأول‭ ‬بعد‭ ‬الأرضي،‭ ‬وفوقنا‭ ‬السطوح‭ ‬فقط‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬آخر،‭ ‬وكانت‭ ‬الشمس‭ ‬تتعبنا‭ ‬جداً‭ ‬في‭ ‬الصيف،‭ ‬وفي‭ ‬الشتاء‭ ‬لا‭ ‬تدخل‭ ‬غرفنا‭ ‬أبداً‭. ‬كان‭ ‬بيتاً‭ ‬كئيباً،‭ ‬ولأنه‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬خالتي‭ ‬ويكاد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ملاصقاً‭ ‬له‭ ‬ذهبنا‭ ‬إليها‭ ‬حينما‭ ‬قامت‭ ‬الحرب‭ ‬لنصبح‭ ‬معاً‭. ‬أتذكر‭ ‬جيداً‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬الخمسة‭ ‬وكان‭ ‬عندي‭ ‬11‭ ‬سنة‭. ‬كبرت‭ ‬وفهمت‭ ‬ووعيت‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬حولي‭ ‬جيداً‭. ‬آخر‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬حينما‭ ‬خرج‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬وألقى‭ ‬خطاب‭ ‬التنحي‭. ‬كنا‭ ‬نجلس‭ ‬في‭ ‬الصالة،‭ ‬العائلة‭ ‬كلها،‭ ‬ثم‭ ‬ألقى‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬خطاب‭ ‬التنحي‭ ‬وبعدها‭ ‬بساعة‭ ‬فوجئنا‭ ‬بهدير‭ ‬طائرات‭ ‬وانفجارات‭ ‬قنابل،‭ ‬كأن‭ ‬هناك‭ ‬غارة،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬أول‭ ‬إحساس‭ ‬حقيقي‭ ‬مباشر‭ ‬بالحرب‭. ‬استمر‭ ‬الرعب‭ ‬لمدة‭ ‬نصف‭ ‬الساعة‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الحرب‭ ‬قد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬ويبدو‭ ‬أنها‭ ‬وصلت‭ ‬إليها‭ ‬أخيراً‭. ‬الحرب‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬الأطراف‭ ‬دائماً‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬تأتي‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭. ‬وفي‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬على‭ ‬التنحي‭ ‬رأيت‭ ‬من‭ ‬البلكونة‭ ‬سيارات‭ ‬نقل‭ ‬مكتظة‭ ‬بالعمال‭ ‬والفلاحين‭ ‬والموظفين‭ ‬والناس‭ ‬العاديين،‭ ‬رجال‭ ‬ونساء،‭ ‬يهتفون،‭ ‬وسمعت‭ ‬أحدهم‭ ‬ينادي‭ ‬عليَّ‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬البيت‭: ‬‮«‬تعالى‭ ‬يا‭ ‬ولد‮»‬‭ ‬فانفجرت‭ ‬في‭ ‬البكاء،‭ ‬وكان‭ ‬بكاء‭ ‬عجيباً،‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬ذا‭ ‬معنى،‭ ‬هو‭ ‬بكاء‭ ‬أطفال‭ ‬يحدث‭ ‬فجأة،‭ ‬طفل‭ ‬صامت‭ ‬ثم‭ ‬ينفجر‭ ‬في‭ ‬البكاء‭. ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إنه‭ ‬حدث‭ ‬بسبب‭ ‬الصدمة‭ ‬فلم‭ ‬أكن‭ ‬مدركاً‭ ‬جيداً‭ ‬لأبعادها‮»‬‭.‬

صداقة‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬الزمالك

أطول‭ ‬فترة‭ ‬مكث‭ ‬فيها‭ ‬بهاء‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬الروضة‭. ‬استقر‭ ‬به‭ ‬لمدة‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً‭. ‬عاش‭ ‬الأب‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين‭ ‬فى‭  ‬بنسيون‭ ‬فى‭ ‬وسط‭ ‬البلد،‭ ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬منذ‭ ‬أواخر‭ ‬الستينيات‭ ‬وحتى‭ ‬بدايات‭ ‬السبعينيات‭ ‬إلى‭ ‬الزمالك‭ ‬ليعيش‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬استوديو‭ ‬مع‭ ‬السيدة‭ ‬منى‭ ‬قطان‭ ‬زوجته‭ ‬الثانية،‭ ‬وهذه‭ ‬الفترة‭ ‬بدأ‭ ‬بهاء‭ ‬يتحرك‭ ‬بمفرده‭. ‬كان‭ ‬صبياً‭ ‬في‭ ‬الثالثة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬أصبح‭ ‬لديه‭ ‬وعي‭ ‬بفكرة‭ ‬الصداقة‭ ‬والأبوة‭ ‬والبنوة‭. ‬لمدة‭ ‬عام‭ ‬أو‭ ‬اثنين‭ ‬راكم‭ ‬الابن‭ ‬والأب‭ ‬الذكريات‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬الزمالك‭ ‬الصغيرة‭ ‬وتبادلا‭ ‬الأحاديث،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تزوج‭ ‬الأب‭ ‬رغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬شقة‭ ‬كبيرة‭ ‬فذهب‭ ‬عام‭ ‬1970‭ ‬إلى‭ ‬شقة‭ ‬سفنكس‭ (‬10‭ ‬شارع‭ ‬جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭) ‬التي‭ ‬عاش‭ ‬فيها‭ ‬بقية‭ ‬حياته‭ ‬وحتى‭ ‬رحيله‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1986‭: ‬‮«‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬قوت‭ ‬علاقتي‭ ‬به‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬أحضرها‭ ‬لي‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬11‭ ‬عاماً‭ ‬وحتى‭ ‬13‭ ‬تقريباً‭. ‬أحضر‭ ‬لي‭ ‬مجموعة‭ ‬للفتيان‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬أولادنا‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬تضم‭ ‬كتباً‭ ‬وروايات‭ ‬مبسطة،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬قصة‭ ‬مدينتين‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬أحضر‭ ‬لي‭ ‬مجموعة‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬شبابنا‮»‬‭ ‬ومجموعة‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬حول‭ ‬العالم‮»‬‭ ‬كل‭ ‬كتاب‭ ‬منها‭ ‬يحكي‭ ‬عن‭ ‬بلد‭ ‬ما،‭ ‬ثم‭ ‬حدث‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الثورة‭ ‬في‭ ‬عقلي‭ ‬حينما‭ ‬أحضر‭ ‬لي‭ ‬عام‭ ‬1969‭ -‬وكنت‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬التانى‭ ‬الإعدادي‭- ‬أربعة‭ ‬أجزاء‭ ‬أصدرتها‭ ‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الكاملة‭ ‬لدستويفسكي‭ ‬بترجمة‭ ‬سامي‭ ‬الدروبي‭. ‬تلك‭ ‬الأجزاء‭ ‬ضمَّت‭ ‬كتاباته‭ ‬الأولى،‭ ‬وروايته‭ ‬‮«‬مذلون‭ ‬مهانون‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬رواية‭ ‬كبيرة‭ ‬حجماً‭. ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬عملت‭ ‬لي‭ ‬نقلة‭ ‬ضخمة‭ ‬في‭ ‬عقلي،‭ ‬وأظن‭ ‬أنها‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬أبكي‭ ‬فيها‭ ‬وأنا‭ ‬أقرأ‭ ‬كتاباً‭. ‬علاقتي‭ ‬بالأدب‭ ‬بدأت‭ ‬بهذه‭ ‬المجموعة،‭ ‬وأتذكر‭ ‬كذلك‭ ‬كتاباً‭ ‬مهماً‭ ‬آخر‭ ‬أثَّر‭ ‬في‭ ‬وعيي،‭ ‬وجدته‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬جدي‭ ‬لأبي‭ ‬المستشار‭ ‬بهجت‭ ‬حلمي‭ ‬في‭ ‬الفلاحين،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬بنى‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬الصغير‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬خرج‭ ‬على‭ ‬المعاش‭ ‬وعاش‭ ‬فيه‭ ‬مع‭ ‬جدتي،‭ ‬كنا‭ ‬نذهب‭ ‬إليهما‭ ‬مرة‭ ‬أو‭ ‬مرتين‭ ‬في‭ ‬العام،‭ ‬وفي‭ ‬إحدى‭ ‬الزيارات‭ ‬وجدت‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬الصندرة،‭ ‬أقصد‭ ‬رواية‭ ‬فتحي‭ ‬غانم‭ ‬‮«‬الساخن‭ ‬والبارد‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬حب‭ ‬بين‭ ‬مصري‭ ‬وسويدية‭. ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬أثارت‭ ‬دهشتي،‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬قصصى‭ ‬مكتوب‭ ‬للكبار‭ ‬أقرؤه،‭  ‬قبل‭ ‬الأعمال‭ ‬العظيمة‭ ‬لدستويفسكي‮»‬‭. ‬

لم‭ ‬يجرِّب‭ ‬بهاء‭ ‬جاهين‭ ‬كتابة‭ ‬القصة،‭ ‬وبدأ‭ ‬بالشعر‭ ‬مباشرة‭. ‬كتب‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬تعبانة‮»‬‭ ‬بتعبيره،‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬التقليد‭ ‬مطلعها‭: ‬‮«‬أردن‭ ‬يا‭ ‬شرق‭ ‬الحصون،‭ ‬عن‭ ‬أراضيك‭ ‬زود‭ ‬وصون،‭ ‬المراعي‭ ‬وغصون‭ ‬الزتون‮»‬‭ ‬عرضها‭ ‬على‭ ‬الأب،‭ ‬فطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يُغيِّر‭ ‬كلمة‭ ‬المراعي‭ ‬بكلمة‭ ‬المرعى‭ ‬حتى‭ ‬يستقيم‭ ‬الوزن،‭ ‬وكان‭ ‬الأستاذ‭ ‬إبراهيم‭ ‬رجب‭ ‬الملحن‭ ‬‭-‬الله‭ ‬يرحمه‭- ‬بصحبته‭ ‬ساعتها،‭ ‬وسمعه‭ ‬يقول‭ ‬له،‭  ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬سفنكس‭: ‬‮«‬الولد‭ ‬ده‭ ‬فيه‭ ‬مني‭ ‬ومن‭ ‬فؤاد‭ ‬حداد‮»‬‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الاعتراف‭ ‬الأول‭ ‬به‭ ‬شعرياً‭ ‬من‭ ‬جاهين‭ ‬الأكبر‭. ‬ذهب‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين‭ ‬للعلاج‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬وعاد،‭ ‬وكان‭ ‬بهاء‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬مع‭ ‬أهل‭ ‬أمه‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬يكتب‭ ‬الشعر‭ ‬بانتظام‭ ‬في‭ ‬كراسة‭ ‬خضراء،‭ ‬عرضها‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬الكلام‭ ‬حلو‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬وزن،‭ ‬فسأله‭ ‬بهاء‭ ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬الوزن؟‭ ‬فأحضر‭ ‬صلاح‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬كلمة‭ ‬سلام‮»‬‭ ‬وقرأ‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬دموع‭ ‬ورا‭ ‬البرقع‮»‬‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬لوحدي‭ ‬مفيش‭ ‬حاجة،‭ ‬مجرد‭ ‬اسم‭ ‬متشخبط‭ ‬على‭ ‬ورقة،‭ ‬ف‭ ‬إيد‭ ‬واحد‭ ‬مدير‭ ‬أصله‭ ‬قومسيونجي،‭ ‬يقدمها‭ ‬لتركي‭ ‬ولا‭ ‬لخواجة‭....‬‮»‬،‭ ‬وتفعيلة‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬هي‭ ‬‮«‬مفاعيلن‮»‬‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬صلاح‭ ‬قد‭ ‬اختارها‭ ‬لأنها‭ ‬واضحة‭ ‬وسهلة‭ ‬وجميلة‭ ‬في‭ ‬نطقها‭ ‬وفي‭ ‬سماعها‭. ‬بدأ‭ ‬يقرأ‭ ‬أمام‭ ‬ابنه‭ ‬الذي‭ ‬يشق‭ ‬طريقه‭ ‬بالكاد‭ ‬مع‭ ‬الشعر‭ ‬بطريقة‭ ‬تجعل‭ ‬الموسيقى‭ ‬عالية،‭ ‬إذ‭ ‬يقوم‭ ‬بتقطيع‭ ‬الكلمات‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬الوزن،‭ ‬حتى‭ ‬يفهم‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬يقصده،‭ ‬معنى‭ ‬الوزن،‭ ‬لكنه‭ ‬نصحه‭ ‬بألا‭ ‬يكتب‭ ‬بهذه‭ ‬التفعيلة،‭ ‬وأن‭ ‬يبدأ‭ ‬بتفعيلة‭ ‬‮«‬مستفعلن‮»‬‭ ‬فهى‭ ‬سهلة‭ ‬وتسعون‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬مكتوب‭ ‬بها،‭ ‬وصاح‭ ‬بصوت‭ ‬عال‭ ‬وبنفس‭ ‬التقطيع‭ ‬الموسيقي‭: ‬‮«‬مستفعلن‭ ‬مستفعلن‮»‬‭ ‬ولم‭ ‬يُكذِّب‭ ‬بهاء‭ ‬خبراً‭. ‬أغلق‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬باب‭ ‬غرفة،‭ ‬وكتب‭ ‬قصيدة‭ ‬فوراً‭ ‬كل‭ ‬سطر‭ ‬فيها‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬تفعيلة‭ ‬واحدة‭ ‬فقط‭: ‬‮«‬يا‭ ‬شعبنا،‭ ‬انهض‭ ‬وسر،‭ ‬وانس‭ ‬الخطر،‭ ‬زحف‭ ‬العدو‭ ‬المستمر،‭ ‬زحف‭ ‬القدر،‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العصر‭ ‬الغبِرْ،‭ ‬عصر‭ ‬القمر‮»‬‭. ‬وبعدها‭ ‬عافر‭ ‬بهاء‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فهم‭ ‬كل‭ ‬التفعيلات‭. ‬مرة‭ ‬يزنها‭ ‬بشكل‭ ‬صحيح،‭ ‬ومرة‭ ‬يخطئ،‭ ‬حتى‭ ‬أجادها‭ ‬فجأة،‭ ‬تماماً‭ ‬مثل‭ ‬شخص‭ ‬يتعلم‭ ‬قيادة‭ ‬سيارة‭ ‬وفجأة‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬يسوق‭ ‬بشكل‭ ‬ممتاز‭. ‬عرف‭ ‬ذلك‭ ‬حينما‭ ‬كف‭ ‬عن‭ ‬حسابات‭ ‬السكون‭ ‬والحركة،‭ ‬والكلمة‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬الكلمة،‭ ‬وسارت‭ ‬الأمور‭ ‬كما‭ ‬يجب‭.‬

بهاء‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬أمين‭ ‬حداد‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬رغم‭ ‬تزاملهما‭ ‬لسنة‭ ‬فى‭ ‬الأورمان‭ ‬الثانوية‭: ‬‮«‬كان‭ ‬خجولاً‭ ‬للغاية،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬قد‭ ‬رأيته‭ ‬أبداً،‭ ‬ولم‭ ‬أربط‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬ذكرى‭ ‬طفلي‭ ‬البلكونة‭. ‬عرفت‭ ‬أمين‭ ‬حينما‭ ‬ذهبنا‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أيام‭ ‬عام‭ ‬1978‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬فؤاد‭ ‬حداد‭. ‬أبي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬حكى‭ ‬لي،‭ ‬أنه‭ ‬وهو‭ ‬شاب‭ ‬صغير،‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬مني،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬انطوائياً‭. ‬حينما‭ ‬يعجبه‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬أحدهم‭ ‬يبحث‭ ‬عنه‭ ‬ليصادقه،‭ ‬وقد‭ ‬قرأ‭ ‬بضع‭ ‬سطور‭ ‬لفؤاد‭ ‬حداد‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬بأيام‭ ‬قليلة‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الجرائد‭ ‬اليسارية‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬وقتها،‭ ‬فأحبه‭ ‬جداً،‭ ‬خاصة‭ ‬أنه‭ ‬كانت‭ ‬لديه‭ ‬بدايات‭ ‬على‭ ‬استحياء‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬شعر‭ ‬العامية،‭ ‬وفجأة‭ ‬وجد‭ ‬روحاً‭ ‬أخرى‭ ‬تمارس‭ ‬نفس‭ ‬الفكرة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬آخر‭ ‬خلافهما‭ ‬يكتب‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬بشعر‭ ‬العامية‭ ‬المصرية‭ ‬المختلف‭ ‬عن‭ ‬الزجل‭. ‬دفعه‭ ‬انبهاره‭ ‬إلى‭ ‬النبش‭ ‬عن‭ ‬حداد،‭ ‬الذي‭ ‬يكتب‭ ‬شعراً‭ ‬عميقاً‭ ‬وحديثاً‭. ‬فؤاد‭ ‬حداد‭ ‬خريج‭ ‬مدارس‭ ‬فرنسية،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬دراية‭ ‬عظيمة‭ ‬بالشعر‭ ‬الفرنسي،‭ ‬وصلاح‭ ‬جاهين‭ ‬قرأ‭ ‬معه‭ ‬الشعر‭ ‬الفرنسي،‭ ‬وبما‭ ‬أني‭ ‬لا‭ ‬أجيد‭ ‬الفرنسية‭ ‬أردت‭ ‬كذلك‭ ‬قراءة‭ ‬الشعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬بمساعدة‭ ‬فؤاد‭ ‬حداد‭. ‬اصطحبني‭ ‬أبي‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الطلبة‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يبعد‭ ‬كثيراً‭ ‬عن‭ ‬بيته‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬سفنكس‭. ‬أحببت‭ ‬البيت‭ ‬فوراً‭ ‬ووقعت‭ ‬في‭ ‬محبة‭ ‬عم‭ ‬فؤاد‭ ‬وزوجته‭ ‬طنط‭ ‬زكية،‭ ‬وحسن‭ ‬الصغير‭ ‬وأمين‭ ‬الأوسط‭ ‬وسليم‭ ‬الكبير‭. ‬لكن‭ ‬أكثر‭ ‬شخص‭ ‬شدَّني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬هو‭ ‬فؤاد‭ ‬حداد‭ ‬الإنسان‭ ‬والشاعر،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬نشر‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬فبدأت‭ ‬أسمع‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬قصائده‭. ‬لم‭ ‬يُجِد‭ ‬تسويق‭ ‬نفسه‭. ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬السبب‭ ‬الأساسي‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬نشر‭ ‬أعماله‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬هوى‭ ‬الحاكمين،‭ ‬ومكث‭ ‬طويلاً‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬ورفض‭ ‬كل‭ ‬محاولات‭ ‬الناس‭ ‬لإرسال‭ ‬صكوك‭ ‬استرحام،‭ ‬وقد‭ ‬سُجن‭ ‬مرتين‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1951،‭ ‬ومرة‭ ‬أطول‭ ‬عام‭ ‬1959،‭ ‬إذ‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1964،‭ ‬وبالتالي‭ ‬أضاع‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬شبابه‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬ثم‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الصداقات،‭ ‬لتسويق‭ ‬نفسه،‭ ‬كان‭ ‬عنده‭ ‬إحساس‭ ‬كبير‭ ‬جداً‭ ‬بالكبرياء،‭ ‬فلم‭ ‬يتذكره‭ ‬أحد‭ ‬وقتها‭ ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يطلب‭ ‬أن‭ ‬يتذكره‭ ‬أحد،‭ ‬كتب‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬العظيم‭ ‬غير‭ ‬المنشور،‭ ‬كتب‭ ‬ديوانين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬في‭ ‬الخمسينيات‭ ‬والستينيات‭ ‬وبعد‭ ‬وفاة‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬أصدر‭ ‬كتاباً‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬استشهاد‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‮»‬‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬قصيدة‭ ‬واحدة‭ ‬طويلة،‭ ‬وقد‭ ‬مرض‭ ‬بسبب‭ ‬فترة‭ ‬السادات،‭ ‬وأصيب‭ ‬برهاب‭ ‬الميادين‭ ‬الواسعة‭ ‬وحينما‭ ‬كان‭ ‬يهبط‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬ويسير‭ ‬قليلاً‭ ‬يدوخ‭ ‬ويقع،‭ ‬ولجأ‭ ‬للطب‭ ‬لكي‭ ‬يُعالج‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الدوار،‭ ‬والأطباء‭ ‬وصفوا‭ ‬له‭ ‬أدوية‭ ‬جعلته‭ ‬مُخدَّراً‭ ‬وثقيلاً‭ ‬وغير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الكتابة،‭ ‬وحينما‭ ‬قابلته‭ ‬في‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬عام‭ ‬1978‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الكتابة،‭ ‬حتى‭ ‬أصيب‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1980‭ ‬بجلطة‭ ‬في‭ ‬القلب،‭ ‬واستمر‭ ‬شهوراً‭ ‬طريح‭ ‬الفراش،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬التعافي‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬الأطباء‭ ‬إن‭ ‬الأدوية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعالجه‭ ‬من‭ ‬دوار‭ ‬الميادين‭ ‬والشوارع‭ ‬الواسعة‭ ‬غير‭ ‬جيدة‭ ‬لحالة‭ ‬قلبه‭ ‬ونصحوه‭ ‬بأن‭ ‬يمتنع‭ ‬عنها،‭ ‬ومع‭ ‬توقفه‭ ‬عن‭ ‬تناولها‭ ‬تدفق‭ ‬الشعر‭ ‬بعرامة‭ ‬شديدة‭ ‬جداً،‭ ‬وفي‭ ‬آخر‭ ‬خمسة‭ ‬أعوام‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬كتب‭ ‬عدداً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬الدواوين‭ ‬لا‭ ‬أتذكره‭ ‬بالضبط،‭ ‬ربما‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬عشرة‭ ‬دواوين‭ ‬مثلاً،‭ ‬كلها‭ ‬باستثناء‭ ‬ديوان‭ ‬واحد‭ ‬لم‭ ‬تنشر‭ ‬في‭ ‬حياته‮»‬‭.‬

شعر‭ ‬بهاء‭ ‬أن‭ ‬فؤاد‭ ‬حداد‭ ‬إنسان‭ ‬وديع‭ ‬جداً‭ ‬وطيب‭ ‬وجميل‭ ‬وفيه‭ ‬براءة‭ ‬شديدة‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬بعد‭ ‬الزيارات‭ ‬الأولى‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬أبيه‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين‭ ‬وقال‭ ‬له‭:‬‭ ‬‮«‬شكلك‭ ‬طفل‭ ‬ذكي‭ ‬عنده‭ ‬6‭ ‬سنين‭ ‬أما‭ ‬عم‭ ‬فؤاد‭ ‬فعنده‭ ‬براءة‭ ‬طفل‭ ‬عنده‭ ‬سنتين‮»‬‭. ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصيب‭ ‬حداد‭ ‬بجلطة‭ ‬القلب‭ ‬أصبح‭ ‬فيه‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الحدة‭ ‬والغضب‭ ‬تجاه‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الغضب‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬أبداً‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬شكوى،‭ ‬وإنما‭ ‬امتزج‭ ‬بشعره‭. ‬يقول‭ ‬بهاء‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬مدين‭ ‬له‭ ‬بالكثير،‭ ‬ومن‭ ‬أسعد‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬أتذكرها‭ ‬حينما‭ ‬قرأت‭ ‬عليه‭ ‬قصيدة‭ ‬أولها‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬قلت‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬طلعش‭ ‬من‭ ‬قلبي،‭ ‬عيطت‭ ‬من‭ ‬غُلبي‮»‬،‭ ‬فقال‭ ‬لي‭: ‬‮«‬آهو‭ ‬انت‭ ‬كده‭ ‬بقيت‭ ‬موجود‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬وجدته‭ ‬يقول‭ ‬لي‭: ‬‮«‬انت‭ ‬أعمق‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬جيلك‮»‬‭. ‬كنا‭ ‬نقرأ‭ ‬بعض‭ ‬النماذج‭ ‬عليه،‭ ‬وسعدت‭ ‬جداً‭ ‬بذلك‭ ‬التقدير‭. ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬نماذج‭ ‬الفصحى‭ ‬التي‭ ‬أكتبها‭ ‬لكنه‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬توسِّع‭ ‬قاموسك‭ ‬قليلاً،‭ ‬لأن‭ ‬مفرداتك‭ ‬قليلة،‭ ‬كنت‭ ‬أكرر‭ ‬فى‭ ‬القوافى‭ ‬كلمات‭ ‬من‭ ‬عينة‭ ‬النبيل‭ ‬والجميل‭ ‬وغيرهما‭. ‬شعر‭ ‬أنني‭ ‬مزنوق‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القافية،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬منتبهاً‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬توسيع‭ ‬مفردات‭ ‬الشاعر‮»‬‭. ‬

مع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬تعلق‭ ‬بهاء‭ ‬به‭ ‬وانبهر‭ ‬بشعره‭ ‬وتعرض‭ ‬لشلالات‭ ‬هائلة‭ ‬متدفقة‭ ‬من‭ ‬قصائده،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليستمع‭ ‬إليها‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يقده‭ ‬الحظ‭ ‬إلى‭ ‬هناك،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أغلبها‭ ‬غير‭ ‬منشور،‭ ‬وتعرَّف‭ ‬بهاء‭ ‬على‭ ‬شعراء‭ ‬شلة‭ ‬الوراق‭ ‬الذين‭ ‬اكتشفوا‭ ‬بيت‭ ‬فؤاد‭ ‬حداد‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬التوقيت،‭ ‬محمد‭ ‬كشيك‭ ‬وعمر‭ ‬الصاوي‭ ‬ورجب‭ ‬الصاوي‭ ‬وأشرف‭ ‬عامر،‭ ‬وكذلك‭ ‬شاعر‭ ‬عامية‭ ‬صديق‭ ‬له‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬الإعدادية‭ ‬هو‭ ‬عمرو‭ ‬حسني،‭ ‬يعتبره‭ ‬أخاه‭ ‬الثالث‭: ‬‮«‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬شاعر‭ ‬عظيم‭ ‬جداً‭ ‬كتب‭ ‬شيئاً‭ ‬على‭ ‬استحياء‭ ‬وتردد‭ ‬طويلاً‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعرضه‭ ‬عليَّ‭ ‬وهو‭ ‬أمين‭ ‬حداد‭. ‬كتب‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الشهر‭ ‬الذي‭ ‬توفي‭ ‬فيه‭ ‬أنور‭ ‬السادات،‭ ‬أكتوبر‭ ‬عام‭ ‬81‭. ‬كان‭ ‬عنده‭ ‬23‭ ‬سنة،‭ ‬وهو‭ ‬سن‭ ‬متأخر،‭ ‬لكنه‭ ‬كتب‭ ‬شعراً‭ ‬ناضجاً،‭ ‬ولم‭ ‬يتهته‭ ‬مثل‭ ‬كثير‭ ‬منا‭ ‬في‭ ‬البدايات،‭ ‬تصاحبنا‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬الألفة‭ ‬أو‭ ‬الكيمياء،‭ ‬وأمينة‭ ‬أختي‭ ‬عرفت‭ ‬طريق‭ ‬بيت‭ ‬حداد،‭ ‬وأحبت‭ ‬أمين،‭ ‬وأمين‭ ‬أحبها،‭ ‬وتطورت‭ ‬العلاقة‭ ‬من‭ ‬صداقة‭ ‬إلى‭ ‬علاقة‭ ‬عائلية‭. ‬لم‭ ‬نجامل‭ ‬بعضنا‭ ‬أنا‭ ‬وأمين‭. ‬كنا‭ ‬ولا‭ ‬نزال‭ ‬أخوين‭ ‬يتعاملان‭ ‬مع‭ ‬بعضهما‭ ‬بالصدق‭ ‬وحده‮»‬‭.. ‬

يتذكر‭ ‬بهاء‭ ‬ملمحاً‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬عاش‭ ‬فيه‭. ‬في‭ ‬الروضة‭ ‬لوحة‭ ‬بألوان‭ ‬المياه‭ ‬لصلاح‭ ‬جاهين‭ ‬شاباً‭ ‬رسمها‭ ‬جمال‭ ‬عنايت‭ ‬زميله‭ ‬في‭ ‬‮«‬صباح‭ ‬الخير‮»‬،‭ ‬وبورتريهات‭ ‬رسمها‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين‭ ‬بالجواش،‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬البورتريه‭ ‬العادي‭ ‬والكاريكاتير،‭ ‬منها‭ ‬بورتريه‭ ‬لجده‭ ‬المستشار‭ ‬بهجت‭ ‬حلمي،‭ ‬ولوحة‭ ‬أخرى‭ ‬لأمه،‭ ‬وكذلك‭ ‬لوحتان‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬بريشة‭ ‬آدم‭ ‬حنين‭ ‬صديق‭ ‬الأب‭. ‬كان‭ ‬اسم‭ ‬آدم‭ ‬الحقيقي‭ ‬هو‭ ‬صمويل‭ ‬هنري‭ ‬وحينما‭ ‬تصادق‭ ‬مع‭ ‬الفنان‭ ‬مكرم‭ ‬حنين‭ ‬ووصلت‭ ‬صداقتهما‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الأخوة‭ ‬غيَّر‭ ‬اسمه‭ ‬الفني‭ ‬وسمَّى‭ ‬نفسه‭ ‬آدم‭ ‬حنين،‭ ‬كأنهما‭ ‬شقيقان‭ ‬لأب‭ ‬واحد،‭ ‬ثم‭ ‬هاجر‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬وعاش‭ ‬فترات‭ ‬طويلة‭ ‬وبعد‭ ‬وفاة‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬أما‭ ‬سفنكس‭ ‬فيتذكر‭ ‬بهاء‭ ‬شيئاً‭ ‬غريباً‭ ‬وجميلاً‭ ‬فيها‭: ‬‮«‬أنت‭ ‬تعرف‭ ‬بورتريهات‭ ‬الفيوم‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬أيام‭ ‬الوجود‭ ‬الروماني‭ ‬في‭ ‬مصر‭. ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬الصالون‭ ‬غطاء‭ ‬تابوت‭ ‬مرسوم‭ ‬عليه‭ ‬بورتريه‭ ‬لوجه‭ ‬جميل،‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬الفيوم‭. ‬أبي‭ ‬رسم‭ ‬لي‭ ‬صورة‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬المراهقة‭ ‬تأثراً‭ ‬بهذه‭ ‬البورتريهات‭ ‬وهي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬واقعية‭ ‬وإنما‭ ‬ذات‭ ‬نزعة‭ ‬تجميلية‭ ‬وبالتالي‭ ‬جعلني‭ ‬أبي‭ ‬أجملَ‭ ‬من‭ ‬شكلي‭ ‬الحقيقي،‭ ‬وأتذكر‭ ‬بورتريهاً‭ ‬لأمي‭ ‬الثانية‭ ‬منى‭ ‬قطان‭ ‬أم‭ ‬أختي‭ ‬سامية،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬البورتريهات‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬في‭ ‬السبعينات‭ ‬وهي‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬بورتريهات‭ ‬الخمسينات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬كاريكاتير‮»‬‭.‬

شخصية‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين‭ ‬لم‭ ‬تتغير‭ ‬بسبب‭ ‬نقله‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬إلى‭ ‬بيت،‭ ‬وإنما‭ ‬تغيرت‭ ‬حينما‭ ‬حدثت‭ ‬نكسة‭ ‬1967،‭ ‬وتغيرت‭ ‬كذلك‭ ‬لأنه‭ ‬دخل‭ ‬مرحلة‭ ‬الكهولة،‭ ‬أو‭ ‬لأن‭ ‬السببين‭ ‬تزامنا‭. ‬عزل‭ ‬نفسه‭ ‬وكان‭ ‬يعمل‭ ‬من‭ ‬البيت،‭ ‬كان‭ ‬يأتي‭ ‬إليه‭ ‬الرجل‭ ‬الغامض‭ - ‬كما‭ ‬يسميه‭ - ‬على‭ ‬موتوسيكل‭ ‬ليأخذ‭ ‬منه‭ ‬الرسمة‭. ‬أصبح‭ ‬يمارس‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬والحياة‭ ‬كلها‭ ‬كانت‭ ‬تحضر‭ ‬إليه،‭ ‬أصدقاؤه‭ ‬وأبناؤه‭ ‬ومحبوه‭ ‬وحكاياتهم‭.‬

كانت‭ ‬عمارة‭ ‬الشعراء‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أخوية‭ ‬للشعر‭ ‬والأدب‭ ‬والسياسة‭ ‬والأحلام‭ ‬والتوق‭ ‬إلى‭ ‬الحرية،‭ ‬وجمعت‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجمعه‭ ‬سوى‭ ‬فردوس‭ ‬يفتح‭ ‬أبوابه‭ ‬للجميع،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬حكايات‭ ‬شعرائها‭ ‬الثلاثة،‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور،‭ ‬وصلاح‭ ‬جاهين،‭ ‬وعبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الخميسي‭ ‬قد‭ ‬انتهت،‭ ‬لكنَّ‭ ‬هناك‭ ‬أبطالاً‭ ‬آخرين‭ ‬لها،‭ ‬كتاباً‭ ‬وفنانين،‭ ‬جذبتهم‭ ‬بغوايتها‭ ‬ذهبوا‭ ‬وتركوا‭ ‬حكايات‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬من‭ ‬يجمعها‭ ‬ويدونها‭ ‬ويكتب‭ ‬فصلاً‭ ‬جديداً‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬تلك‭ ‬التحولات،‭ ‬من‭ ‬الملكية‭ ‬إلى‭ ‬الناصرية‭ ‬إلى‭ ‬الانفتاح،‭ ‬ومن‭ ‬الإيمان‭ ‬بثورة‭ ‬يوليو‭ ‬إلى‭ ‬الكفر‭ ‬بها،‭ ‬ومن‭ ‬الصداقة‭ ‬إلى‭ ‬التخوين،‭ ‬ومن‭ ‬جمال‭ ‬المعمار‭ ‬إلى‭ ‬قبح‭ ‬الصورة‭. ‬