نحن نعلم أن القصة القصيرة، هى حكاية أدبية ، تُدرك لتُقصّ، وهى قصيرة نسبيا ، ذات خطة بسيطة ، وحدث محدد ، حول جانب من الحياة ، لا فى واقعها العادى والمنطقى ، وإنما طبقا لنظرة مثالية ورمزية ، ولا تنمّى أحداثا وبيئاتٍ وشخوصا ، وإنما توجز فى لحظة واحدة حدثا. ذا معنًى كبير . . !والمبدع عادةً - وعلى وجه الخصوص - القاص، أو الروائى ، أو الشاعر.. يكشف موضوعه ، حين يحرك روحه حدث خارجى ، أو انفعال داخلى ، يقع على شخصه ، أو يمس الذين حوله ، ويحس بالرغبة فى إعطاء هذاالأحساس أو الشعور ، شكلا خارجيا ، وحينئذ يتخيل الصورة التى يجئ عليها ، فى خطوطها العريضة ، ويستعد له نفسيا برسم الخريطة ، وتنظيم المادة.
والدوران حول الموضوع ، والتفكير المتواصل فيه ، والإلحاح على متابعته ، فاذا نضج كل شئ داخله ، جاء التعبير ليعطى شكله النهائى، فتسقط كل فكرة على كلمتها ، وتتجسم الأفكار فى الصور ، فالشكل والمضمون ، أو بتعبير آخر الصورة والمحتوى ، لا يجيئان منفصلين فى عقل المبدع ، و إنما يظهران - منذ البدء ، كوجهين لعملة واحدة ، فالقصاص يعى أن لديه انفعالا لا يعرف ما هيئته ولا طبيعته ، فإذا عبّر تنبّه ، واستراح من ضغطه اللاشعورى ..!
أقول ذلك لأن القاصة همت مصطفى ، عرفتها كشاعرة تكتب بالعامية المصرية ، وها أنذا ، أكتشف أنها قاصة ، تجيد كتابة هذا النوع من الإبداع الصعب.. فقد يتمّ العمل الأدبى فى صورة تدريجية ومتأملة ، وأحيانا يومض فجأة ، ينبثق كشرارة ، ويجئ عفويا ، دون تفكير سابق ..
وقد يمضى القصاص أياما لا يعرف لا تعرض له أية فكرة ، ولا أية قصة ، حتى ولو كانت غير ناضجة ، وقد تتساقط فى خياله عشرات الأفكار الممكنة ، و يعجز عن حملها إلى الورق ، وقد تقفز فى أعماقه أفكار القصة ، مع كلماتها وألوانها ، وهو يتنزه ، أو يتسكع فى الشوارع ، أو يقرأ، أو يقرأ، أو وهو فى القطار ، أو أمام الشاشة الكبيرة أو الشاشة الصغيرة ، أو وهو يجلس فى المقهى ، أو على مرأى الأمواج البيضاء من حافة البحر .
ومع المجموعة القصصية «المدينة المحرمة» ، نستطيع أن نقول بأننا قد وضعنا يدنا على عضو جديد- أو عضوة جديدة - تنضم إلى نادى القصة القصيرة ، هذه المبدعة التى تفوقت على أقرانها فى شعر العامية ، بفوز ديوانها فى مسابقة نادى أدب "أشمون" تحت رعاية شاعر العامية الكبير محمد المخزنجى ، وتولت " جائزة عبد الستار سليم " طبعه ، أما المجموعة القصصية - التى تفضل بتقديمها ، الناقد الكبير د. خالد فهمى، فقد قامت هى بطبعها - على نفقتها الخاصة - وهذا الأمر يشعرنا بأن "همت مصطفى " تفوقت على نفسها - فى هذه المرة - فبفضل تجربتها الشعرية ، وخبرتها عبر مشوارها الأدبى ، لما ءانست من جانب الطور نارا، قالت لقصائدها الشعرية ، امكثوا ، إنى ءانست نارا ، لعلى ءاتيكم منها بخبر، أو جذوة من النار ، لعلكم تصطلون ، ونظن أن يدها وقعت على قبس من القص.
اقرأ أيضا | حياة نجيب محفوظ وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بثقافة الإسكندرية
ومن خلال قراءتى لهذه المجموعة ، تبين لى صحة مقولة ان أية قصة جميلة ، يجب أن تبدو واقعا ، وحياة حقيقية ، تتحرك حولنا ، دون إغفاء ينحرف بنا ، أو تطويل يدفع الملل إلى نفوسنا ، وأن تجئ متميزة ، فيما تلبس من من أزياء صُنعت لها وحدها ، ولا يشاركها فيها غيرها ، وأن تكون إلى جانب ذلك موحية ، تجعلنا نفكر ، مهما كانت واقعية وموجزة ، وأن تبقى فى مجال الخيال متلألئة ، تفتح الباب واسعا عريضا أمام ذكاء القارئ أو السامع وخيالهما ، ليحلّقا معها ما شاءا التحليق ، يلتقطان الفحوى والفكرة ، وربما معان أخرى أعمق ، ومع الخيال العالى والراقى تبلغ القصة مرتبة الرمز ، والرمز يتطلب مشاعر مكثفة ، وبناء راقيا للتجارب الإنسانية ، وتخطيطا تتجدد معه التجربة بكل عمقها ، وبأوسع مداها ..!
فالكاتبة همت مصطفى فى مجموعتها القصصية - المسماة ( المدينة المحرمة ) ، وهو اسم إحدى قصص المجموعة - التى افتتحتها القاصة ، بقصة بعنوان "سلمى " ، واختتمتها بقصة بعنوان " المدينة المحرمة " ، و نحن كما نعلم ، و يعلم كل من يهتم ، بهذا الفن الأدبى ، الذى يعتمد أكثر ما يعتمد على عنصر الإيجاز غير المخل ، وقلة الشخوص ، ومحدودية الزمان ، الذى جرت فيه الأحداث ، فإذا أخترنا احدى قصص المجموعة - ولتكن (سلمى)، التى افتتحت بها مجموعتها- مثالا على دراسة البنيان الفنى القصصى ، المسيطر على جو المجموعة ، أى الذى اتبعته القاصة ( همت مصطفى ) فى أطروحتها الفنية ، فى مجموعتها القصصية - وهى باكورة إنتاجها فى هذا المضمار ، كما تقول هى - لوجدنا أنها تناولت شخصة .
وراحت تنقل لنا انطباعا خاصا لسلوك تلك الشخصية التى اختارتها بعناية فائقة ، لتصور جانبا واحدا من جوانب حياتها ، أى أنها اكتفت بزاوية واحدة منزوايا الشخصية الإنسانية ، أو موقف واحد من المواقف ، أو صورت تصوير مكثفا لإحدى مناحى النفس الإنسانية ، هذا التصوير يساير العصر فى إيجاز ، بكلمات مشحونة بالواقع ، مما أقنعنا بأن القاصة - صاحبة هذه المجموعة - تعى تماما ، وتفهم فن كتابة القصة القصيرة ، وتقدر على كتابتها ، بما تمتلك من أدوات إبداع هذا الفن الأدبى البديع ، ففى هذه القصة ( سلمى ) ، نضع يدنا بسهولة على صدق التعبير، وذلك لأن القاصة ،أقنعتنا أنها عاشت داخل شخوصها التى اختارتها ، كى تستخرج ما يروق لها من أحداث عاشتها ، ثم تعيد صياغتها ، أو ترتيبها كما تريد ، لنعيش فيها مرة أخرى كما تتمنى لنا القاصة . .
فكرة فلسفية تشى بثقافة واسعة للقاصة ، والقاصة - عبر جميع نماذجها الصادقة المعبرة ، لم تترك البعد الإنسانى العميق ، الذى يشى فى كل سطر من سطور نماذجها القصصية ، رؤيةً لعالمنا المتناقض الذى نعيش فيه، مما يعكس رؤية ذات بصيرة ، بعيدة عن المباشرة
وحتى أسماء الشخوص كانت مختارة بعناية فى القصة ، فإن صاحب المكتب التى تعمل عنده ، هو (محبوب الطيّب ) - محبوب ، وطيّب ، فىمقابل الحية الشريرة ، التى تسحبت ، ودخلت إلى المكتب من الشباك - وقد سمحلها (محبوب الطيب ) بذلك ، بل وقدم لها الطعام ، وتركها تعيش معه فى المكتب ، وق فوجئت بها السكرتيرة ، تلتف حول قدمه مرة ، وتلتف حول معصمه مرة ، وحتى رفض أن يقوم عامل البوفيه بقطع رأسها ، وذلك لأنه "طيب"، فكان أن أخرجها من النافذة ، و تركها تذهب لحال سبيلها ( وهذا ما قوَّى جانب الفانتازيا فى السرد القصصى ، وأفاد فى الحبكة القصصية ، ورفع سقف الصراع ما بين الخير والشر ، لكى نصل فى النهاية ، إلى حكمة أن «ينتصر الخير ينتصر الخير»
وأما من ناحية لغة السرد، نجد أن إنسانيتها تتواصل مع شاعريتها المعبرة ، فهى تدرك معنى الشاعرية ، ومعنى الحس السردى الشاعرى الذى يخاطب الوجدان قبل العقل ، لأن قصة ( سلمى ) من النوع الذى يعزف على وتر الفانتازيا ، التى تشبه إلى حد بعيد النماذج المتقدمة جدا للقصة القصيرة ، فعندما نذكر "حواديت الجدّات" عن الشاطر حسن ، والبنّورة المسحورة ، والحصان الأبيض المجنح ، وبساط الريح ، و حتى قصة "عصا موسى" التى ابتلعت عصىّ السحرة وحبالهم ، ونقف مبهورين ، فنحن مبهورين بالحس الفانتازى للقصة ، وهو ما يخاطب المتلقى الحقيقى ذا الأهلية ، لا المتلقى الطفيلى ، الذى يقرأ لمجرد التسلية ، فتشغله العناصر وجدليتها عن ماهيّة النص الأصلية
ولننتبه للخيال والرمزية فى القصة، لعرض الأفكار فى تشويق مؤثر، تقول القصة (وبينما هى تكتب ، اشتمت رائحة غريبة بالمكان ، التفتت حولها ، لم تر شيئاتنبعث منه تلك الرائحة التى أزكمت أنفها ، لكنها لم تبال،عادت للكتابة ، وأثناء انهماكها فى الكتابة ، سقط منها القلم ، وتدحرج تحت الطاولة ، نزلت لتلتقطه ، لكنها صرخت صرخة مكتومة ، وامتقع وجهها باللون الأحمر ، وكأن الدماء ستخرج منه ) هى لم تقل أنها فوجئت بهذه الشريرة من البداية ، بل قالت عنها إن رائحتها أزكمت أنفها ، هنا الرمز واضح ، واستخدام الصور البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ، كما يستخدمها الشعراء ، وهذا ليس بغريب على القاصة ، فقد سبق أن صدر لها ثلاثة دواوين شعرية ، أحدها فائز بالمركز الأول فى إحدى المسابقات الشعرية، هذه القصة من أجمل قصص المجموعة، وأما المجموعة القصصية مجتمعة ، فهى تنبئ بمولد كاتبة قصة متميزة