فى دراسة تحليلية للشاعر والناقد عبد الستار سليم..

«المدينة المحرّمة» لهمت مصطفى .. الشعر أولا أم القصّ 

الحضور خلال مناقشة المجموعة القصصية
الحضور خلال مناقشة المجموعة القصصية

 نحن نعلم أن القصة القصيرة، هى حكاية أدبية ، تُدرك لتُقصّ، وهى قصيرة نسبيا ، ذات خطة بسيطة ، وحدث محدد ، حول جانب من الحياة ، لا  فى واقعها  العادى والمنطقى ، وإنما طبقا لنظرة مثالية ورمزية ، ولا تنمّى أحداثا  وبيئاتٍ وشخوصا ، وإنما توجز  فى لحظة واحدة  حدثا. ذا معنًى كبير . . !والمبدع عادةً - وعلى وجه الخصوص -  القاص، أو  الروائى ، أو الشاعر.. يكشف موضوعه ، حين يحرك روحه حدث خارجى ، أو انفعال داخلى ، يقع على شخصه ، أو يمس الذين حوله ، ويحس بالرغبة فى إعطاء هذاالأحساس أو الشعور ، شكلا خارجيا ، وحينئذ يتخيل  الصورة التى يجئ عليها ، فى خطوطها العريضة ، ويستعد له نفسيا  برسم الخريطة ، وتنظيم المادة.
والدوران حول الموضوع ، والتفكير المتواصل فيه ، والإلحاح على متابعته ، فاذا نضج كل شئ داخله ، جاء التعبير ليعطى شكله النهائى، فتسقط كل فكرة على كلمتها ، وتتجسم الأفكار فى الصور ، فالشكل والمضمون ، أو بتعبير آخر الصورة والمحتوى ، لا يجيئان منفصلين  فى عقل المبدع ، و إنما يظهران - منذ البدء ، كوجهين لعملة واحدة ، فالقصاص يعى أن لديه انفعالا لا يعرف ما هيئته ولا طبيعته ، فإذا عبّر تنبّه ، واستراح من ضغطه اللاشعورى ..!
أقول ذلك لأن القاصة همت مصطفى ، عرفتها كشاعرة تكتب بالعامية المصرية ، وها أنذا ، أكتشف أنها قاصة ، تجيد كتابة هذا النوع من الإبداع الصعب.. فقد يتمّ العمل الأدبى فى صورة تدريجية ومتأملة ، وأحيانا يومض فجأة ، ينبثق كشرارة ، ويجئ عفويا ، دون تفكير سابق ..
 وقد يمضى القصاص أياما لا يعرف لا تعرض له أية فكرة ، ولا أية قصة ، حتى ولو كانت غير ناضجة ، وقد تتساقط فى خياله عشرات الأفكار الممكنة ، و يعجز عن حملها إلى الورق ، وقد تقفز فى أعماقه أفكار القصة ، مع كلماتها وألوانها ، وهو يتنزه ، أو يتسكع فى الشوارع ، أو يقرأ، أو يقرأ، أو  وهو فى القطار ، أو أمام الشاشة الكبيرة أو الشاشة الصغيرة ، أو وهو يجلس فى المقهى ، أو على مرأى الأمواج البيضاء من حافة البحر . 
ومع المجموعة القصصية «المدينة المحرمة» ، نستطيع أن نقول بأننا قد وضعنا يدنا على عضو جديد- أو عضوة جديدة - تنضم إلى نادى القصة القصيرة ، هذه المبدعة التى تفوقت على أقرانها فى شعر العامية ، بفوز ديوانها فى مسابقة نادى أدب "أشمون" تحت رعاية شاعر العامية الكبير محمد المخزنجى ، وتولت " جائزة عبد الستار سليم " طبعه ، أما المجموعة القصصية - التى تفضل بتقديمها ، الناقد  الكبير د. خالد فهمى، فقد قامت هى بطبعها - على نفقتها الخاصة -  وهذا الأمر يشعرنا بأن "همت مصطفى " تفوقت على نفسها - فى هذه المرة - فبفضل تجربتها الشعرية ، وخبرتها عبر مشوارها الأدبى ، لما  ءانست من جانب الطور نارا، قالت لقصائدها الشعرية ، امكثوا ، إنى ءانست نارا ، لعلى ءاتيكم منها بخبر، أو جذوة من النار ، لعلكم تصطلون ، ونظن أن يدها وقعت على قبس من القص.

اقرأ أيضا | حياة نجيب محفوظ وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بثقافة الإسكندرية

ومن خلال قراءتى لهذه المجموعة ، تبين لى صحة مقولة ان أية قصة جميلة ، يجب أن تبدو واقعا ، وحياة حقيقية ، تتحرك حولنا ، دون إغفاء ينحرف بنا ، أو تطويل يدفع الملل إلى نفوسنا ، وأن تجئ متميزة ، فيما تلبس من من أزياء صُنعت لها وحدها ، ولا يشاركها فيها غيرها ، وأن تكون إلى جانب ذلك موحية ، تجعلنا نفكر ، مهما كانت واقعية وموجزة ، وأن تبقى فى مجال الخيال متلألئة ، تفتح الباب واسعا عريضا أمام ذكاء القارئ أو السامع وخيالهما ، ليحلّقا معها ما شاءا التحليق ، يلتقطان الفحوى والفكرة ، وربما معان أخرى أعمق ، ومع الخيال العالى والراقى تبلغ القصة  مرتبة الرمز ، والرمز يتطلب مشاعر مكثفة ، وبناء راقيا  للتجارب الإنسانية ، وتخطيطا تتجدد معه التجربة  بكل عمقها ، وبأوسع مداها ..! 
فالكاتبة همت مصطفى فى مجموعتها القصصية - المسماة ( المدينة المحرمة ) ، وهو اسم إحدى قصص المجموعة - التى افتتحتها القاصة ، بقصة بعنوان "سلمى " ، واختتمتها  بقصة بعنوان " المدينة المحرمة " ، و نحن كما نعلم ، و يعلم كل من يهتم ، بهذا الفن الأدبى ، الذى يعتمد أكثر ما يعتمد على عنصر الإيجاز  غير المخل ، وقلة الشخوص ، ومحدودية الزمان ، الذى جرت فيه الأحداث ، فإذا أخترنا احدى قصص المجموعة - ولتكن (سلمى)، التى افتتحت بها مجموعتها- مثالا على دراسة البنيان الفنى القصصى ، المسيطر على جو المجموعة ، أى الذى اتبعته القاصة ( همت مصطفى ) فى أطروحتها الفنية ، فى مجموعتها القصصية - وهى باكورة إنتاجها فى هذا المضمار ، كما تقول هى - لوجدنا أنها تناولت شخصة .
وراحت تنقل  لنا انطباعا خاصا لسلوك تلك الشخصية التى اختارتها بعناية فائقة ، لتصور جانبا واحدا من جوانب حياتها ، أى أنها اكتفت بزاوية واحدة منزوايا الشخصية الإنسانية ، أو موقف واحد من  المواقف ، أو صورت تصوير مكثفا لإحدى مناحى النفس الإنسانية ، هذا التصوير يساير العصر فى إيجاز ، بكلمات مشحونة بالواقع ، مما أقنعنا بأن القاصة - صاحبة هذه المجموعة - تعى تماما ، وتفهم  فن كتابة القصة القصيرة ، وتقدر على كتابتها ، بما تمتلك  من أدوات إبداع هذا الفن الأدبى البديع ، ففى هذه القصة ( سلمى ) ، نضع يدنا بسهولة على صدق التعبير، وذلك لأن القاصة ،أقنعتنا أنها عاشت  داخل  شخوصها التى اختارتها ، كى تستخرج ما يروق لها من أحداث عاشتها ، ثم تعيد صياغتها ، أو ترتيبها  كما تريد ، لنعيش فيها مرة أخرى كما تتمنى لنا القاصة . . 
فكرة فلسفية تشى بثقافة واسعة للقاصة ، والقاصة - عبر جميع نماذجها  الصادقة المعبرة ، لم تترك البعد الإنسانى العميق ، الذى يشى فى كل سطر من سطور نماذجها القصصية ، رؤيةً لعالمنا المتناقض الذى نعيش فيه، مما يعكس رؤية ذات بصيرة ، بعيدة عن المباشرة 
وحتى أسماء الشخوص كانت مختارة بعناية فى القصة ، فإن صاحب المكتب التى تعمل عنده ، هو (محبوب الطيّب ) - محبوب ، وطيّب ، فىمقابل الحية الشريرة ، التى تسحبت ، ودخلت إلى المكتب من الشباك - وقد سمحلها (محبوب الطيب ) بذلك ، بل وقدم لها الطعام ، وتركها تعيش معه فى المكتب ، وق فوجئت بها السكرتيرة ، تلتف حول قدمه مرة ، وتلتف حول معصمه مرة ، وحتى رفض أن يقوم عامل البوفيه بقطع رأسها ، وذلك لأنه "طيب"، فكان أن أخرجها من النافذة ، و تركها  تذهب لحال سبيلها ( وهذا ما قوَّى جانب الفانتازيا فى السرد القصصى ، وأفاد فى الحبكة القصصية ، ورفع سقف الصراع ما بين الخير والشر ، لكى نصل فى النهاية ، إلى حكمة أن «ينتصر الخير ينتصر الخير»
 وأما من ناحية لغة السرد، نجد أن إنسانيتها  تتواصل مع شاعريتها المعبرة ، فهى تدرك معنى الشاعرية ، ومعنى الحس  السردى الشاعرى  الذى يخاطب الوجدان قبل العقل ، لأن قصة ( سلمى ) من النوع  الذى يعزف على وتر الفانتازيا ، التى تشبه إلى حد بعيد النماذج المتقدمة جدا للقصة القصيرة ، فعندما نذكر "حواديت الجدّات" عن الشاطر حسن ، والبنّورة المسحورة ، والحصان الأبيض المجنح ، وبساط الريح ، و حتى  قصة "عصا موسى"  التى ابتلعت عصىّ السحرة  وحبالهم ،  ونقف مبهورين ، فنحن مبهورين بالحس الفانتازى للقصة ، وهو ما يخاطب المتلقى الحقيقى ذا الأهلية ، لا المتلقى الطفيلى ، الذى يقرأ لمجرد التسلية ، فتشغله العناصر وجدليتها عن ماهيّة النص الأصلية 
ولننتبه للخيال والرمزية  فى القصة، لعرض الأفكار فى تشويق مؤثر، تقول القصة (وبينما هى تكتب ، اشتمت رائحة  غريبة بالمكان ، التفتت حولها ، لم تر شيئاتنبعث منه تلك الرائحة التى أزكمت أنفها ، لكنها لم تبال،عادت للكتابة ، وأثناء انهماكها  فى الكتابة ، سقط منها القلم ، وتدحرج تحت الطاولة ، نزلت لتلتقطه ، لكنها صرخت  صرخة مكتومة ، وامتقع وجهها باللون الأحمر ، وكأن الدماء ستخرج منه ) هى لم تقل أنها فوجئت بهذه الشريرة من البداية ، بل قالت  عنها إن رائحتها أزكمت أنفها ، هنا الرمز واضح ، واستخدام الصور البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ، كما يستخدمها الشعراء ، وهذا ليس بغريب على القاصة ، فقد سبق أن صدر لها ثلاثة دواوين شعرية ، أحدها فائز بالمركز الأول فى إحدى المسابقات الشعرية، هذه القصة من أجمل قصص المجموعة، وأما المجموعة القصصية مجتمعة ، فهى تنبئ بمولد كاتبة قصة متميزة