المخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى: السينما وطن لا يمكن احتلاله

المخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى
المخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى

ندى‭ ‬البدوى

كطعنةٍ‭ ‬فى‭ ‬القلب‭ ‬يحملُ‭ ‬المخرج‭ ‬الفلسطينى‭ ‬رشيد‭ ‬مشهراوى‭ ‬قضيته‭ ‬أينما‭ ‬ذهب،‭ ‬فلسطين‭ ‬التى‭ ‬شغفته‭ ‬حُبًا‭ ‬نجدها‭ ‬محور‭ ‬أغلب‭ ‬أعماله‭ ‬التى‭ ‬جسّدت‭ ‬واقع‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مسيرةٍ‭ ‬فنيّة‭ ‬امتدت‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا،‭ ‬قدم‭ ‬خلالها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬15‭ ‬فيلمًا‭ ‬حصدت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الجوائز‭ ‬العالمية،‭ ‬تنوّعت‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الأفلام‭ ‬الطويلة‭ ‬والقصيرة‭ ‬والوثائقية،‭ ‬كان‭ ‬آخرها‭ ‬فيلمه‭ ‬التسجيلى‭ ‬يوميات‭ ‬شارع‭ ‬جبرائيل‭ ‬الذى‭ ‬شارك‭ ‬فى‭ ‬مهرجان‭ ‬القاهرة‭ ‬السينمائى‭ ‬الدولى‭ ‬الذى‭ ‬اختتم‭ ‬فعالياته‭ ‬مؤخرًا‭. ‬يتسلّح‭ ‬مشهراوى‭ ‬بالكاميرا‭ ‬لمواجهة‭ ‬الاحتلال،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬كاميرا‭ ‬الموبايل‭ ‬التى‭ ‬صوّر‭ ‬بها‭ ‬فيلمه‭ ‬الأخير،‭ ‬فالسينما‭ ‬كما‭ ‬يصف‭ ‬وطنٌ‭ ‬لا‭ ‬يُمكن‭ ‬احتلاله‭.. ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬يتحدث‭ ‬لنا‭ ‬عن‭ ‬السينما،‭ ‬عن‭ ‬قضيته،‭ ‬عن‭ ‬فلسطين‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تُفارقه‭.. ‬

 

بذاكرة‭ ‬مُعبّأة‭ ‬بالصور‭ ‬وقلبٌ‭ ‬نابض‭ ‬بالحنين‭ ‬إلى‭ ‬الوطن،‭ ‬يُقدم‭ ‬لنا‭ ‬مشهراوى‭ ‬يوميات‭ ‬شارع‭ ‬جبرائيل‭ ‬الذى‭ ‬تدور‭ ‬أحداثه‭ ‬فى‭ ‬العاصمة‭ ‬الفرنسية‭ ‬باريس‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬حظر‭ ‬التجوّل‭ ‬والعزلة‭ ‬التى‭ ‬فرضتها‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭. ‬يتضمّن‭ ‬الفيلم‭ ‬سردًا‭ ‬ذاتيًا‭ ‬عفويّا‭ ‬لليوميات‭ ‬المُعاشة،‭ ‬والذكريات‭ ‬المُتدفقة‭ ‬بين‭ ‬رام‭ ‬الله‭ ‬وغزة‭ ‬باريس،‭ ‬التى‭ ‬نسجها‭ ‬بلغة‭ ‬سينمائية‭ ‬شديدة‭ ‬البساطة‭ ‬والشاعرية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كاميرا‭ ‬الموبايل‭ ‬التى‭ ‬استخدمها‭ ‬لتصوير‭ ‬الفيلم‭ ‬بالكامل‭. ‬اأنا‭ ‬البطل‭/ ‬الراوى‭ ‬والمُخرج‭ ‬والمُصوّر‭ ‬والمُنتجب‭ ‬يقول‭ ‬رشيد‭ ‬ضاحكًا‭ ‬وهو‭ ‬يحكى‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬الفيلم‭ ‬التى‭ ‬وُلِدت‭ ‬بعدما‭ ‬اضطر‭ ‬لإيقاف‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬فيلمه‭ ‬الروائى‭ ‬الطويل‭ ‬اأحلام‭ ‬عابرةب‭ ‬بسبب‭ ‬الجائحة‭.‬

مُتابعًا‭: ‬أوقف‭ ‬الوباء‭ ‬آنذاك‭ ‬كُل‭ ‬شيء،‭ ‬أجلت‭ ‬تصوير‭ ‬اأحلام‭ ‬عابرةب‭ ‬الذى‭ ‬تدور‭ ‬أحداثه‭ ‬حول‭ ‬رحلة‭ ‬طريق‭ ‬يقطعها‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشخاص‭ ‬يتنقلون‭ ‬داخل‭ ‬فلسطين‭ ‬بين‭ ‬القدس‭ ‬وبيت‭ ‬لحم‭ ‬والقرى‭ ‬الفلسطينية‭. ‬لأجد‭ ‬نفسى‭ ‬فجأة‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬نفسي،‭ ‬عزلة‭ ‬المدينة‭ ‬مع‭ ‬إغلاق‭ ‬فرنسا‭ ‬حدودها،‭ ‬والحالة‭ ‬التى‭ ‬فرضتها‭ ‬القيود‭ ‬والإجراءات‭ ‬الاحترازية‭ ‬فجّرت‭ ‬داخلى‭ ‬مشاعر‭ ‬عميقة،‭ ‬ايوميات‭ ‬شارع‭ ‬جبرائيلب‭ ‬بالنسبة‭ ‬لى‭ ‬كان‭ ‬بمثابة‭ ‬إعادة‭ ‬اكتشاف‭ ‬للذات‭ ‬ولوجه‭ ‬آخر‭ ‬للحياة‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬التى‭ ‬غيّر‭ ‬بها‭ ‬الوباء‭ ‬شكل‭ ‬العالم،‭ ‬وطبيعة‭ ‬العلاقات‭ ‬والتفاعلات‭ ‬بين‭ ‬البشر‭. ‬أردتُ‭ ‬أن‭ ‬أُقدم‭ ‬فيلمًا‭ ‬حميميًا‭ ‬أشبه‭ ‬بالبوح‭ ‬الذى‭ ‬يُخاطب‭ ‬الوجدان‭ ‬الإنساني،‭ ‬كأننى‭ ‬أكتب‭ ‬يومياتى‭ ‬بالحى‭ ‬الذى‭ ‬أقطنه،‭ ‬علاقتى‭ ‬بجيرانى‭ ‬وأصدقائى‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬وخواطرى‭ ‬بما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬تأملات‭ ‬وما‭ ‬تتقاطع‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬ذكرياتٍ‭ ‬قديمة‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬اختيار‭ ‬مشهراوى‭ ‬لإنتاج‭ ‬فيلم‭ ‬باستخدام‭ ‬كاميرا‭ ‬الموبايل‭ ‬عشوائيًا،‭ ‬لكنه‭ ‬أراد‭ ‬بذلك‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬إمكانية‭ ‬تقديم‭ ‬تجربة‭ ‬حيّة‭ ‬وحقيقية‭ ‬بإمكانياتٍ‭ ‬محدودة‭. ‬اكنتُ‭ ‬ألتقط‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬حولى‭ ‬بالموبايل‭. ‬ثقافة‭ ‬الحظر‭ ‬ومنع‭ ‬التجوّل‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬جديدة‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬بأسره‭ - ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬طبيعتها‭ ‬وأسبابها‭ - ‬اعتدناها‭ ‬فى‭ ‬فلسطين‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية‭. ‬العالم‭ ‬كان‭ ‬ينتظر‭ ‬فتح‭ ‬الحدود‭ ‬وعودة‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬طبيعتها،‭ ‬ونحن‭ ‬اعتدنا‭ ‬الانتظار،‭ ‬نحن‭ ‬ننتظر‭ ‬منذ‭ ‬75‭ ‬عامًا،‭ ‬ننتظر‭ ‬خروج‭ ‬الأسرى،‭ ‬لم‭ ‬الشمل‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬الديار‭. ‬لم‭ ‬أختر‭ ‬أن‭ ‬أحمل‭ ‬هذه‭ ‬القضية،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬قرارًا،‭ ‬هناك‭ ‬أشياء‭ ‬لا‭ ‬نختارها‭ ‬لكنها‭ ‬تنغرس‭ ‬فى‭ ‬وجداننا‭ ‬منذ‭ ‬لحظة‭ ‬الميلاد،‭ ‬فأنا‭ ‬سعيد‭ ‬بانتمائى‭ ‬وفخور‭ ‬بفلسطينيّتي‭.‬

يؤمن‭ ‬رشيد‭ ‬بدور‭ ‬السينما‭ ‬فى‭ ‬التعبير،‭ ‬فهى‭ ‬تحمل‭ ‬فى‭ ‬رأيه‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسى‭ ‬أن‭ ‬يحمله‭: ‬الفنون‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬لها‭ ‬تأثير‭ ‬هائل‭ ‬فى‭ ‬الأمم،‭ ‬ففى‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬أعتبر‭ ‬أن‭ ‬السينما‭ ‬وثقافة‭ ‬الصورة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أدوات‭ ‬التبادل‭ ‬الثقافى‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬والشعوب،‭ ‬السينما‭ ‬لغة‭ ‬عالمية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬اقتحام‭ ‬حواجز‭ ‬وموانع‭ ‬عديدة،‭ ‬فالهم‭ ‬الإنسانى‭ ‬واحد‭ ‬مهما‭ ‬تنوّعت‭ ‬أشكاله‭ ‬وتفاصيله،‭ ‬والسينما‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬نجحت‭ ‬فى‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬التى‭ ‬يسعى‭ ‬الاحتلال‭ ‬إلى‭ ‬طمسها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إبراز‭ ‬وتوثيق‭ ‬التراث‭ ‬الفلسطينى‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والموسيقى‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد،‭ ‬وبالطبع‭ ‬تجسيد‭ ‬معاناة‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطينى‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬الاحتلال‭.‬

مُتابعًا‭: ‬إسرائيل‭ ‬تُحاول‭ ‬لى‭ ‬عنق‭ ‬الجغرافيا‭ ‬لتدعم‭ ‬أحقيتها‭ ‬وتقول‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬لنا،‭ ‬ورغم‭ ‬الآلة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والعسكرية‭ ‬التى‭ ‬تملكها‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تُحارب‭ ‬شجرة‭ ‬أو‭ ‬تلة‭ ‬أو‭ ‬نهر،‭ ‬الطبيعة‭ ‬تحفظ‭ ‬الحق‭ ‬وتعرف‭ ‬الحقيقة‭ ‬جيدًا،‭ ‬فنحن‭ ‬نعيش‭ ‬رغم‭ ‬الحواجز‭ ‬والقيود‭ ‬فى‭ ‬تناغم‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة،‭ ‬بينما‭ ‬تجد‭ ‬المستوطنات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬كأنها‭ ‬سجون‭ ‬مُحاطة‭ ‬بأسلاك‭ ‬شائكة‭ ‬وكاميرات‭ ‬مراقبة‭ ‬وجنود‭ ‬مُدجّجين‭ ‬بالأسلحة‭. ‬السينما‭ ‬تستطيع‭ ‬ترجمة‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭ ‬التى‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬تُقال‭ ‬أو‭ ‬تُكتب،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الآثار‭ ‬والنتائج‭ ‬المترتبة‭ ‬عليها‭ ‬ليست‭ ‬آنية‭ ‬ومباشرة‭ ‬ولا‭ ‬تتحقق‭ ‬بين‭ ‬يوم‭ ‬وليلة،‭ ‬لكنها‭ ‬تراكمية‭ ‬تُغيّر‭ ‬فى‭ ‬الوعى‭ ‬الجمعى‭ ‬والرأى‭ ‬العام‭ ‬العالمي،‭ ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬أهمية‭ ‬التأثير‭ ‬فى‭ ‬الجماهير‭ ‬بالدول‭ ‬التى‭ ‬تدعم‭ ‬أنظمتها‭ ‬وقياداتها‭ ‬الكيان‭ ‬الإسرائيلي‭.‬

فعلى‭ ‬مدار‭ ‬30‭ ‬عامًا‭ ‬عملت‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬الأفلام‭ ‬التى‭ ‬عرضتها‭ ‬فى‭ ‬أهم‭ ‬المحافل‭ ‬الفنية‭ ‬عالميًا،‭ ‬لاحظت‭ ‬تغييرًا‭ ‬فى‭ ‬الصورة‭ ‬الذهنية‭ ‬للجماهير‭ ‬عن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬أفلامى‭ ‬وأفلام‭ ‬غيرى‭ ‬من‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬أسهمت‭ ‬فى‭ ‬خلق‭ ‬حالة‭ ‬جديدة‭ ‬وإدراك‭ ‬لعدالة‭ ‬قضيتنا‭. ‬أفخر‭ ‬بأن‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬جيلا‭ ‬واعدا‭ ‬من‭ ‬صُنّاع‭ ‬الأفلام‭ ‬والمخرجين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬القادرين‭ ‬على‭ ‬حمل‭ ‬القضية،‭ ‬والذين‭ ‬ينافسون‭ ‬بإنتاجهم‭ ‬فى‭ ‬المهرجانات‭ ‬العالمية،‭ ‬لدينا‭ ‬شباب‭ ‬يقدمون‭ ‬سينما‭ ‬متميزة‭ ‬فنيًا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الطرح‭ ‬والصناعة‭ ‬واللغة‭ ‬السينمائية،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأنهم‭ ‬أصحاب‭ ‬قضية‭ ‬عادلة‭.‬