كنت قد اختتمت حديثي قبلا عن عملاق من عمالقة الفن في عالم الموسيقا والعزف والغناء الموسيقار الراحل عمار الشريعي : “ولن يكون هذا حديثنا الأخير عن هذه الموهبة الفذة التي ينبغي أن يحتذى بها كل من أراد أن يثبت وجوده ويحقق نجاحا مرموقا متجاوزا لكل المحن والصعاب مؤمنا برسالة الفن الذي يستحق كل عناء ،فمسيرته الفنية تنطوي على العديد من المحطات التي ينبغي الوقوف عليها لنضع أيدينا على مواطن نبوغه وعبقريته الموسيقية النادرة،رحم الله هذا الفنان العبقري الذي يجب أن يحتذي به كل من أراد فرض شخصيته على المجتمع؛ بكل الإنتاج الغزيز والمائزمن الفنون التي تثري المجتمع والتراث الإنساني فهو قدوة ومثل يحتذى لمن هم على الدرب .”
وها أنا أستأنف الكلام عنه اليوم بحلول ذكرى وفاته بل وأكرر الكثير مما سقته عن مسيرته تأديدا على ثرائها وقيمتها؛فقد ترك وراءه منتوجا فنيا كبيرا فنجد تغني كبار المطربين المصريين والعرب بألحانه منهم على سبيل المثال لا الحصر:شادية وعفاف راضي وأنغام وعلي الحجار وميادة الحناوي ووردة الجزائريةوعبدالله الرويشد.
وربما شعر هذا العملاق الذي تحدَّى الإعاقة منذ خروجه إلى الدنيا بعالم الطفولة؛ فقام بالاهتمام بأغاني الأطفال في فعاليات أعياد الطفولة بمشاركة مجموعة من كبار الممثلين والمطربين وعلى رأسهم الفنانة صفاء أبو السعود، ويتصدى لوضع الموسيقا والألحان لاحتفاليات نصر أكتوبر التي تتولاها القوات المسلحة المصرية ووزارة الإعلام، بالإضافة إلى اكتشافه للمواهب الصاعدة من الأجيال الجديدة
ونظرًا لهذا النبوغ والتفوق ؛ تم تعيينه أستاذًا غير متفرغ بأكاديمية الفنون المصرية؛ كما تناولت العديد من الرسائل العلمية أعماله بالدراسة والتحليل في الكليات والمعاهد الموسيقية المختلفة داخل مصر وخارجها.
“ويمضي الشريعي قدما في نجاحاته فوضع موسيقا تترات أنجح المسلسلات مثل”رأفت الهجان” التي تعيش إلى يومنا هذا في أذهان الجماهير،و”الأيام”عن حياة عميد الأدب العربي د.طه حسين، وكان الفضل لنجاح”حديث الصباح والمساء “لموسيقاه الرائعة، وليحقق الطفرة الجميلة بلمساته في تتر “زيزينيا” ،وكذا الموسيقى التصويرية داخله، ويكون على موعد مع الإبداع غير المألوف في موسيقاه ل”الزيني بركات”،و”رحلة السيد أبو العلا البشري، لتأتي النغمات لتجسيد كل المعاني الجمالية والأخلاقية التي يتحدث عنها هذا العمل. وكأنه يضع بموسيقاه دستورا لكيفية نشر جماليات الألحان على العقول والأذان التي تسمع وتستمتع، وتتعلق الجماهير حول أجهزة التلفزيون في المنازل والأماكن العامة، لتحظى بتشنيف أذانها بموسيقا”أرابيسك”،..وحدث الشيءنفسه مع”العائلة “ ،و”الشهد والدموع”،وهي الأعمال التي جذبت المشاهدين وحققت أعلى نسبة مشاهدة في تاريخ التلفزيون المصري والعربي،ناهيك عن تألق الفنانة”عفاف راضي”في غناء لحنه”أوبرا عايدة” الذي يعد من روائع الدراماالمصرية الحديثة.”
ولم تقف طموحاته وملكاته عند تقديم هذه الأعمال الخالدة،بل شارك بالغناء بصوته في فيلم “البريء”ومشاركته الغناء مع الفنانة”فردوس عبدالحميد” في “عصفور النار”. وليمنح الفرصة لقوافل الشباب العاشقة لهذا الفن الراقي، أسس فرقة “الأصدقاء” وقدم أصوات شابة للساحة الفنية تألقت :منى عبدالغني وعلاء عبدالخالق وحنان ، وشاركهم الغناء علاوة على وضعه لألحان هي مزيجٍ من الأصالة والمعاصرة؛ والطموح إلى فرض الأغنية الجماعية في المجالات الاجتماعية والرياضية بين الجماهير، امتدادًا للتراث الشعبي الفلاحي على ضفاف النيل في ريف مصر.
ان الشريعي نموذجًا رائعًا في تحدي الإعاقة البصرية؛ ولكن الله منحه نعمة شفافية البصيرة منذ لمساته الأولي على آلة “البيانو” التي أهداها له والده وهو في سن السادسة عشرة؛ ليتعرف على أسرارها ويتقن العزف عليها باقتدار لايطوله المبصرون، ويرحل الأب عن الدنيا تاركًا الصبي في متاهات اليُتم وفقد البصر، ليتم إيداعه بالقسم الداخلي لمدرسة رعاية وتوجيه المكفوفين، وكانت تلك الفترة فرصة ذهبية منحها الله له؛ ليتفرغ بكل أحساسيسه ومشاعره لفهم أغوار آلات البيانو والأكورديون ؛ ثم أخيرًا آلة “الأورج” التي راهن الجميع على أن من يتعامل مع هذه الآلة تحديدً؛ أن يكون من مبصرًا، لتعقيداتها التقنية البالغة .ولم يتوقف اجتهاده عند هذا الحد في اهتماماته الفنية فاتجه في مرحلة متقدمة من مشواره الفني إلى تعلم آلة وترية مغايرة تماما في تقنياتها عما سبق وهي “العود” وقدم حفلا لجمهوره بصحبة هذه الآلة عزفا ومصاحبة بالغناء لاقت نجاحا لافتا لإتقانه الباهر لها.
وتشتد إرادة التحدي في قلب هذا العاشق للموسيقا، فيتلقى علوم الموسيقا الشرقية على يد مجموعة من الأساتذة الكبار بمدرسته الثانوية في إطار برنامج مكثف أعدته وزارة التربية والتعليم خصيصًا للطلبة المكفوفين الراغبين في دراستها، ليذهب إلى جامعة عين شمس، حاملاً تحت إبطيه جذوة الإرادة التي لم تخمد لحظة من لحظات عمره، ويحصل على ليسانس الآداب، قسم اللغة الإنجليزية، وخلال فترة السنوات الجامعية؛ كان يدرس التأليف الموسيقي عن طريق المراسلة مع مدرسة “هادلي سكول” الأمريكية لتعليم المكفوفين، بالتزامن مع التحاقه بالأكاديمية البريطانية للموسيقا ! إنها إرادة التحدي القوية التي لاتقف أمامها جميع العوائق المادية والمعنوية في قلب هذا الفارس المغوار .
ولم يضع وقتًا في فرض إرادته بالخروج إلى الحياة العملية؛ فيتجه إلى التلحين والتأليف الموسيقي على الساحة المصرية والعربية، وكانت نقطة الانطلاق مدهشة، وكانه أراد أن يرد عمليًا على حاسديه على نبوغه وتفوقه المذهل في علوم الموسيقا والألحان؛ ليقول لهم من خلال أول ألحانه للفنانة المصرية المتألقة ـ أنذاك ـ وصاحبة الصوت الذهبي “مها صبري” : إمسكوا الخشب ياحبايب !
وانطلق من وضع ألحان الأغنية الضيقة؛ “لينثر ألحانه على ساحة الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية والإذاعية والمسرحيات، ليحقق صاحب البصيرة شهرة واسعة على كل الأصعدة المصرية والعربية والعالمية،فينطلق عمار متقافزا برشاقة على السلم الموسيقي، ليرى بقلبه جماليات الطبيعة ويترجمها بكل المقامات اللحنية المتفردة التي جذبت آذان كل من استمع إليها وبخاصة براعته في تجسيد أحداث المسلسلات التي وضع لها”تترات”متميزة تكاد تنطق بأحداث كل مسلسل منها لتتجاوز أعماله التلفزيونية ١٥٠مسلسلا إلى جانب أعماله السينمائية في٥٠ فيلما،ووضع ألحان العديد من المسرحيات الغنائية الاستعراضية، ويمتلك أذن المستمع في البرنامج الإذاعي الشهير”غواص في بحر النغم” ،و”سهرة شريعي “الذي اعتمد فيهما على التحليل الموسيقي للأعمال الغنائية التي تحظى بحب الجماهير.”
وفي مختتم حديثي عن موسيقارنا الغائص في بحر النغم ،آثرت أن انتقي مقولة العلامة “ شمس الدين التبريزي” : “لا أظن أن الله (عز وجل ) منحنا الموسيقى ــ لا الموسيقى التي نصنعها بأصواتنا وآلاتنا فحسب، بل الموسيقى التي تغلف كل أشكال الحياة، ثم قالوا إن الله قد حرّم علينا أن نسمعها. ألا يرون أن الطبيعة برمتها تُغنِّي؟! فكل شيء في هذا الكون يتحرّك بإيقاع : خفقات القلب، ورفرفة أجنحة الطير، هبوب الريح في ليلة عاصفة وطرقات الحداد وهو يطرق الحديد، أو الأصوات التي تغلف الجنين داخل الرحم .. كل شيء يشارك في انبعاثها بحماسة وتلقائية في نغم واحد رائع، وما رقصة الدراويش إلا حلقة في تلك السلسلة الدائمة، وكما يحمل ماء البحر في داخله المحيط برمته، فإن رقصتنا تعكس أسرار الكون وتغلفها” ! ربما لأنها ترتبط بأشياءٍ عديدة في حياة هذا الإنسان الذي خرج إلى الحياة كفيف البصر، ولم تسعده الحياة برؤية شموسها وأقمارها ونجومها المتلألئة في السماء، ولكن لحفظه خمسة أجزاء من القرآن الكريم في طفولته بكتَّاب القرية، والاستماع إلى الترانيم والتراتيل الكنسية في كنائس مدينة “سمالوط” بمحافظة المنيا، شعر بالموسيقا الكونية تتوالد وتنساب داخل شرايينه بإيقاعاتها ونغماتها العذبة، وتلمَّس بفطرته ونور بصيرته أنها تترجم له كل مايجول في خواطره من مشاعر وأحاسيس .