إن تناول البعد المكاني بالدراسة العلمية الشاملة لأي من المشروعات الطموحة التي نسعي لتحقيقها لا يقل أهمية بل أحياناً يفوق باقي الأبعاد التي عادة يتم التركيز عليها مثل البعد الزمني والأبعاد المالية والمحاسبية. فقد كان إغفال البعد المكاني في العديد من مشروعات خطط التنمية علي مدي العقود الطويلة الماضية، سبباً في تفاوتات مكانية واضحة بين أقاليم مصر الإ88دارية ونتج عن ذلك أن معدلات التنمية في بعض المحافظات تفوق بدرجة ملحوظة المعدلات في محافظات أخري، ولعل أبلغ مثال لذلك هو التفاوت الواضح بين المحافظات الحضرية وبعض المحافظات الريفية وخاصة محافظات الصعيد. كما كان إغفال البعد المكاني أيضاً سبباً في استخدام غير واع للأرض، فقمنا بالبناء في الأرض المزروعة والقابلة للاستزراع واستصلحنا في الرمال، كما بنينا المصانع في أماكن دون وعي بالاعتبارات البيئية وآثارها المدمرة علي الأرض والماء والهواء وصحة الإنسان. فكان إنشاء هذا الكم من المصانع في منطقة شبرا الخيمة دون أخذ اتجاه الريح في الاعتبار فحملت الرياح البحرية عوادم هذه المصانع ولوثت بها هواء القاهرة. وتسببت مخلفات مسابك الرصاص التي أنشئت في نفس المنطقة في تلوث رهيب لتربة زراعية خصبة بعنصر الرصاص الضار فخرجت محاصيل ملوَّثة تغذي عليها المواطنون فسري الرصاص في دمائهم وفي لبن الأمهات بحسب البحوث العلمية والتحاليل التي تمت منذ سنوات في مشروع تابع لوزارة شئون البيئة مما حتم إزالة المسابك وعلاج التربة وهو ما كبَّد الدولة تكاليف باهظة. مثال آخر لإغفال البعد المكاني هو عندما اتخذ قرار إقامة مصانع الحديد والصلب في حلوان فتم تدمير مكان كان من الممكن بعيونه الكبريتية أن يكون من أهم مناطق الجذب لسياحة علاجية تنافس أكبر منتجعات الاستشفاء العالمية. وحدث أيضاً في إحدي المناطق الساحلية أن أقيمت مصانع الأسمنت في منطقة الملاحات فتلوث الملح بغبار الأسمنت مما يستدعي تنقيته وغسله مما يزيد من تكلفة الإنتاج. ندمِّر بحيراتنا الطبيعية ونقيم بحيرات صناعية في مناطق أخري. وهكذا تتعدد الأمثلة الصارخة نتيجة لسوء اختيار المكان. حدث هذا علي مر السنين وإن كان في بعض الأحيان بسلامة القصد إلا أنه كان نتيجة لعدم الوعي ولغياب الرؤية الشاملة المتكاملة بأخذ البعد المكاني وطبيعته في الاعتبار وهو ما يحتم وضع خطة قومية شاملة طويلة المدي تتناول أسلوب استخدام أرض مصر علي أساس خريطة مفصلة توضح طبيعة كل شبر من الأرض ومدي ملاءمته لاستخدام ما، سواء الآن أو بعد مائة سنة. خريطة تحدد أماكن التربة الصالحة أو القابلة للاستزراع بدرجاتها وخصائصها في طول البلاد وعرضها ويحظر استخدامها في أي أغراض غير الزراعة 000 وتحدد أيضاً الموارد المائية السطحية وتحت السطحية، هناك في طبقات تعرف بالحجر الرملي النوبي مخزون للمياه الجوفية وتوجد عدة دراسات متناثرة في مؤسسات الدولة يستدعي الأمر تجميعها واستكمالها ليتحدد المخزون الجوفي بدقة حتي نتمكن من التخطيط السليم لاستخدامه وهو ما يستدعي استكمال وتدقيق خريطة مصر الجيولوجية. يجب أن توضح الخريطة أيضاً مواقع مصادر الطاقة سواء كانت المصادر التقليدية مثل الفحم وزيت البترول والطفلة الزيتية وغير التقليدية وما يطلق عليها الجديدة والمتجددة. وكذلك مصادر الخامات المعدنية سواء ما يتم استغلاله الآن أو ما سوف يتم استغلاله في المستقبل بالإضافة إلي المناطق المحتمل وجود ثروات طبيعية فيها ولم تكتشف بعد. كما يجب أيضاً أن يتم تحديد المناطق الملاءمة للتعمير الحضري والتجمعات السكانية وتلك الملاءمة لبناء المنشآت الصناعية والأماكن المناسبة لإقامة الموانئ، والمناطق الترفيهية والمواقع الأثرية وهي وإن كانت متاحة إلي حد كبير إلا أنه مازالت هناك أماكن محتمل احتوائها علي آثار يحظر استخدامها في أي أنشطة أخري. كما يجب أن تحدد الخريطة أيضاً أماكن المحميات الطبيعية ففي مصر مناطق يندر وجود مثيل لها علي سطح الأرض ويتحتم حمايتها والحفاظ عليها ويمكن استغلالها بأسلوب حضاري كمورد اقتصادي جاذب للسياحة حتي لا يحدث لها ما حدث لقبة أبو رواش أو للمنطقة التي كان يطلق عليها «أرض البطيخ» في طريق الواحات وهي تركيبات طبيعية نادرة في الكرة الأرضية كان علماء العالم يأتون لزيارتها ودراستها والتي تسبب الجهل بها في تدميرها. كما تتيح هذه الخريطة التخطيط السليم لشبكات الكهرباء والطرق والسكك الحديدية. علينا أن نعي أننا نملك أرضاً مساحتها حوالي مليون كيلومتر مربع هي كل ثروتنا وهي أمانة بين أيدينا علينا أن نصونها وأن نستخدمها الاستخدام الأمثل لصالح الأجيال الحالية والأجيال القادمة ولن يتأتي ذلك إلا من خلال «خطة قومية لاستخدام الأرض» طويلة المدي تلتزم بها الدولة ولا تتغير بتغير الأشخاص أو الحكومات.