ان ما استحدثه علم الجراحة في وقتنا الحالي من نقل وزراعة الأعضاء البشرية يعتبر بحق طفرة نوعية مهمة وإحدي المعجزات الطبية في العصر الحديث .. إلا أن له انعكاسين، الأول يبعث الأمل في إمكانية تحسين فرص الحياة والصحة لآلاف من المرضي، والانعكاس الثاني يثير قدراً كبيراً من قضايا ومخاوف ترتبط بهذا النوع من التدخلات الطبية، حيث أتاحت تقنيات نقل وزراعة الأعضاء والدم والأنسجة البشرية الفرصة لظهور بعض السلوكيات والممارسات غير المتوافقة مع القيم والأخلاقيات تمس قيمة وكرامة جسد الإنسان لدرجة الاتجار بأعضائه أو بأجزاء منها، والتي أصبح الإعلان عنها في الصحف أمراً عادياً، كما تتضمن استغلال الفقراء والإضرار بجسم المتبرع غير القادر علي المتابعة الطبية اللازمة لسلامته بقية حياته ... الخ. وعلي مدي ما يزيد علي عقدين من الزمان شهد هذا الموضوع في مصر حالة من الشد والجذب بين مؤيد ومعارض وصدر القانون رقم 5 لسنة 2010 بشأن تنظيم الإجراءات الخاصة بعمليات نقل وزراعة الأعضاء البشرية أو أجزائها أو الأنسجة أو الخلايا. ونص القانون علي عقوبات حال مخالفة أحكامه. ويعتبر القانون خطوة جيدة علي الطريق الصحيح لمحاصرة تجارة الأعضاء البشرية إلا أن هناك مازال شعور بالقلق والخوف لعدة أسباب منها أن هناك ثغرات في بعض المواد وعدم حبكة الصياغة في بعض آخر ثار حولها الكثير من الجدل، وإذا كنا نعاني من وجود ثغرات في مواد بعض القوانين في مجالات أخري كثيرة إلا أن الوضع في قانون نقل وزراعة الأعضاء البشرية مختلف تماماً فأي ثغرة مهما كانت صغيرة لها عواقب وخيمة. كما أنه وردت كلمات في القانون كلنا نعرف لها معني واحداً مثل «الموت» و»التبرع» أصبح لها أكثر من معني ويختلف المعني من حالة إلي أخري ومن ظرف إلي آخر وهو ما يثير البلبلة والقلق، ولذلك يتحتم إحكام الصياغة وإزالة غموض بعض الفقرات والتأكيد بوضوح شديد علي تعريف الكلمات التي ورد ذكرها مسبقاً ... تم أخذ جزء من هذه التخوفات في الاعتبار في اللائحة التنفيذية للقانون إلا أن الأمر مازال يحتاج إلي مزيد من التدقيق والتوضيح حتي لا يتم استغلال هذه الثغرات بما يتيح لممارسات سلبية لا تقرها القيم والأخلاقيات. في ندوة هامة جداً تمت منذ حوالي العامين نظمتها أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا مع مركز جراحة الكلي التابع لجامعة المنصورة هذا الصرح العظيم الذي نفتخر به، خرجت الندوة التي شارك فيها نخبة من العلماء والأطباء الممارسين وبناءً علي واقع يعيشه المركز، بعدة توصيات تأخذ في الاعتبار نسبة كبيرة من ثغرات القانون منها تعديل الفقرة التي تنص علي مواصفات المتبرع لتمتد سلسلة التبرع لتشمل القرابة حتي الدرجة الرابعة وأيضاً أوصت الندوة بإجراء عمليات نقل وزراعة الأعضاء البشرية في المستشفيات الحكومية فقط أو في عدد محدود جداً من المستشفيات بشروط دقيقة تحددها وزارة الصحة وأن تكون هذه العمليات بالمجان حتي لا تلعب المادة دوراً غير مرغوب فيه.. إن القانون الحالي لن يحمي ممارسات نقل وزراعة الأعضاء البشرية تماماً من السلبيات ما لم يواكب التطبيق ضوابط أخلاقية تحول دون انتهاك حقوق الإنسان وكرامته وحرمة جسده. ولعلنا جميعاً علي علم بأن هناك قيماً وأخلاقيات وميثاقا طبيا منذ قديم الزمن إلا أن الوضع بالنسبة لممارسات نقل وزراعة الأعضاء البشرية يختلف تماماً فهو يتخطي ما وراء الأخلاقيات والسلوكيات المتعارف عليها حالياً مما قد يستدعي ألا يسمح للأطباء بمزاولة هذا النوع من التدخلات الطبية إلا بعد الحصول علي قسط من التدريب في أخلاقيات نقل وزراعة الأعضاء البشرية وهو ما أصبح علماً يدرس في جامعات العالم وتمنح فيه الشهادات العليا مثل الدبلومات والماجستير والدكتوراه. هناك جهود مبذولة علي المستوي الوطني منذ مدة تتمثَّل في جهود مجلس أخلاقيات البحوث العلمية والتكنولوجية في أكاديمية البحث العلمي وفي المركز الإقليمي لأخلاقيات البحوث وأيضاً اللجنة الوطنية للأخلاقيات التابعة لوزارة التعليم العالي وكلها آليات هامة متخصصة تشكل قاعدة أساسية من الممكن أن تنطلق منها جهود لتحديد المعايير وسبل تفادي الآثار السلبية لتطبيقات القانون وتتابع مدي الالتزام بأحكامه، فالتشريع وحده لا يكفي ولن يكفي. لا يقتصر الاهتمام بهذا الموضوع علي المجتمع المصري فقط بل هو محل اهتمام بالغ في العديد من المجتمعات وهناك مؤسسات تقوم بجهود مشهودة علي المستوي الدولي لمتابعة تطبيقات هذا النوع من التدخلات الطبية وتطوراتها ولعل أشهرها هو أحد مشروعات جامعة هارفارد في الولايات المتحدة وكان لي شرف الرئاسة المشاركة لهذا المشروع الذي استمر لعدة سنوات وكان أحد أهدافه هو ضرورة مشاركة الجماهير بعد توعيتها في اتخاذ القرارات ومتابعة تطبيقات قوانين نقل وزراعة الأعضاء البشرية، فمن حق المجتمع أن يطمئن علي سلامة وكرامة أفراده، وهو الأمر الذي يحتاج المزيد من الانضباط والمتابعة الجادة وخاصةً فيما يخص المرأة والإنجاب بصفة عامة حيث يجب ألا تتجاوز الممارسات دائرة القيم والأخلاقيات في مجال التلقيح الصناعي وزرع الأجنة وما يتصل بذلك من بنوك الأمشاج التناسلية وبنوك الجينات الوراثية والبويضات ... الخ، فهذا مجال مملوء بالخطوط الحمراء ولنا فيه عودة. إن الأخطار المتوقعة لممارسات نقل وزراعة الأعضاء البشرية سواء تتم في الوقت الحالي أو متوقع أن تتم في المستقبل في غيبة المتابعة الدقيقة لتطبيقات القانون والالتزام بالأخلاقيات ذات الصلة تحتاج وقفة موضوعية جادة فالخطر في مجال نقل وزراعة الأعضاء البشرية يؤثر بدرجة كبيرة علي منظومة الحياة برمتها علي وجه الأرض.