ولم تحاول حكومة واحدة طوال هذه الحقبة التي تزيد من نصف القرن.. الخروج علي الشعب اليوناني.. بخطة إصلاح هيكلية

الشعب اليوناني العظيم.. يحب الحياة.. ويكره التقشف.. ويعيش علي ما تركه له الآباء والأجداد من ثقافة الحصول علي الرزق بأقل الجهد.. وبلا كد ولا تعب.. والاستمتاع بالحياة الفانية إلي آخر ساعة.. وحتي قيام الساعة.. والتعايش الجميل مع الديون ومستحقاتها وفوائدها.. بلا شح.. وبلا ادمان للادخار الذي تمقته وتستقبحه الثقافة السائدة التي تري أن يعيش اليوناني يومه كأنه يموت غدا.. وأن السعادة والثراء.. لا يتفقان!
الشعب اليوناني شعب محب للحياة.. يعيش كل مواطن فيه كأنه واحد من الكبراء والأمراء الذين يأتيهم الرزق من الحكومة.. وكل شهر بلا مراء، ولذلك فقد انتشرت في ربوع البلاد قاعات الشراب والطعام التي يقف أمامها الأجنبي وقفة الإجلال والإعظام.. وهو يتأمل أبناء الشعب اليوناني في مختلف الأعمار والأحجام وهم يسيرون بين صفوف الزبائن في المطاعم في خيلاء.. وثقة شديدة بالنفس والقدرة علي الدفع.. ومعه البقشيش الذي يتناسب مع المقام الرفيع.
والمطاعم اليونانية من المزارات السياحية الجاذبة لكل راغب في الاستمتاع بالحياة.. وكانت المطاعم اليونانية في ربوع مصر طوال حقبة الأربعينيات والخمسينيات.. من الأماكن التي تحظي بثقة المواطن المصري.. إلي جانب محلات البقالة.. التي تتسم بالنظافة المفرطة في زمن لم يكن يجول بالخاطر.. احتمالات الغش.. والاتجار بالسلع الفاسدة.. ولحوم الحمير.. المحالة للمعاش!
ما علينا.. نعود لموضوعنا.. نقول ان ثقافة حب الحياة.. أسفرت عن ظاهرة انفرد بها الشعب اليوناني.. وهي الخلل الواضح بين دخل المواطن وبين نفقاته.. التي لا تحتمل أي مساس. من جانب أي سلطة في البلاد.. أو من الدول الأجنبية.. كما أدت بالتالي إلي خلل مماثل بين ميزانية ما تنفقه الدولة.. وبين ايراداتها التي تتراجع كل سنة.. ومع كل ميزانية.. ومع كل حكومة تصل لسرير السلطة.. وهي تلوح بأصابعها بالإغراءات.. ومعها المساحيق اللغوية التي تمكنها من منافسة الغانيات بملابسها وزينتها وكلامها الهامس المعسول.
والطريف في الموضوع ان جميع الحكومات التي تولت السلطة في اليونان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٤٥.. انتهجت نفس السياسة.. وهي الاستدانة من المؤسسات الدولية والبنوك العالمية والدول الصديقة.. من أجل تلبية حاجة المواطن اليوناني في الاستمتاع بالحياة بأقل جهد ممكن.. لدرجة أن الديون اليونانية.. تحولت إلي قضية سنة ١٩٦١. عندما رفضت دول السوق الأوروبية قبول اليونان عضواً في السوق بسبب تراكم ديونها إلي الحد الذي قيل إنه سوف يشكل ثغرة تهدد مستقبل السوق الأوروبية المشتركة.. وكانت هولندا هي التي اشترطت أن تدفع اليونان ديونها الخارجية كشرط لقبولها الانضمام إلي السوق الأوروبية المشتركة.. ودارت  أيامها معركة تدفعني إلي القهقهة كلما تذكرتها عندما أعلن رئيس الوزراء اليوناني «أيامها» كرامانليس ان انضمام اليونان للسوق المشتركة ليس من اختصاص هولندا التي ليس من حقها مناقشة مسألة ديون اليونان الخارجية (!!) وعلي هولندا مراعاة الحيطة واللياقة عند تكلمها عن اليونان التي لن تجدي معها مثل هذه الوسائل التهديدية(!!)
في تلك الأيام.. وعلي وجه التحديد يوم الخميس ٩ مارس ١٩٦١. كتبت تعليقا في الصفحة الثانية بالصحيفة التي بين يديك حول الأزمة بين هولندا واليونان بسبب الديون اليونانية.. أشرت فيه إلي أن إيطاليا انضمت إلي موقف هولندا.. الأمر الذي أدي إلي رفض ولي عهد اليونان الاشتراك في مؤتمر الكشافة الذي كان من المقرر عقده في إيطاليا في النصف الثاني من شهر ابريل ١٩٦١! وقال في تبرير ذلك ان إيطاليا تقف ضد مصالحنا الوطنية وتعرقل مساعينا الاقتصادية!
وأشرت في هذا التعليق لمحاولة واشنطن الوساطة بين اليونان والشركاء في السوق المشتركة بسبب أزمة الديون.. وإلي دعوة وجهها الرئيس جون كيندي لرئيس الوزراء اليوناني كرامانليس وأشرت إلي أن دعوة كيندي وهي أول دعوة يوجهها الرئيس كيندي لرئيس حكومة في العالم.. لأن الدعوة التي وجهها كيندي لرئيس حكومة الدانمارك كانت لمجرد إقامة معرض للمنتجات الدانماركية في الولايات المتحدة.. أما عن زيارة رئيس وزراء بريطانيا المرتقبة للولايات المتحدة فإنها ستكون لتبادل وجهات النظر بين عضوين في حلف الأطلنطي!
اختصار الكلام.. ان الرئيس كيندي أبدي اهتماما بقضية قبول اليونان كعضو في السوق الأوروبية.. وطالب فرنسا وبريطانيا بتيسير قبول اليونان وغض الطرف عن قضية الديون التي تثير الخلافات التي يمكن حلها من خلال آليات السوق المشتركة.. في الوقت الذي بدأ فيه رئيس الوزراء اليوناني يجري الاتصالات لدعم علاقات بلاده مع كندا.. وقال ان كندا.. ساعدت بلاده كثيرا ابان محنتها في فترة الحرب العالمية الثانية وأثناء الاحتلال النازي.. وبالتالي فإن الشعب اليوناني يعتبر كندا دولة حليفة له.
المهم.. ان ضغوط واشنطن.. وعدم واقعية استبعاد اليونان.. الدولة الأوروبية في السوق الأوروبية.. أسفرا عن انضمام أثينا للسوق المشتركة.. ثم للاتحاد الأوروبي.. ثم إلي مجموعة العملة الموحدة «اليورو».. إلا أن عادات وتقاليد الشعب اليوناني.. المحب للحياة.. لم تتغير ولم تتبدل ولم تواكب زمن ما بعد انتهاء الحرب الباردة وصعود قوي عظمي جديدة.. بدأت تتنافس بمعايير ومقاييس جديدة تعتمد علي العمل والاتقان والابداع.. ومواكبة الزمن.
وبدأت الحكومات اليونانية المتوالية طوال الـ ٥٣ سنة الماضية تسير عبر النهج القديم وسياسة الاستدانة من البنوك والمؤسسات الدولية.. تارة.. ومن الدول الأعضاء في مجموعة العملة الموحدة ومن ألمانيا علي وجه التحديد.. تارة أخري.
ولم تحاول حكومة واحدة طوال هذه الحقبة التي تزيد من نصف القرن.. الخروج علي الشعب اليوناني.. بخطة إصلاح هيكلية.. تعيد النظر في الإنفاق الحكومي.. والحد من سياسة الاقتراض من البنوك الدولية بضمان وحيد.. هو العضوية بمجموعة العملة الأوروبية الموحدة (اليورو).. علي أساس أن هذه المجموعة لن تسمح بفرض عقوبات علي أحد الأعضاء.. عند عجزها عن السداد.
وهكذا تفاقمت مشاكل الديون.. وضربت الافاق في حجمها.. وبات الموقف أمام أحد حلين:
الأول: ان تقدم الحكومة اليونانية برنامجا للإصلاح والتقشف وخفض الانفاق الحكومي، يوافق عليه الشعب اليوناني في استفتاء عام.
الثاني: خروج اليونان من منطقة العملة الموحدة (اليورو) بعد أن وصفها اقتصادي بارز بأن وجودها في المنطقة.. بات أشبه بوجود زيمبابوي في قلب أوروبا.. ومعني هذا الحل ان تخسر الدول الأوروبية ٣٢٠ مليار يورو.. ومن بين هذه الدول بريطانيا التي تدين لها اليونان بنحو ١١ مليار يورو مسحوبة كلها من بنوك بريطانية.
ومن أكبر الخاسرين بالطبع.. ألمانيا.. التي تدين لها اليونان لـ ٦٨ مليار يورو.. دفعتها ألمانيا من ميزانية إنقاذ الاتحاد الأوروبي.. علاوة علي المعونات التي قدمتها حكومة ميركل.. باعتبارها قاطرة الاقتصاد الأوروبي.. علاوة علي القروض المسحوبة من البنوك الألمانية.
تبقي بعد ذلك كلمة.. وهي أن فوز «لا» في الاستفتاء علي الإجراءات التقشفية التي كان يتعين علي الحكومة اليونانية اتخاذها.. تعني أن الشعب اليوناني يؤمن بالحكمة الخالدة التي تقول «إن السعادة والثراء.. لا يتفقان»!