أحمد فضل شبلول يكتب: نجيب محفوظ ونزار قباني.. وجهًا لوجه

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

لم يكن نجيب محفوظ فى يوم من الأيام مع الرأى الذى يقضى بحجب الإبداع ومنعه ومصادرته، وله مواقف مشهودة فى هذا الأمر عندما كان رقيبًا على المصنفات الفنية عام 1959، وكان النقاش والإقناع سبيله إلى التغلب على أية عقبة تقف فى طريق الحجب والمنع.
لذا لم يكن موافقًا على حجب ومنع قصيدة «هوامش على دفتر النكسة» للشاعر السورى نزار قبانى التى كتبها بعد الهزيمة، والقصيدة جاءت معبرة عن آلام الشعب العربى وأحزانه جراء الهزيمة والأسباب التى قادت إليها. وهى تعد تحولا خطيرًا فى مسيرة نزار الشعرية، لكن التقزّز من النفس لا يكفي. والاقتصار عليه إخلالٌ بالرؤيا المتكاملة، وإنما يغفر لنزار أنه كتبها فى أعقاب النكسة مباشرة.
وكان صاحب «الثلاثية» يتابع الشاعر ويستمع إلى بعض قصائده المغنّاة، وقد سعد بالقصائد التى لحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب ومحمد الموجى وغنتها كوكب الشرق أم كلثوم والمطربة نجاة الصغيرة، والقصائد التى غنّاها عبدالحليم حافظ، وفايزة أحمد وغيرهم.

 يبدو أن نزار قبانى لم يعرف أن صاحب «ميرامار» لم يهادن السلطة يوما، وأنه هُدد بالاعتقال أكثر من مرة، بسبب آرائه ورواياته، وأن رئيس المخابرات صلاح نصر أرسل قوة بالفعل لاعتقاله بعد موافقة عبدالحكيم عامر الذى اتصل بالرئيس جمال عبدالناصر الذى كتب نزار قصيدته ضده بعد الهزيمة

ولكن اختلف الأمر عندما كتب نزار قصيدة بعنوان «المهرولون» بعد اتفافية أوسلو» عام 1995. وقتها رأى صاحب «الكرنك» أنها قصيدة قوية جداً، وقنابل تفرقع فى عملية السلام، من دون أن تقدم بديلا عنها. وقال فى جريدة الحياة» التى تصدر فى لندن: «لقد أعجبتنى (القصيدة) رغم اختلافى السياسى معها..»، «إنه لا ينفى إعجابه بها. وقال: «من يشارك نزار قبانى موقفه، سيجد فيها تعبيراً قوياً عن هذا الموقف، لكنه موقف يبدو أضعف من القصيدة بكثير، قصيدة قوية.. وموقف ضعيف». 


لقد أبدى صاحب «أولاد حارتنا» تقديره لما حوته القصيدة ضمنًا من نداء للعرب بأن يهبوا، واعتبر محفوظ ذلك أملا نتطلع إليه جميعا، لكنه رأى أن هذا لا يكفى من دون طرح بديل لما يجرى فى عملية السلام، وأعرب عن عدم اقتناعه بأن هذا البديل هو أن نوقف هذه العملية، و(نقعد ساكتين)، وقد لاحظ أن نزار قبانى لم يقل إنه مع الحرب، ولم يقدم أى بديل. ففى مثل هذه المواقف لا بد من تقديم البديل، ولا يكفى أن نهاجم العرب أو الحكام لأنهم يهرولون ويلهثون، ويقبّلون حذاء القتلة، ويفرطون فى كل شيء، فالأهم أن يقول لهم الشاعر ماذا يفعلون.


وفى رأى صاحب «السمان والخريف» أن هناك من يرفضون السلام فيما لا ينادون بالحرب، ولا يقدمون خيارًا ثالثا. وقال: ماذا يفعل هؤلاء المتهمون بأنهم يهرولون، هل يجلسون ساكنين بلا فعل، وإذا كان البديل هو الإنتظار السلبى، فإن الطرف الآخر لا ينتظر أحداً، وإنما يمضى فى ابتلاع الأرض.

نزار قبانى

 


لم يسكت نزار قبانى بطبيعة الحال، وجاء رده قاسياً عنيفاً، ساخراً، وقد نشره فى مجلة روز اليوسف، وقال: «الأستاذ نجيب محفوظ، إنسان رقيق كنسمة صيف، وحريرى فى صياغة كلماته، ورسولى فى سلوكه على الورق، وسلوكه فى الحياة، إنه رجل اللاعنف الذى يمسك العصا من وسطها..ولا يسمح لنفسه بأن يجرح حمامة..أو يدوس على نملة..أو يغامر..أو يسافر..أو يغادر زاويته التاريخية فى حى سيدنا الحسين. هو رجل السلام والسلامة، ولا يعرف عنه، أنه تشاجر ذات يوم مع أحد.. أو تعارك مع رجل بوليس..أو وقف فى وجه حاكم أو أمير..أو صاحب سلطة..إنه دائما يلبس قفازات الحرير فى خطابه الإجتماعى، والسياسى..ويتصرف (كحكومة الظل) فى النظام البريطاني».


ويقول نزار أيضا: «فليعذرنى عميد الرواية العربية، إذا جرحت عذريته الثقافية، وكسرت عاداته اليومية، وقلبت فنجان القهوة على الطاولة التى يجلس عليها مع أصدقائه. فالقصيدة ليس لها عادات يومية تحكمها..أو نظام روتينى تخضع له، إنها امرأة عصبية، وشرسة..تقول ما تريده بأظافرها..وأسنانها.. القصيدة ذئب متحفز ليلاً ونهاراً، ومواجهة بالسلاح الأبيض مع كل اللصوص..والمرتزقة..وقراصنة السياسة..وتجار الهيكل».


ويضيف الشاعر قائلا: «هذا موقف الشعر مما يجرى على المسرح العربى، فإذا كان الأستاذ نجيب محفوظ يرى موقفى (ضعيفا).. ويطالبنى بأن أصفق لمسرحية اللامعقول التى يعرضونها علينا بقوة السلاح، وقوة الدولار، فإننى أعتذر عن هذه المهمة المستحيلة، ربما كنت فى قصيدتى حاداً، وجارحاً، ومتوحش الكلمات.. وربما جرحت عذرية كاتبنا الكبير، وكسرت زجاج نفسه الشفافة، ولكن ماذا أفعل؟ إذا كان قدره أن يكون من (حزب الحمام)..وقدرى أن أكون من (حزب الصقور)؟!


ماذا أفعل إذا كان أستاذنا نجيب محفوظ مصنوعا من القطيفة..وكنت مصنوعا من النار والبارود؟! ماذا أفعل إذا كانت الرواية عنده جلسة ثقافية هادئة فى (مقهى الفيشاوي). وكانت القصيدة عندى، هجمة انتحارية على القبح والإنحطاط، والظلام، والتلوث السياسى والقومي؟!»


ويقول: «ولأن الشعر يتصرف بطفولة وتلقائية، لا يمكننا أن نطلب منه أن يكون حكيما أو واعظا، أو خطيبا أو معلم مدرسة. ليس من وظيفة القصيدة أن تقترح الحلول، وتجد البدائل وتكتب الروشتات للمرضى والمعاقين.


الشعراء ليسوا جنرالات..ولا يعطون التعليمات، ولا يعلنون الحرب، ولا يوقفونها، ولو كان مسموحا للشعراء أن يكونوا فى مركز اتخاذ القرار لما امتلأ العالم بالمجازر العرقية والعنصرية، ولما حولت قنبلة هيروشيما 250 ألف يابانى فى ثانية واحدة إلى بشرية تتبخر.»


ويختتم نزار قبانى مقاله الطويل قائلا: «شكرا لأستاذنا الروائى الكبير نجيب محفوظ الذى قرأ قصيدتى (المهرولون) فأعجبته شعريا.. ولم تعجبه أيديولوجيا.. وموقفا، وإذا كان الخطاب الشعرى قد هزَّ أعماقه، فهذا دليل على أن حساسيته الشعرية لا تزال بخير.. وقلبه الكبير لا يزال يفرح بالتماع البروق ، وسقوط الأمطار.


أما مواقفنا الأيديولوجية المتصادمة فى قضية السلام، فهى بسيطة وهامشية، ولا تفسد للود قضية».


وبالفعل لم يفسد الود الذى بين محفوظ وبين نزار قبانى أحد المجددين فى شعرنا المعاصر، وحزن حزنا شديدا على رحيله فى لندن عام 1998.


ولكن يبدو أن نزار قبانى لم يعرف أن صاحب «ميرامار» لم يهادن السلطة يوما، وأنه هُدد بالاعتقال أكثر من مرة، بسبب آرائه ورواياته، وأن رئيس المخابرات صلاح نصر أرسل قوة بالفعل لاعتقاله بعد موافقة عبدالحكيم عامر الذى اتصل بالرئيس جمال عبدالناصر الذى كتب نزار قصيدته ضده بعد الهزيمة، ثم عاد فرثاه بقصيدة أخرى رفعه فيها إلى رتبة الأنبياء بعد وفاته، قائلا: «قتلناك..يا آخر الأنبياءْ..قتلناكَ..ليس جديداً علينا اغتيال الصحابة والأولياءْ..فكم من رسول قتلنا..وكم من إمام..ذبحناه وهو يصلى صلاةَ العشاءْ..فتاريخنا كله محنةٌ.. وأيامنا كلها كربلاء».


عندما اتصل عبدالحكيم عامر بجمال عبدالناصر ليخبره فقط أنه أرسل قوة لاعتقال نجيب محفوظ، قال له عبدالناصر: «لأ يا عبدالحكيم..لأ». ورفض عبدالناصر هذا الإجراء الذى كان سببه ما كتبه محفوظ فى روايته «ثرثرة فوق النيل». كان المشير عبدالحكيم عامر يرى أن الكاتب تخطَّى كل الحدود لانتقاده الأوضاع المتعلقة بالمناخ البوليسى الذى كان سائدًا قبيل حرب 1967. فأين إيثار السلامة، وأين القفازات الحريرية والعذرية التى تحدث عنها نزار. 


لقد رأى عبدالناصر أن أعمال محفوظ تنير الكثير من بقع الظلام، فتكشف السلبيات التى تجرى فى الخفاء قبل أن تستفحل. وقال للمشير بالحرف الواحد: «أمَّال عايزنا نعتمد على التقارير الرسمية وبس؟» ثم قال للمشير: «إحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟».


هذا هو عبدالناصر الذى قال عنه نزار قباني:  نزلت علينا كتابا جميلاً..ولكننا لا نجيد القراءة..وسافرت فينا لأرض البراءة..ولكننا ما قبلنا الرحيلا..تركناك فى شمس سيناء وحدك..تكلم ربك فى الطور وحدك..وتعرى..وتشقى..وتعطش وحدك..ونحن هنا نجلس القرفصاء..نبيع الشعارات للأغبياء..ونحشو عقول الجماهير تبناً..وقشاً..ونتركهم يعلكون الهواء».


وقال صاحب «زقاق المدق»: فى عهد الرئيس السادات رفضتُ حالة اللاسلم واللاحرب التى كانت سائدة قبل حرب 1973، ووقعتُ على العريضة الشهيرة التى وقعها الكثير من الأدباء، وبسبب هذ الموقف اتُّخذت ضدى بعض الإجراءات التى لم تُتخذ فى عصر عبدالناصر، ومُنعت من الكتابة فى الصحف، وحُظرت إذاعة أفلامى فى التلفزيون. وكان موقفى صلبا واضحا لا يتزعزع».


وأضاف: لا أدرى إن كان نزار سمع عن الأزمات التى تعرضتُ لها بعد رواية «أولاد حارتنا» أم لا؟  ويبدو أنه أيضا لم يسمع عن آثار الجدل والنقاش حول روايات أخرى مثل «الكرنك» و»اللص والكلاب» و»الشحاذ»، وقصص مثل «أهل القمة» و»الحب فوق  هضبة الهرم»، و»الخوف» التى صدرت فى بداية الستينيات وقت أن كان يكتب نزار قصائده الغزلية فى المرأة، ويتحدث عن نهديها وجسدها بطريقة مثيرة، وعن أهرام الحلمات. 


وأكد صاحب «الحرافيش» أنه عاش بسبب «الخوف» حالة من الرعب دامت لفترة طويلة. فقد كانت تمثل نقدًا مقصودًا للأسلوب غير الديمقراطى الذى اتبعه النظام فى ذلك الوقت. ثم تعرض لمحاولة الاغتيال فى 14 أكتوبر عام 1994، وأنقذته العناية الإلهية والرعاية الطبية بمستشفى الشرطة بالعجوزة.


ومنذ أن نشر محفوظ قصة «الخوف فى الأهرام» وقد بدأ يكثر الهمس حولها، ومَن ترمز إليهم شخصياتها. وفى أكثر من مرة اعترض طريقه فى الشارع بعض الضباط، وكانوا يسألونه مباشرة ماذا كنت يقصد من هذه القصة، ومن هو المقصود بالضابط المستبد بطلها، لدرجة أنه اقتنع أن تلك المقابلات فى الطريق العام لم تكن من قبيل المصادفة، وإنما كانت نوعًا من التحقيق غير الرسمي.


ويوضح محفوظ: يبدو أن نزار لم يقرأ تلك القصة التى تحكى عن مجتمع يسيطر عليه الفتوات الذين يتصارعون فيما بينهم، لكن أحد الضباط يتصدى لهم ويهزمهم فيصبح هو المتحكم فى كل شيء، ويترك الضابط الملابس العسكرية، ويرتدى الملابس المدنية، ويعيش بين الفتوات، ويجلس على مقاهيهم، وينتهى به الأمر أن يخطف منهم الفتاة التى كانوا يتنافسون جميعا للفوز بها.


وقد فسر الناس الضابط على أنه جمال عبدالناصر، والفتوات المتصارعين على أنهم الأحزاب القديمة، والفتاة التى يتصارعون حولها على أنها السلطة.


ولا جدال أن القصة كانت تهاجم الحكم، حين يكون ديكتاتوريا، وكان نجيب محفوظ يقول للضباط: «إننى لم أكن أقصد جمال عبدالناصر بشخصه، وإنما قصدت الضابط أبوزيد الذى اشتهر قبل الثورة، بعد أن أرسلته الدولة إلى الصعيد للحد من سيطرة الفتوات هناك».

 

 

اقرأ أيضا | رواية طه حسين تخرج إلى النور .. دار الكتب تصدر "خطبة الشيخ"