كانت أنهار المعرفة تفيض من بغداد والبصرة والكوفة والقاهرة وطليطلة وقرطبة لتغزو كل بلدان الدولة الإسلامية التي امتدت من الهند والصين شرقاً إلي الأندلس والمغرب غرباً، كما عاشت جزيرة صقلية تحت راية الإسلام عدة قرون، وكانت باباً دخلت من خلاله الحضارة الإسلامية إلي جنوب إيطاليا وتحدث أغلب سكانها اللغة العربية، وكانت جامعات طليطلة وقرطبة الإسلامية بالذات هما مراكز الإشعاع العلمي علي العالم وهو ما جذب طلاب العلم وراغبي المعرفة، فكان يقصدها الدارسون من الشرق وهو العالم المتقدم الغني في ذلك الوقت مثل مصر وسوريا وفارس وعدد قليل من الشمال من أوروبا التي كانت تعيش في عصور الظلام ووصفت بالبلاد النامية في ذلك الوقت.
من أهم سمات النهضة العلمية الإسلامية أن علماءها استخدموا العلم والمعرفة في ترسيخ وتعزيز وتعميق المعتقدات الدينية لا في التصادم معها، وأعطت سماحة الإسلام ومتانة العقيدة ورسوخها مرونة فكرية، فلم يكن هناك أي خوف مطلقاً من آراء العلماء سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين أو من الإغريق أو المصريين القدماء أو الهنود أو الفرس 000 الخ مهما كانت مخالفة، فلم ينكروا أو يهملوا منها شيئاً بل قاموا بتجميعها كلها ودراستها واستيعابها وحققوا ودققوا وأثبتوا خطأ ما كان خطأ وتبنوا وطوروا بطرق علمية منضبطة غاية في الإنصاف ما وقع تحت يدهم من علم ومعارف، فلم تحدث، حادثة واحدة علي مدي تاريخ النهضة العلمية الإسلامية لأي من العلماء الذين اجتهدوا في العلم وأبدعوا وجاءوا بأفكار جديدة قد تخالف ما هو معروف أو مألوف تشبه حادثة جاليليو في أوائل القرن السابع عشر في أوروبا الذي حكم عليه بالإعدام، وعندما أجبر علي إنكار اكتشافاته عن الشمس والكواكب والأرض (وكلها صحيحة) وأقر بأنها خطأ وضد المعتقدات الدينية والمألوف في ذلك الوقت، خفف الحكم إلي الحبس المنزلي مدي الحياة، وجدير بالذكر أن البابا جون بول الثاني أعاد الاعتبار لجاليليو في عام 1980 أي بعد ما يقرب من أربعة قرون.
تأثر العلم الإسلامي بدون شك بكل الحضارات التي قاموا بتجميعها وتجميع تراثها وتدارسوه بعناية وعمق بالغين، وهنا لا يمكن إنكار أن علماء المسلمين قد استوعبوا أعمال اليونانيين القدماء في فروع العلم المختلفة، إلا أنهم لم يأخذوها كقضايا مسلم بها بل قاموا بتفنيدها والتحقيق والتدقيق والتعليق علي كل ما ورد فيها، وإن كان المسلمون قد استفادوا من التراث الإغريقي فقد أفادوه بحفظه من ضياع كان محققاً (وكان قد ضاع فعلاً جزء منه) وذلك بترجمته إلي العربية واستكمال وتحليل وتوضيح وتصحيح بعض الفرضيات والنظريات العلمية فازداد التراث اليوناني القديم بهذه الجهود نضجاً وقيمة، وفي هذا الموضوع يقول المؤرخ برنال «إن الفضل أعظم الفضل للعلماء في عصر النهضة الإسلامية في الحفاظ علي هذا التراث ونقله وتقويته والتأليف فيه وإن العلماء العرب قد بلغوا شأناً عظيماً في ذلك وتفوّقوا علي الإغريق، وجعلوا العلم سهلاً مستساغاً فأقبل الناس علي النيل منه»، وتجدر الإشارة هنا إلي أن اليونانيين الحاليين لم يتعرفوا علي حضارتهم القديمة إلا عن طريق الترجمة العربية للتراث اليوناني القديم التي تمت ترجمتها إلي اللاتينية في القرن الثالث عشر الميلادي.
كان علماء المسلمين دائماً يشيرون ويرجعون إلي أي من المعلومات السابقة ذاكرين من قاموا عليها اعترافاً بما سبق وهذا من أهم أخلاقيات البحوث العلمية في الوقت الذي يوجد هناك بعض المؤرخين الذين ينكرون مساهمة علماء المسلمين ويرفضون حتي الإشارة إليها، إلا أن هناك من المنصفين من يستنكرون هذا فمثلاً يشير العالم رام لاندو في كتابه «مآثر العرب» بقوله «إن المسلمين قدموا كثيراً من الابتكارات ومع ذلك فإن معظم الأمريكان والأوروبيين لا يذكرون من أي مخزن اكتسب العالم الأدوات التي لا يمكن بدونها أن تصل الحضارة الغربية إلي مستواها الحالي»، وهناك عدد من المؤرخين الذين انتقدوا تناسي هذه الحضارة العظيمة وينسب نشأة العلم الحديث للإغريق فقط وعلي رأسهم جورج سارتون فيقول ما نصه «قام علماء المسلمين بدور عظيم في تقدم الفكر العلمي وتطويره، دور مملوء بالحماس والهمم ولم يكونوا مجرد ناقلين كما ادعي بعض المؤرخين المستشرقين»، وفي مقام آخر يقول جورج سارتون «إن بعض الغربيين الذين يحاولون التقليل من شأن مساهمة الحضارة الإسلامية ويدعون أن العرب والمسلمين لم يزيدوا علي نقل العلوم القديمة ولم يضيفوا إليها أن هؤلاء في خطأ صريح إذ لو لم تنقل إلينا كنوز الحكمة اليونانية القديمة وإضافات العرب والمسلمين المهمة عليها، لتوقف سير المدنية بضعة قرون، والواقع أن المسلمين أنقذوا العلوم القديمة وحفظوها من الضياع وأضافوا إليها إضافات مهمة وأساسية»، ولذلك فقد أصبح يقيناً أنه لولا حفظ المسلمين للتراث الإغريقي الذي استمد قوامه من التراث المصري القديم وما أضافوه لمسيرة تقدم العلم، لما أمكن لقطار العلم أن يسير بالصورة التي هو عليها الآن ولانتظرت النهضة العلمية الحديثة عدة قرون أخري لتصل ما وصلت إليه المعارف والمكتشفات الإسلامية العظيمة، التي كانت باللغة العربية إلا القليل النادر كان بالعبرية، وكما يشار إليه دائماً في أدبيات تاريخ العلم أنه لولا النهضة الإسلامية العلمية، لكان علي علماء النهضة الحديثة أن يبدأوا من حيث بدأ به المسلمون وليحذو حذوهم مرة أخري، وكان علي الإنسانية أن تنتظر ما يقرب من خمسة قرون لتصل إلي النضوج العلمي الذي وصل إليه المسلمون.
من أهم ما أضافه المسلمون إلي الأسلوب العلمي في البحوث هو عنصر التجريب الذي أصبح من أهم عناصر البحث العلمي حتي يومنا هذا، وهنا يشير جورج سارتون إلي هذا المفهوم بقوله «إن الإنجاز الأساسي والذي يغيب عن الأنظار في العصور الوسطي كان خلق روح التجريب ويرجع إلي المسلمين حتي القرن الثاني عشر»، وفي كلمات بريفولت ما جاء بالنص «اليونانيون القدماء (الإغريق) نظموا وعمموا وتوصلوا إلي نظريات لكن الأسلوب الهادئ للمشاهدات المطوّلة والتجريب لم تكن من سمات التراث اليوناني، وما نطلق عليه علم نشأ نتيجة لأسلوب تميّز بالمشاهدة والتجربة والقياس الدقيق الذي قدمه العرب لأوروبا».
ربط علماء المسلمين معلوماتهم ومعارفهم وخدمة الإنسانية وأتاحوها لمن يريد الانتفاع بها والاستفادة منها ولم يستغلوها لأي غرض آخر سوي المنفعة العامة، هو ما أشار له المفكر والمؤرخ راندل بقوله «بني المسلمون في القرن العاشر حضارة لم يكن العلم فيها مجرد براعة فحسب بل كان علماً يخدم الصناعات وفنون الحياة العملية»، ولعله من المناسب هنا إبراز مقولة شهيرة لأحد كبار المؤرخين العالميين اسمه بريفولت «Briffault» والتي دائماً ما يشير إليها القائمون علي تاريخ العلم «ما العلم الحديث إلا أهم وأخطر إسهامات الحضارة الإسلامية».