ضريبة الغربة

سارة الذهبى
سارة الذهبى

‎لما تعدّى عليك أعياد ورمضان وأعياد ميلاد وتلاقى نفسك بطولك لا قادر تفرح ولا عارف طعم الفرحة من بعد اللى غابوا

بسبب ظروف البلاد العربية اللى مبقتش زى الأول فى أسر كتير مكانش قدامهم أى حل غير ان الأب يفضل فى البلد العربى ومراته بولاده ينزلوا يستقروا فى مصر.. هحاول أفهّم الناس اللى ما عدّتش بالموقف ده ليه مبيكونش فى حل تانى الا الحل ده عشان يكونوا معانا على نفس الخط... 


الشركات بتسرّح اللى بيشتغلوا فجأة بدون سابق انذار أو بيدّوهم مهلة قليلة جداً عشان يدبّروا أحوالهم قبل ما ينهوا عقودهم فا ساعتها الزوج والزوجة بيقرروا ياخدوا الخطوة دى خصوصاً لو فى أولاد لازم يستقروا فى مدارس ولازم حياتهم ما تتقلبش فوقانى تحتانى فى لحظة.. 


الزوجة بتنزل ومش هقدر أحكيلكم كم المعاناة النفسية وهى بتحاول تلملم قوتها عشان تبقى قد المسئوليات الجديدة.. واحدة سايبة بلدها من عشرة خمستاشر سنة وفجأة هتنزل تتعايش وتعيش وتشيل كل حاجة فوق دماغها.. 


فترة جّس النبض دى واننا نتعوّد سِنة سِنة بقت رفاهية... هى نزلت فجأة فى بلد آخر عهدها بيها أجازة شهر وبتمشى تاني.. بتتفسح وتزور أهلها وتسافر تاني... نسيت كل التفاصيل ونسيت العيشة فى بلدها ازاى رغم انها بلدها بس صدقونى دى الحقيقة.. الغربة بتخليك تحس انك متغرّب فى كل الأحوال والأماكن... جوه بلدك وفى البلاد التانية... بتحس انك مبقتش عارف كتالوج العيشة هنا.. ايقاع الحياة سريع جدااااا ومفيش حد فاضى يفهمك هى البلد بقت ماشية ازاى عشان تفهم اللى فاتك فى سنين غيابك.. وتبدأ الست الدوران فى الساقية.. و لوحدها.. بالعيال!


.... بتبدأ الرحلة بالبحث عن المدارس ودى أكتر خطوة مرعبة لكل الأهالى خصوصاً الأمهات... وتبدأ سلسلة المقارنات بين مصر والبلد اللى كنت فيها؛ مقارنات مالية واجتماعية وتعليمية والمقارنات دى بتزود الضغوطات اللى عليك... بعدها رحلة طيب هستقر فين انا والولاد؟ هقعد مع أهلى وآخد بحسهم وياخدوا بحسى خصوصاً انى معرفش أى حاجة فى البلد واللا استقر فى شقة ايجار جنب المدرسة عشان ما ندفعش باص وأوفّر فلوس للراجل الشقيان اللى هناك... لإن غالباً اللى بينزلوا مصر فى الأوضاع دى بيكونوا حاجزين شقة ولسه كام سنة على ما يستلموها فا صراع هنستقر فين ده بيزود الضغوطات أكتر وأكتر لإن تربية الولاد فى بيت الجدة والجد بيفقدنا السيطرة على الولاد وبيعمل شد مع أهالينا واحنا مش ناقصين.... طيب استقرينا وشوفنا المدارس.. الزوجة مطلوب منها تكون الأب والأم.. 


حازمة وبتربى بشدة ولين فى نفس الوقت.. بتشد بدرجة وبترخى بدرجة وكل ده محسوب بالشعرة عشان العيال ما يفلتوش منها.. 


مطلوب منها تعمل كل المشاوير اللى فى الحياة وانت عارف يعنى ايه مشاوير فى مصر وممكن جدا ميكونش معاها عربية فا زيد على كل ده بهدلة المواصلات.. وطبعاً بيكون مطلوب منها ورق كتير أوى يخلص بمجرد نزولهم وانت أكيد عارف يعنى ايه مصالح حكومية وتخليص ورق! مطلوب منها تسلك وتتلحلح وهى أصلاً راجعة من الغربة بفتة بيضا...


 كائن غلبان ملوش حيلة! محتاج اللى ياخد بايده..


 مطلوب منها تودى وتجيب من تمارين.. وتروح لدكاترة.. وتشترى كل المطلوب.. وتدفع فواتير.. وساعات كمان توصل وتجيب من المدارس.. مطلوب منها مجاملات بالهبل ومكالمات بالكوم وهى أساساً نسيت يعنى ايه تليفون بيت بيرنّ وبتتخض لو جرس الشقة رنّ أو باب خبّط! وكل ده من اللى عاشته فى الغربة.. 


فلان مستنيها تسأل وفلانة زعلانة عشان نسيت عيد جوازها وباباها واخد على خاطره عشان مش بتروحلهم كتير... كل دى ضغوطات عمالة تزيد عليها... سيب كل ده على جنب وفكّر فى الست دى نفسها ونفسيتها... مفيش حد بياخد بحسها......حتى أهلها اتعودوا على غيابها! كل اللى حوليها بيطلبوا منها وبس... فقدت ونس الزوج وسندته ليها لما بتتعب... مبقاش عندها رفاهية انها تقول مش قادرة... لازم تدور فى الساقية عشان محدش غيرها شايل المسئولية دلوقتي.. كل حاجة بقت فى رقبتها.. وفوق راسها.. محدش من اللى حوليها بيفكر هى عايزة ايه أو تعبانة ليه أو حاسة باستقرار واللا تايهة ومشوشة! 


فى احساس اسمه I don't belong here... يعنى بتحسى ان لا بلدك مكانك ولا الغربة مكانك لإنها بلد هتعيشى فيها مؤقت... المغترب بيدفع طول عمره ضريبة الغربة فى الاحساس ده انه مبقاش لاقى مكان يرتاح فيه ولا مكان ينتمى له بجد... دايماً فى مشاعر ناقصة فى عيشته... كفاية أوى على الست اللى نازلة تعيش بولادها لوحدها الهم اللى بتبقى شايلاه والخوف اللى بتحسه طول الوقت.. ارجوكوا بلاش تضغطوا عليها اجتماعياً فى كل حاجة وتفتكروا ان أمورها مستقرة عشان هى ما بتشتكيش... الغربة علمتنا ان الشكوى لغير الله مذلة فا مبقناش بنتكلم... بس اللى فينا مكفّينا..


وجع الفراق


‎ما تستغربوش ان وجع الفراق بيبان وبينقح علينا مع مرور الأيام.. ‎أيام الفقد الأولى بتكون السكّينة سارقانا؛ زى اللى بيكون مخبوط على دماغه بحاجة ومش دريان باللى بيحصل حوليه! محسوب على العايشين عشان بيتنفس بس من جواه ميت من لحظة الفراق!


‎الوجع اللى بجد بيتحس لما باب الشقة يتقفل عليك لأول مرة ومتلاقيش حبيبك جوه.. ‎لما تبص على سريره تلاقيه بارد وفاضي.. ‎لما تلاقى نضارته وساعته وهدومه متعلّقين ومش بيتحركوا من مكانهم.. لما تلاقى مصحفه وسجادة الصلاة مش بيتحركوا من مكانهم..


‎لما ريحة حبيبك تختفى من أركان البيت.. بعد ما كانت معبياه..


‎لما يتهيألك انك سمعت صوته بينادى وتدّور عليه وترد عليه وفى الآخر تكتشف ان كل ده سراب! وتفوق على الحقيقة انك مش هتشوفه تاني..


‎لما يتذكر اسم حبيبك وبعدها جملة «الله يرحمه».. وانت مش مجمّع هما بيتكلموا عن مين؟


‎لما ميبقاش فى طعم لأى حاجة ولا فى روح فى أى مكان!


لما كل مكان جمعكوا سوا يتحول لذكريات قاسية بتخليك تبكى وتعيش فى حالة محدش فاهمها الا انت..


‎الوجع بينقح عليك فى كل لحظة بدون أى مقدمات وبيسيب جرح فى قلبك ملوش دوا..


‎ الوجع اللى بجد بيتحس فى المناسبات؛ الحلوة قبل الوحشة.. لما حد من ولادك ينجح ومتعرفش تكلم اللى فقدته عشان تشاركه فرحتك..

بتمسك التليفون وتطلع نمرته وتتصل فعلا فتلاقى التليفون مقفول فا تسيبه تانى عشان افتكرت ان مفيش حد هيرد عليك مهما اتصلت..


‎ الوجع هيتحس لما انت نفسك تعمل حاجة كويسة أو تترقى فى شغلك أو تنجح وتتبسط ومتلاقيش اللى بتحبه جنبك.. يفرح لفرحك.. حتى لو كل الناس جنبك بس انت عايزه هوّ..


‎لما تعدّى عليك أعياد ورمضان وأعياد ميلاد وتلاقى نفسك بطولك لا قادر تفرح ولا عارف طعم الفرحة من بعد اللى غابوا..
لما تتجمعوا على السفرة فى أى مناسبة وتلاقى كرسيه فاضي..


‎لما ييجى عيد ميلاد اللى بتحبه أو ييجى يوم وفاته وتفتكر تفاصيل كتير أوى كإنها لسه حاصلة من دقيقة!


هتلاقى نفسك فاكر كل تاريخ يخصه بالميلادى والهجري.. خصوصًا لو عيد ميلاده أو يوم وفاته مرتبط برمضان أو عيد أو مناسبة..
لما تِمرض أو تِحزن وتكتشف انك خلاص بقيت بطُولك!

ناس كتير حوليك بس فى شخص بعينه حاسس من بعديه بالوحدة واليُتم..
حتى مكالمة التليفون اللى كانت بتطمّنك فى عز وجعك وتعبك مبقتش موجودة ولا الحضن اللى انت اتعودت تترمى فيه بقى موجود!


هتحس بمعنى الفقد الحقيقى لما تبقى مش عارف تتكلم براحتك عشان اللى كان بيفهم قصدك ونيتك من غير ما تشرح مبقاش موجود فا مبقاش فى حد تتعامل معاه على طبيعتك من غير ما تخاف هيفهمك ازاى، مبقاش فى الشخص اللى مش بتخاف تبان قدامه فى عز ضعفك من غير ما تخاف انه يستغل الضعف ده ضدك... أو يلوى بيه دراعك فى مرة..


‎الفراق عامل زى الجرح اللى بيتفتح بمرور الأيام، مش بيلم مع مرورها زى ما اللى مجرّبش الفراق فاكر.. 


‎كل مناسبة بتعدَى علينا كإنك دلقت سبرتو على جرح مفتوح والوجع ما بيروحش!


‎اوعوا تقولوا للى فقد أحبابه باستغراب «ايه ده انت لسه زعلان أوى كده!» لإنها جملة مستفزة وباردة.. جملة ما يقولهاش الا شخص مجربش وجعها ولا لسه اتحط فى ابتلاء فقد الحبايب..


‎وجع الفراق مش بيتمسح بأستيكة الأيام ولا مرارته بتختفى طول ما انت عايش.. لإنك كل ما تكبر كل ما هتحتاج لحبيبك وهتفتقده وهيوحشك..


‎فى مقولة بتقول ان كل حاجة بتتولد كبيرة وبتصغر مع الوقت بس بالنسبالى الألم بينطبق عليه العكس.. بس الفكرة انك بتحاول تتعايش فا ممكن فى الأول متقدرش تتعايش أوى وبعد كده متلاقيش ان فى مفرّ غير انك تتعايش عشان الحياة لازم تستمر؛ بس بتستمر بنص قلب؛ بنص ضحكة؛ بقلب مكسور؛ بفرحة ناقصة.. أو بفرحة معدومة... ياريت جرح الفراق كان بيلّم بسرعة زى ما اللى مجرّبوهوش فاكرين.. ياريت!!! بس اللى ما يعرفش يقول عدس!


وفعلًا ما يحسش بالنار الا اللى كابشها وربنا يصبر قلب كل موجوع ومدارى وجعه وراضى بقضاء ربنا وبيحاول يتعايش..