حديث الاسبوع

الكفاءة خانت الغرب

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

دون أدنى مجازفة فى القول، يُجمع كثير من المحللين والمراقبين على أن القوى العظمى فى العالم لم تعد بتلك القوة المعهودة، التى مارست من خلالها تفوقها العلمى والعسكرى والاقتصادى فى العالم، وأن تداعيات جائحة كورونا، أكدت أن هذه القوى لم تعد الفاعل الرئيسى الوحيد فى الأوضاع السائدة فى العالم، وأن الأسباب التى مكنتها من أن تحتل موقع الريادة فيما يتعلق بممارسة القوة لم تعد قادرة على أن تضمن لها احتكار هذا الامتياز، الذى مكنها من أسباب النفوذ والهيمنة لعقود طويلة من الزمن.


أولا، كشفت هذه التداعيات أن الكفاءة العلمية هى بصدد الانتقال من الغرب إلى الشرق، فمن جهة تؤكد المعطيات المتعلقة بالتطورات المتسارعة والمتعلقة باستمرار هذه التداعيات فى التناسل أن تأثيرات الوباء كانت أقل حدة فى قارة آسيا، من حيث أعداد الموتى من جراء الفيروس، ومن حيث التكاليف الاقتصادية والخسائر التى ترتبت عليها، بحيث كانت دول آسيا أقل تضررا، فى حين تكبدت اقتصاديات الدول الغربية خسائر فادحة وكبيرة  ثقيلة، ويفسر هذا الأمر بأن الغرب لم يحسن إدارة الأزمة الصحية الطارئة، حيث بدا مشتتا غارقا حتى الوحل فى اعتماد المفهوم التقليدى للقومية، حيث سعت كل دولة فى الغرب إلى إدارة الأزمة بمنهجية السيادة الوطنية.


ولنا أن نستحضر كيف توارت إلى الخلف فى لحظات صعبة وحرجة وخطيرة معاهدات التكتلات الإقليمية والجهوية، وكيف سارعت جميع الدول الغربية إلى إحكام إغلاق حدودها وعزل نفسها عن تلك التكتلات وعن العالم بأسره، ووجدت كثير من الدول الغربية نفسها وحيدة فى مواجهة الخطر بعد أن تهاوت منظوماتها الصحية، ووصل الأمر فى بعض الحالات، وفى بعض الدول إلى انتقاء من يموت أولا، لأن البنية الصحية لم تعد قادرة على استيعاب واستقبال ورعاية الوافدين عليها فى حالة خطر، واضطرت إلى ترك أعداد من مواطنيها يلاقون مصيرهم المحتوم، الذى لم يكن سوى الموت غير الرحيم .


وبدون الحاجة إلى إعمال كثير من الاجتهاد والبحث عن المبررات، فإن الكفاءة خانت الغرب فى التصدى للجائحة، فى حين نجحت جل دول الشرق فى محاصرة الفيروس علميا واقتصاديا، وهذا ما يتجلى من خلال التطورات والمستجدات، وما ترتب عنها، حيث لازال الغرب محاصرا بركام من الأسئلة الحارقة التى يفرزها استمرار الوباء، مخلفا كثيرا من الحقائق المخيفة التى تلقى بظلالها على مستقبل الأوضاع هناك.


وقد يكون أهم من كل ذلك أن شعوب الدول الغربية أبدت تنطعا كبيرا للسياسات التى اعتمدتها حكوماتها فى مواجهة الوباء، وكشفت عن افتقاد كبير للانضباط، إذ فى الوقت الذى تواجه فيه دولها تحديات كبيرة وخطيرة مترتبة عن استمرار التداعيات، بما كان، ولايزال، يفرض ويحتم انضباطا جماعيًا، وتحقيق تعبئة شاملة وقوية، لدفع الأخطار الكبيرة المحدقة بالمجتمعات، فى هذه الظروف يلاحظ المراقبون تدنى كبير فى معدلات الثقة بين الشعوب الغربية وحكوماتها. وفى المقابل أبدت شعوب الدول الشرقية، خصوصا فى آسيا، منسوبا ومستويات عالية من الانضباط والامتثال، قد يذهب البعض فى تفسير هذا المعطى إلى القول بأن عوامل الديمقراطية والتعددية والاختلاف المعاش فى الدول الغربية تتيح مساحات شاسعة للتعبير عن المواقف والآراء، وأن سلوك التنطع الذى أبدته شعوب العالم الغربى يجد تربته فى أجواء الحرية السائدة هناك، فى حين لا تتيح عوامل الانغلاق السياسى فى كثير من أقطار آسيا التعبير وإبداء المواقف بحرية حقيقية، وهذا تفسير منطقي، ولكن فى لحظات وأزمنة الأزمات قد يتوارى فيها هذا التفسير إلى الخلف، لأن الأمر يتعلق فى هذه الحالات بوجود خطر حقيقى يهدد الحق فى الحياة، ويعرض مستقبل الشعوب والأمم إلى أخطار حقيقية، وفى هذه الحالة فإن الخلاف والتجاذب فى موضوع مواجهة الأخطار يتوارى إلى الخلف ليفسح المجال أمام حتمية التعبئة الجماعية والانضباط الشامل لمواجهة التهديدات المحدقة بالأمم، فى أجواء من التفاهم والانسجام بين السلطات العمومية والمواطنين، لأنه فى لحظة تعرض دولة ما لغزو خارجى لا يعقل أن تنسحب القوات العمومية من الجبهة لإتاحة الفرصة أمام التعبيرات الداخلية المختلفة فى مواقفها من شرعية الغزو من عدمها، وعلى هذا المستوى يجب أن نعترف اليوم بأن الغرب لم ينجح فى هذا الامتحان الصعب، بيد أن دول الشرق، خصوصا فى قارة آسيا نجحت بمستويات عالية، ولذلك فإن الأوضاع فى الغرب ستظل مفتوحة على جميع الاحتمالات.


ومن جهة أخرى فإن الانتقال التدريجى للكفاءة العلمية والتكنولوجية من الغرب إلى الشرق يؤشر على بروز ما يمكن أن نسميه بـ (العولمة الجديدة)، حيث يتضح أن عوامل التجارة والاستثمار وطرق الإمداد وتنقل رءوس الأموال وتوطين الشركات، لن تظل العوامل الوحيدة المحددة لتحديات وسيادة هذه العولمة، بل إن التداعيات المترتبة على استمرار انتشار الوباء وقدرته الخارقة وغير المفهومة لحد الآن على التوالد وتفريخ متحورات جديدة، يؤشر على أن عوامل الجغرافيا والسياسة ستكون لها تأثيرات بالغة فى تحديد معالم هذه العولمة الجديدة، ولنا أن نلاحظ كمراقبين بروز دبلوماسية جديدة تعتمد اللقاحات فى التنافس على مناطق النفوذ فى العالم على أساس عامل جغرافى صرف.
ولا غرو فى القول إن التكتلات الإقليمية والجهوية فى الغرب، كما الشأن بالنسبة للاتحاد الأوروبى وحلف الناتو مثلا يعيشان اليوم أصعب المراحل فى تاريخهما بحكم الجروح المندملة التى تسببت فيها جائحة كورونا، والتى خلفها انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويجمع كثير من المراقبين على أن هذه التكتلات الإقليمية التى سادت كقوى لردح من الزمن تعيش فى الظروف الحالية أسوأ مراحلها.


خلاصة القول إن الدول الغربية قد تشرع فى الأمد المنظور فى التباكى على أزمنتها الجميلة التى دفنها تسونامى كورونا، وستجد نفسها مجبرة ومضطرة للبحث عن بدائل للصيغ التقليدية التى اعتادت ممارسة نفوذها فى العالم بواسطتها.


نقيب الصحفيين المغاربة