ويمكن لخبراء الاقتصاد تقدير ما فقدناه علي مدي هذه المدة نتيجة لعدم التنقية والتصنيع وليس ما فقدناه مادياً فقط

ونحن علي أبواب استخدام الفحم كوقود لتشغيل محطات توليد الطاقة الكهربية، بالرغم من اختلاف الرأي حول هذا الموضوع لما ما للفحم من آثار سلبية علي البيئة الطبيعية، وهذا موضوع آخر لنا إليه عودة في وقت لاحق ... أما الموضوع الذي يستدعي إثارته في الوقت الحاضر يتناول ما تم إعلانه عن احتمال استخدام فحم المغارة المتوافر في سيناء كوقود، وذلك لأن هناك أبحاثا علمية تمت منذ السبعينيات في كلية العلوم جامعة القاهرة تشير إلي احتواء فحم المغارة علي مواد راتنجية وهي مواد مهمة تستخدم في الصناعة. تحتاج هذه الدراسات العلمية إلي دراسة جدوي استخلاص هذه المادة من الفحم قبل استخدامه كوقود ... فإذا ثبتت جدواه الاقتصادية وجب استخلاصها والاستفادة بها، وإذا ثبت عدم جدواه فيمكن حينئذ استخدام الفحم مباشرة ... هذه معلومة أضعها تحت نظر أصحاب القرار من منطلق إيماني العميق بضرورة تحقيق أقصي استفادة من ثرواتنا المعدنية بصفة عامة، وهو ما يتطلب إعادة النظر في أسلوب تعاملنا واستغلالنا لها وعدم تصديرها كخام بل بتنميتها وتصنيعها أي تحويلها إلي منتجات مما يزيد من عائدها الاقتصادي ... كان موضوع تصنيع الخامات وعدم تصديرها كخام في بؤرة اهتماماتي وكان هو رسالتي التي لم أكِّل عن الترويج لها كلما سنحت لي الفرصة أثناء تشرفي بعضوية مجلس الشعب (1979 - 1984) أو مجلس الشوري (1984 - 2011) وطالما طالبت منذ الثمانينيات بعدم التفريط في زيت البترول بتصديره كخام حتي وإن كنا نصدره بأعلي سعر عالمي وللعلم كانت إسرائيل من أهم الدول المستوردة لبترول مصر واعتبر ذلك استنزافاً غير رشيد لثروتنا البترولية يستهدف فقط الحصول الآني علي سيولة مادية ... وأنه من الأوفق أن يتم تصنيعه من خلال ما يعرف بالبتروكيماويات ليزداد العائد الاقتصادي أضعافاً مضاعفة، خاصةً ونحن لدينا العلم ولدينا الأيدي العاملة والكفاءات القادرة علي عملية التصنيع، ولم يظهر في الأفق ما يشير إلي أن هناك أي توجه جاد نحو تصنيع البترول الخام علي مدي ما يزيد علي عشرين عاماً حتي بدأت الدولة من خلال القطاع الخاص أول مشروع لصناعة البتروكيماويات في مطلع القرن الحادي والعشرين ومازالت صناعة البتروكيماويات هامشية وليست بالصورة المفروضة ومازال البترول يصدر خاماً.

لم يقتصر اهتمامي علي البترول فقط بل شمل باقي الخامات مثل رمال سيناء التي لا مثيل لها في النقاء والمفروض أن يحظر تصديرها حيث تستخدمه الدول المستوردة له في صناعة الشرائح الإلكترونية. ومنجنيز حلايب وهو ذو مواصفات ثبتت ملاءمتها لعملية تصنيع الفيرومنجنيز في مصانع أبو زنيمة في سيناء ... وغير ذلك من موارد الأرض المعدنية ومن أهمها الفوسفات الذي يوجد بوفرة في مصر في عدة مناطق لعل أشهرها منطقة أبو طرطور في الصحراء الغربية ... والفوسفات من أهم الخامات المطلوبة في السوق العالمي لإنتاج السماد، ويصدر الفوسفات المصري الخام ويباع بأقل من السعر العالمي بالمقارنة بفوسفات المغرب والأردن مثلاً، وذلك لاحتوائه علي بعض الشوائب ونسبة عالية نوعاً من الحديد تقلل من قيمته الشرائية ... نادينا مراراً وتكراراً بتنقية الفوسفات من الشوائب التي تتم بطرق كيميائية معروفة وأيضاً طالبنا بتحويله إلي خامس أكسيد الفوسفور وهو أبسط أنواع التصنيع قبل تصديره وهو ما يحقق المزيد من العائد الاقتصادي. هذا بالإضافة إلي ما ظهر نتيجة لأحد البحوث الجيولوجية المهمة التي تمت في كلية العلوم جامعة القاهرة قام بها الأستاذ الدكتور أحمد الكمار والتي أثبتت احتواء الفوسفات علي نسبة يعتد بها من بعض العناصر النادرة التي تستخدم في عدد من الصناعات المتقدمة مثل صناعة شاشات التليفزيون وتدخل في تركيب بعض السبائك المعدنية التي تستخدم في صناعة الصواريخ والمركبات الفضائية وتباع النسب الضئيلة منها بأثمان باهظة ولم يقف الحد علي اكتشاف وجود هذه العناصر بل قام فريق بحثي في كلية علوم جامعة عين شمس بإشراف الأستاذ الدكتور سامي طوبيا توصلوا إلي أكثر من أسلوب بطرق كيميائة لاستخلاص هذه العناصر النادرة من خام الفوسفات... لم يتم شيء ومازال خام الفوسفات يصدر كما هو حتي وقتنا الحالي وعملية تحويل جزء منه إلي خامس أكسيد الفوسفور لا تتم بالصورة المفروضة بل متعثرة إلي حد كبير. ولم يتم أي توجه لاستخلاص العناصر النادرة حتي وقتنا الحالي أي ما يقرب من خمسة وثلاثين عاماً ... ويمكن لخبراء الاقتصاد تقدير ما فقدناه علي مدي هذه المدة نتيجة لعدم التنقية والتصنيع وليس ما فقدناه مادياً فقط بل اجتماعياً أي حجم فرص العمل التي أهدرت. فهل سنستمر في استنزاف خاماتنا بهذا الأسلوب حتي تنضب ؟ أم يستدعي الأمر أن تعيد الدولة النظر في سياستها التعدينية ووضع خطة شاملة متكاملة لاستغلالها الاستغلال الرشيد وتصنيعها لمزيد من الاستفادة منها. يقع عبء تصنيع الخامات المعدنية بالدرجة الأولي علي الحكومة ولا يمكننا إنكار أن هناك بعض الجهود لتصنيع بعض الخامات مثل الحديد والجبس وغير ذلك، إلا أنها جهود متواضعة للغاية وليست بالصورة المفروضة ... وعلينا أن نعترف أيضاً بأن هناك معوِّقات لعملية التصنيع فهي عملية مكلَّفة وتتطلب المزيد من الطاقة وارتفاع ثمن الطاقة يشكل عائقاً مهماً إلا أن ناتج عملية التصنيع سيعوِّض التكلفة بل يزيد بدرجة كبيرة، كما أنه من الممكن علاج جزء كبير من مشكلة الطاقة باستخدام التكنولوجيات كثيفة العمالة مما يقلل من استهلاك الطاقة وفي الوقت نفسه يوفر المزيد من فرص العمل وهو هدف في حد ذاته... ويثار أحياناً موضوع إشراك القطاع الخاص في عمليات الاستكشاف والتصنيع إلا أن هذا القطاع لا يجذب مستثمر القطاع الخاص الذي غالباً ما يهدف أو يفضِّل العائد الاقتصادي السريع الوفير، أما الدولة فهي بتصنيع خاماتها تحقق المزيد من عائدها الاقتصادي من جهة، ومن جهة أخري تحقق عائداً اجتماعياً بتوفير فرص عمل للشباب وهو من أهم مسئولياتها. ومن الممكن إقناع القطاع الخاص بالاستثمار في هذا المجال إذا ما تم تطوير وتبسيط الإجراءات الحالية فهي معقدة بدرجة كبيرة بالإضافة إلي إعادة النظر في العلاقة بين قطاع التعدين والمحليات وخاصةً فيما يتصل بالمحاجر فهناك سلبيات يتحتم القضاء عليها.

خلاصة القول إنه يتحتم إعادة النظر في أسلوب التعامل مع الثروة التي منّ الله بها علي أرضنا الغالية وأن تكون هناك سياسة وطنية بعيدة المدي شاملة خطة محكمة هدفها الوصول إلي الأسلوب الأمثل لاستغلال هذه الثروة.