خمس وأربعون سنة مضت علي رحيل جمال عبد الناصر، وهي فترة تساوي مرتين ونصفا مثل الفترة التي حكم فيها الرجل، ومع ذلك لا يكاد أحد يتذكر أسماء الذين حكموا مصر بعد عبد الناصر إلي السيسي، وإن تذكرهم فلا يتوقف عندهم كثيرا، فهم العابرون في الكلام العابر، وسنوات حكمهم أقرب إلي عمر البلد الضائع، بينما سنوات عبد الناصر الأقل جدا أقرب إلي معني السنوات الضوئية، وكل سنة فيها بألف مما يعدون.

وفي كل عام يمر علي مصر الحزينة، وبمناسبة وبدون مناسبة، تشتعل المناقشات من حول عبد الناصر بالذات، ويثور الجدال حاميا فوارا، وتتدافع أمواج الحنين لصوت وصورة عبد الناصر، وكأنه مات لتوه بالأمس، أو كأنه لم يمت بعد، فاسم الرجل محفورعميقا في وجدان المصريين، وقد رحل عن أيامهم مبكرا، رحل في أوان النضج، رحل في عمر الثانية والخمسين، ولم يكن المصريون يريدونه أن يرحل، كانوا يريدون استبقاءه خالدا معهم كالأهرامات، لكنها إرادة الله الذي استرد وديعته، وترك اسم ورسم عبد الناصر كوديعة لا تنفد في قلوب وأحلام المصريين، والذين أقاموا له وداعا بلا مثيل سبق أو لحق في مطلق التاريخ الإنساني، لم يكن المصريون وقتها يودعون رجلا حكمهم لمدة 18 سنة لا تزيد، بل كانوا يودعون أحلامهم في التقدم والنهوض ولمس حافة الشمس، وكان هتافهم التلقائي في الحشد المليوني الرهيب «ياناصر ياعود الفل / من بعدك هنشوف الذل».
وقد تحققت النبوءة بأكثر مما احتسب المصريون في هتافهم الوداعي، تأخرت النبوءة لثلاث سنوات، كان ظل عبد الناصر فيها ممدودا طاغيا علي مركز القرار، وكان الرئيس السادات يركع فيها لتمثال الزعيم النصفي، ولم يتغير فيها شئ جوهري مما تركه القائد، وإلي أن عبر الجيش المصري الذي أعاد عبد الناصر بناءه من نقطة الصفر، وحقق نصره الأسطوري في حرب أكتوبر 1973، بعدها بدأ الانكسار فالانهيار، وخانت السياسة نصر السلاح، وكان ما كان، وانتصر الذين «هبروا» علي الذين عبروا، وفتحت أبواب نهب البلد علي مصراعيها، وتجريف ركائزها الإنتاجية الكبري، ودفع أغلب المصريين إلي قيعان الفقر والبطالة والمسكنة، وإلي الهجرة الهائمة من التاريخ والجغرافيا، وتحويل «القطط السمان» في انفتاح السادات إلي أفيال تدهس الأخضر وتلتهم اليابس في أيام مبارك، ومع شفط ثروة البلد إلي جيوب وحلوق العائلة وحوارييها من مليارديرات المال الحرام، وإطاحة الاستقلال الوطني، وجعل 99% من أوراق مصر في يد أمريكا علي حد تعبير السادات، ثم زادها مبارك إلي مئة بالمئة، وجعل من نفسه وعائلته مجرد مفوض يحكم مصر بالوكالة عن الأمريكيين، و»أعظم كنز استراتيجي لإسرائيل» علي حد وصف الجنرال بنيامين بن أليعازر للمخلوع مبارك.
وهكذا ضرب طوق المذلة من حول عنق المصريين، وبدت نبوءتهم في وداع عبد الناصر كأنها القدر الذي لا يرد ولا يرحم، وإلي أن صاحبتهم صورة عبد الناصر في رحلة خلاص بثورة 25 يناير 2011 وموجتها الأعظم في 30 يونيو 2013، وتحولت الآلاف من صور عبد الناصر في ميادين 25 يناير إلي ملايين الصور في 30 يونيو، كانت الصورة اختصارا بليغا مكثفا لمغزي الثورة الجديدة، قطعت قول كل خطيب، وكنست نقاشات وسخافات رذيلة، فلم تكن الثورة الجديدة ضد نظام حكم 23 يوليو كما تنعق أصوات البوم، ولسبب ظاهر غاية في البساطة، هو أن ثورة 23 يوليو انتهت بعد حرب أكتوبر 1973، وجري الانقلاب بالكامل علي مبادئها ومنجزاتها، وظل الانقلاب يحكم إلي أن قامت ثورة 25 يناير و30 يونيو، أي أن ثورة يناير قامت ضد الانقلاب علي ثورة يوليو، وهو ما يفسر سلوك الناس التلقائي برفع صور عبد الناصر بالذات، ليس عن رغبة في استعادة زمن مضي، فالماضي لا يعود، لكن عن رغبة في وصل ما انقطع مع حلم النهوض والتقدم ذاته، والأحلام لا تموت ولا تنقضي أعمارها، وإن تنوعت تطبيقاتها باختلاف الزمن وتصاريف الظروف، وهو ما يفسر الوهج الخاص لاسم وصورة جمال عبد الناصر، فقد تحولت الصورة إلي رمز، وتحول الاسم إلي حلم، انتهت تجربة حكم الرجل، لكن تبقي حلمه ومشروعه، وهو ذاته حلم ومشروع الثورة المصرية المتصلة فصولها إلي الآن، الثورة الباحثة عن عنوان، والتي انتقلت من مرحلة «الضباط الأحرار» إلي مرحلة «الناس الأحرار»، وتدفقت شعاراتها النلقائية عن العيش والحرية والاستقلال والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي ذاتها عناوين مشروع عبد الناصر السبعة ( الاستقلال الوطني ـ التوحيد العربي ـ الديمقراطية للشعب ـ الكفاية والعدل ـ أولوية التصنيع والعلم والتكنولوجيا ـ التجديد الحضاري ـ العولمة البديلة أو باندونج الجديدة )، وقد لا يتسع المقال هنا لشروح ولا لتفاصيل، لكن الإلهام يظل هو ذاته، ويظل اسم عبد الناصر هو العنوان الأكمل والأوفي والأدق لمدرسة الوطنية المصرية وثوراتها المتعاقبة.
وهذه هي «العروة الوثقي» التي ربطت اسم عبد الناصر بالثورة المصرية الجديدة، وهي تفسر الحاضر بأكثر مما تفسر الماضي، فأعداء الثورة المصرية الراهنة هم بالأساس أعداء عبد الناصر، وقد تكونت ثرواتهم وتراكم نفوذهم في زمن الانقلاب علي ثورة عبد الناصر بالذات، ويكفي أن تنظر حولك، فالإخوان الذين ينتحلون صفة 25 يناير هم العدو الأول لعبد الناصر، والفلول الذين ينتحلون صفة 30 يونيو هم المنقلب الأول علي ثورة عبد الناصر، ولا أحد ينخدع بانتحال الصفات، فالإخوان والفلول هما قطبا الثورة المضادة من زمن عبدالناصر إلي الآن، والإخوان أمرهم مفهوم، أما طبقة مليارديرات النهب فهي «قرين» الإخوان والأمريكان، وهي صلب ما نسميه فلولا وهي أصول، تحكم طوق المذلة حول عنق البلد بالتحالف مع البيروقراطية الفاسدة، وتريد خنق ثورتها ولو بانتحال صفاتها، والتكفير بحلم عبد الناصر العائد من جديد.