قد وعد الرجل بإتمام مشروع قناة السويس الجديدة في عام واحد وجري إنجاز المشروع بالفعل قبل أن يطوي العام أيامه، وبصورة ملحمية تليق بعظمة المصريين الكامنة



باغتني سائق التاكسي الشاب بالسؤال، قال بالعامية ما معناه بالفصحي: ما هي الفائدة التي تعود علي شخصيا من افتتاح قناة السويس الجديدة ؟، بدا لوهلة أنني في ورطة، لكني جاوبته بسرعة، وذكرت له رقم الفائدة المالية المباشرة لو كان من المشاركين في أسرع وأكفأ اكتتاب تمويل شعبي بالعالم، أما لو كنت من عموم الناس الذين لم يصبهم شرف المشاركة، فسوف ينالك من الحب جانبا، فسوف يزيد دخل هيئة قناة السويس بإطراد، وهو واحد من أهم موارد الخزانة العامة، وبما يتيح زيادة الإنفاق علي الخدمات الأساسية خاصة الصحة والتعليم، ثم أن قناة السويس الموسعة حجر زاوية في مشروع تنمية تجاري وصناعي وخدمي هائل، يضيف إلي الناتج القومي مئات المليارات من الجنيهات في المديين المتوسط والأبعد، ويخلق مئات الآلاف من فرص العمل المطلوبة لملايين العاطلين.
بدت صيغة السؤال حذرة متحفظة، وربما متشككة بعض الشيء، ليس فقط بسبب حملات ضارية معادية لقناة السويس الجديدة، تصل أصداؤها إلي سمع وبصر المصريين العاديين، وربما لا يصدقونها تماما، لكنها تفتت شعورهم، وتجعلهم في حالة حياد وترقب وانتظار، لا في حالة الفرح الغامر بالإنجاز الذي يشبه الإعجاز، فهم يشاهدون الإنجازات علي قنوات التليفزيون، ويسمعون عن صخب الأرقام المنهمرة المتفائلة، لكنهم يرون ويعانون أشياء أخري في واقع حياتهم اليومي، قد لا تدفعهم للتفاؤل المطلوب، فالبلد من حولهم في حالة فوضي وعشوائية عارمة، والفقراء يموتون بالجملة، غرقا في النيل وخنقا في المستشفيات وسلقا في الحرائق، والفساد يحكم ويعظ في الوزارات والهيئات والمحليات والشارع، وإعلانات قناة السويس نفسها تذاع جنبا إلي جنب إعلانات الرقص و»الهنك والرنك»، ومع إعلانات مستفزة عن شقق وشاليهات وفيلات تصل أسعارها إلي الملايين، بينما يعيش أغلب الناس في العشوائيات أو ما يشبهها، ولا يملكون من حطام الدنيا سوي البؤس والملاليم، وانتظار الفرج الذي لا يدق الأبواب.
وميل المصريين إلي الاكتئاب والتشاؤم مفهوم، فقد عاشوا عقودا يسمعون عن إنجازات وأرقام فلكية، لا تصل إليهم عوائدها ولا فوائدها أبدا، ومن أول وعد السادات بفيلا وسيارة وحمام سباحة لكل مواطن، وإلي وعود الرخاء التي تدفقت كالسيل علي رؤوسهم في أيام مبارك الطويلة الراكدة، ثم صحت عيونهم علي الخراب الذي لم يعدهم به أحد، ولا حوسب عليه أحد إلي الآن، وهو ما يفسر تفشي أحوال اليأس العام، وقلة الاكتراث بدواعي فرح حقيقية هذه المرة، فلا أحد ينكر أن الرئيس السيسي يقدم مثالا مختلفا، يتعهد ويفي في الموعد باليوم والساعة والثانية، وقد وعد الرجل بإتمام مشروع قناة السويس الجديدة في عام واحد، وبدا الوعد أسطوريا، فالخبراء ـ إياهم ـ قدروا أن المشروع يحتاج إلي ثلاث سنوات علي الأقل، وصمم السيسي علي مدة العام الواحد، وجري إنجاز المشروع بالفعل قبل أن يطوي العام أيامه، وبصورة ملحمية تليق بعظمة المصريين الكامنة، وبتمويل مصري خالص، جمع فيه المصريون العاديون 64 مليار جنيه في أسبوع، وبروح إقبال جارف، تجاوبت معه إدارة منضبطة مقتدرة من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، انتدبت اللواء كامل الوزير رئيس هيئة أركان الهيئة الهندسية، والذي أدار حركة عشرات من شركات المقاولات المدنية، وعشرات الآلاف من العمال والمهندسين والفنيين، واصلوا الليل بالنهار في عمل دائب لايعرف الكلل ولا الملل، ومعهم ثلاثة أرباع الكراكات العاملة في الدنيا كلها، وجري الحفر والتعميق والتوسيع في زمن قياسي غير مسبوق عالميا، حققه اللواء الوزير والفريق مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس، ولم يكن ممكنا تصوره بدون قرار السيسي وطريقته المميزة في العمل، وهي الإنجاز بأقصي سرعة وأعلي جودة وأقل تكلفة.
نعم، يحق للمصريين هذه المرة أن يأملوا، وأن يغادروا سجون اليأس المقيم، وأن يستعيدوا الثقة بأنفسهم وببلدهم، فمشروع القناة الجديدة إثبات ملموس حي لقدرة المصريين علي الفعل المعجز، ومواصلة لسيرة بناة الأهرامات وبناة السد العالي، فإنجاز القناة يفتح ثغرة واسعة في جدار اليأس، وسوف تعقبه ـ بمشيئة الله ـ فتوحات أخري عظيمة، تجري بنفس الهمة والتصميم، وفي آجال مرسومة قصيرة جدا، ومن نوع إكمال شبكة طرق غير مسبوقة بمواصفات قياسية دولية، وإنشاء مدن جديدة بكاملها، واستصلاح عاجل لمليون فدان زراعي، وإضافة سبع مناطق صناعية جديدة، والبدء في تنفيذ مشروع الضبعة النووي السلمي، وكلها ـ مع غيرها ـ تجري بذات الطريقة، بالإشراف المباشر من الهيئة الهندسية وغيرها من جهات الجيش، وبمشاركة مئات من الشركات المدنية، ونحو مليون ونصف مليون مهندس وفني وعامل مدني، وفي ورشة عمل جبارة، لم يسبق لمصر أن شهدت لها مثيلا منذ حرب أكتوبر 1973، وبطريقة عمل كاشفة لموارد القوة وعناصر الضعف في اللحظة الراهنة، فعنصر القوة ظاهر في إدارة الجيش المنضبطة المنجزة عالية الكفاءة، وفي التقدم إلي رأسمالية دولة جديدة تحاصر «رأسمالية المحاسيب» الموروثة عن زمن المخلوع مبارك، يبرز فيها دور الهيئة الهندسية وإدارة الأشغال العسكرية وجهاز الخدمة الوطنية، وقد تصح تسميتها برأسمالية الجيش، برغم أن قوام العمل الرئيسي فيها لمدنيين ولشركات مدنية، لكن الإدارة فيها محفوظة للإنضباط العسكري الصارم، والذي يعبئ الموارد ويستفيد بها علي أفضل نحو ممكن إنسانيا، وهو ما قد يشير ـ بالمقابل ـ إلي مواطن الضعف، فلا يزال جهاز الدولة المدني علي حال العقم والخراب، ولا تزال الإدارة فيه عاجزة ومصابة بشلل رباعي، ولا يزال الفساد يهدم وينخر في بدن الدولة كلها، ولا تزال البيروقراطية الفاسدة علي علاقاتها الآثمة مع مليارديرات النهب العام، ولا يزال النظام القديم يعاند ويعرقل الرئيس الجديد، وهو ما يجعل فرح الناس بإنجاز الرئيس منقوصا ومشوبا بالحذر، وإلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.