في بداية هذا العام الذي يكاد أن ينصرم، رافقت صديقة أجنبية إلى خان الخليلي، كانت الصديقة التي زارت دول العالم كله تقريبا، تريد أن تشتري اكسسوارات مصرية من الفضة، وفي الورشة الشهيرة التي تقع في شارع الصاغة، استقبلنا صاحبها الذي ذهبت إليه بوساطة من أصدقاء، وقال لمرافقتي إنه سيريها مجموعة خاصة لا تخرج إلا للزبون المخصوص، هي «شغل عزة فهمي» وبسعر «مش موجود»، ونظرنا لبعضنا أنا وصديقتي مندهشين.. ما الذي يفعله «شغل عزة فهمي» هنا؟ أعمال عزة فهمي المصممة الشهيرة موجودة في محلاتها وفروعها، لكن الرجل أفهمنا أن القطع تقليد دقيق لتصميمات عزة فهمي التي باتت أعمالها المُشكلة من الفضة «براندا»عالميا لا يقل في قيمته عن الحلي المصنوعة من الذهب والألماظ، وصارت نوعا من أنواع الحلي والأقراط المسجلة في مصلحة الدمغة والموازين، مثل التصميمات الشهيرة والتاريخية للحلي التي ارتدتها المرأة المصرية في القرنين التاسع عشر والعشرين، كعلامة ثقافية مميزة، مثل حلق «المروحة» و»الشفتشي» و»خاتم سليمان»، و»السد العالي بدبلة»، وحلق «طارة مبروك»، و»حلق فريال» وغيرها من التصميمات التي يعرفها الصاغة في الريف والحضر، والمهتمون بالتراث الشعبي والحضاري المصري.
ومنذ أسابيع صدرت مذكرات عزة فهمي تحت عنوان «أحلام لا تنتهي» عن دار نهضة مصر، تحكي فيها صاحبتها عن رحلتها الطويلة والعميقة حتى أصبحت «عزة فهمي»، وهي مذكرات مكتوبة باللغة العامية المصرية، التي صدرت بها أعمالا نادرة مثل مذكرات المفكر الكبير لويس عوض «يوميات طالب بعثة»، و»قنطرة اللي كفر» لمصطفى مشرفة، وكتاب «المولودة» للفنانة نادية كامل، وقد منحت العامية لعزة فهمي وحكاياتها صدقا وألفة مع القارئ، وربما منحتها هي أيضا مساحة حرة للحكي و»الفضفضة» عن رحلتها الخاصة، ومحطاتها المختلفة والقوية.. محطات جغرافية بطول مصر تقريبا، وصولا إلى أوروبا، ومحطات أراها فكرية أكثر منها عملية، حينما قررت أن تصبح «صناعية» أو «صبية للصنايعية» لتتعلم أصول الصنعة والتشكيل في حي الصاغة، وهي مهنة لطالما كانت محجوزة للذكور، رغم أن ثقافتها وحسها الفني يؤهلانها لأن تكون مصممة فقط، ترسم ما تراه على الورق وينفذه عمالا مهرة، لكنها اختارت أن تعيش في خان الخليلي وحي الصاغة ما يقرب من عشرين عاما، عملت فيها بيديها وتعاملت مع النار والفضة السائلة حتى فقدت بصمة أصابعها كما حكت في برنامج فضائي مؤخرا.
«أحلام لا تنتهي» ليس فقط كتاب مذكرات شخصية لهذه الصائغة الفنانة، وإنما هو أيضا مرجع حقيقي وهام لما حدث في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، وما جرى من تغيرات اجتماعية طبقية وثقافية، وبشكل أكثر تخصيصا عبر التحولات التي مرت بها أسرة عزة فهمي القادمة من قلب الصعيد، لأب يعمل في وظيفة مرموقة في شركة كبرى، لكن الموت يغيبه فيترك أسرته في مهب ريح العوز، وفراغا كبيرا في روح ووجدان الإبنة التي عرفت العالم الدنيا من خلال عينيه وحكاياته.
تحكي عزة فهمي في مذكراتها عن البيوت والتنسيق الحضري للمدن، وترصد ما كانت عليه، في الصعيد وفي القاهرة، وبالطبع، تدخل القارئ إلى عالم الصاغة الخاص، فنعرف الخلفيات غير السهلة لإنتاج قطعة أكسسوار تبدو بسيطة، وتاخذنا في رحلة أخرى إلى آفاق أرحب في أوروبا وإلى مجتمع كبار الفنانين والمتنفذين المشهورين، كل هذا وهي تصف نفسها بـ»البني آدماية» فنرى أيضا مشاعرها ووقع كل هذه الرحلة الطويلة على روحها ونفسها.
بالتأكيد، أعمال عزة فهمي هي منتج ثمين لمقتنيات الأغنياء.. أغنى الأغنياء، لكن رحلتها غير اليسيرة ستكون بلا شك ملهمة للكثير من النساء الموهوبات في مجالات تصميم الحلي وغيرها، ومنها سيتعلمن كيف يصبحن مثل هذه السيدة النادرة.. صائغات ملهمات.