وكانت مراسم احتفالنا بافتتاح المجري البحري الجديد.. هي احدي الاشارات التي كان يتعين علينا اطلاقها يوم الخميس الماضي




يروي الأديب الراحل مصطفي صادق الرافعي.. قصة افتتاح قناة السويس الأولي في 17 نوفمبر سنة 1869 ميلادية.. وقد دعا الخديو إسماعيل إلي هذا الافتتاح جميع ملوك أوروبا.. وألوفا من الأمراء والسفراء واقطاب السياسة.. وحملة الأقلام وأرباب الفنون والصنائع والتجارة.. حتي ضاقت بهم القصور.. فنصب لهم في الصحراء ألف سرادق وأنزل الإمبراطورة أوجيني «عقيلة الإمبراطور نابليون الثالث» وسائر الملوك وامراء الاسرات الملكية في قصر منيف شاده خصيصا لهم.. وفي 16 نوفمبر أقيمت حفلة دينية شارك فيها عدد من المشايخ.. وفي الصباح التالي ابتدأ الاحتفال باطلاق المدافع ثم تقدم يخت الامبراطورة اوجيني في القناة وتبعه يخت «فرنسوي» لإمبراطور النمسا.. ويخت فريدريك غليوم أمير بروسيا.. فيخوت سائر الملوك والأمراء.. فالسفن المقلة للمدعوين والمتفرجين وعددها 68 سفينة.. ولما بلغ اليخت الإمبراطوري بحيرة التمساح حيته ثلاثة مراكب حربية مصرية بإطلاق المدافع فجاوبتها مدافع البر.. وعزفت الموسيقي.. وهتفت الجماهير المحتشدة علي الشاطيء من القبائل والأقوام المختلفي الجنسيات، وكان الخديو إسماعيل قد جمعهم في الاسماعيلية من كل انحاء مصر والصحراء والسودان، ومعهم نساؤهم وأولادهم ونوقهم ومواشيهم وغزلانهم.. فكان منظر تلك الألوف من بدو وحضر ودراويش ومغاربة وسودانيين إلخ.. بأزيائهم وألوانهم المختلفة مشهدا فريدا في بابه قلما اتيح للعين ان تقع علي مثله.. وفي 19 نوفمبر خرجت السفن من بحيرة التمساح إلي البحيرات المرة.. وفي اليوم التالي بلغت البحر الأحمر قبيل الظهر بعد أن اجتازت القنال واختلطت مياه الأحمر بمياه الأبيض.. ومن ذلك العهد فتحت هذه الطريق للمراكب.. بعد اللقاء التاريخي بين الأحمر والأبيض!




هكذا روي مصطفي صادق الرافعي قصة مراسم افتتاح قناة السويس قبل نحو 146 سنة.. «مائة ستة وأربعون سنة».. أنقلها من باب انعاش الذاكرة.. والاشارة إلي ان مراسم احتفالنا بافتتاح قناة السويس الجديدة.. كانت المراسم المناسبة للحدث التاريخي سواء باستعراض الطائرات الرافال واف 16 بأعلام مصر أعلي المجري الملاحي لقناة السويس الجديدة او القطع البحرية والفرقاطة تحيا مصر وهي ترافق يخت المحروسة.. او دقة التنظيم والاعداد الذي يضيق المقام عن الاشادة بتفاصيله.. لسبب بسيط هو ان هذه المراسم لم تكن تتعلق فحسب بافتتاح المجري البحري الجديد.. فحسب.. وانما كان بمثابة الاعلان عن ميلاد قوة اقتصادية عظمي في منطقة الشرق الأوسط.. في ظل عالم جديد يتشكل بعد انتهاء عصر الحرب الباردة.. وظهور عالم جديد تطل فيه العديد من القوي الاقتصادية العظمي.. ابتداء من اليابان وروسيا والهند والصين.. وحتي دول الاتحاد الاوروبي والبرازيل.




نحن اذن أمام عصر جديد.. لا يمت بأدني صلة لعصر الحرب الباردة الذي سيطرت فيه ثقافة سباق التسلح.. وابتداع ادوات الدمار الشامل من أجل السيطرة علي مقدرات الشعوب.. ونهب ثرواتها باساليب العنجهية والغطرسة.




نحن اذن امام عصر القوي العظمي الاقتصادية.. الذي تسوده ثقافة التعاون والتكامل والاحترام المتبادل.. والمصالح المشتركة.. وكانت مراسم احتفالنا بافتتاح المجري البحري الجديد.. هي احدي الاشارات التي كان يتعين علينا اطلاقها يوم الخميس الماضي السادس من أغسطس.. علاوة علي سلسلة طويلة من الاشارات التي تكشف عن حسن الطوية وصدق النوايا.




اولي هذه الاشارات.. انها جاءت في الوقت الذي يتعرض فيه الوطن العظيم الذي ننتمي اليه لمؤامرة كبري تستهدف تمزيق وحدته الوطنية واثارة نزعات التطرف التي ترفع الشعارات الدينية.. وتستخدم كل الوان اسلحة الارهاب والتحريض علي القتل وسفك الدماء.. وبالتالي جاءت الاحتفالات الشعبية التي شهدتها جميع ميادين مصر.. بمناسبة افتتاح المجري البحري الجديد لترد علي هذه المؤامرة.. وتكشف وحدة المشاعر الوطنية.. داخل مصر وخارجها.. وبين الجاليات المصرية في ربوع العالم.




ثاني هذه الاشارات.. هي ان سعادة الملايين بافتتاح المجري البحري الجديد.. كانت بمثابة التصويت والادلاء بالاصوات لتجديد الثقة بالرئيس السيسي.. وكانت اشبه بالثقة التي منحها الشعب للمشير السيسي للاطاحة بعصابة الارهاب.




ثالث هذه الاشارات انها كشفت.. ربما للمرة الأولي.. بمثل هذا الوضوح عن قدرة الشعب المصري علي تحقيق المعجزات.. اذا احسنت قياداته السياسية.. ادارة احواله بالصدق والوفاء بالوعود.. والعهود.. بلا شعارات طنانة من اجل الزعامة الكاذبة.




اختصار الكلام.. ان احتفالنا بافتتاح قناة السويس الجديدة وما صاحبه من ردود فعل ايجابية علي المستويين المحلي والعالمي.. يضعنا امام عصر جديد.. يتعين علينا الاستعداد لمواجهته والتعايش معه ووفق الثقافة التي سوف تسود معاملاته.




اعني بها ثورة الاصلاح الشاملة لاقتحام عصر الصناعات الثقيلة واحداث ثورة شاملة في قطاع التعليم الذي تدهور بشكل مذهل وبانتظام منذ نحو نصف القرن.. سادت التعليم خلالها ثقافة اهمال الدور التربوي الذي كان يتعين علي المدارس الاضطلاع به.. وانتشار الدروس الخصوصية بشكل وبائي وعشوائي اهدرت القيم النبيلة التي تربط بين المدرس والتلميذ.. وتحولت إلي علاقة تحكمها المادة والتدريب علي أساليب الغش.. والرشوة.. الخ.




أريد أن أقول: إن قناة السويس الجديدة.. تضعنا أمام عصر جديد.. يتعين علينا الاستعداد له والتعامل معه بثقافة الزمن القادم.




يضاف إلي هذا الواقع المنتظر.. اننا امام عصر جديد.. سوف تطل فيه العديد من القوي العظمي الاقتصادية.. التي تطيح بالثقافة الاستثمارية والاستعلائية التي سادت العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.. وستقوم العلاقات الدولية علي مباديء وقواعد جديدة.. لن يكون فيها مكان لدولة تعاني نسبة عالية من الامية.. وانفجارا سكانيا.. بكل ما يحمله هذا الانفجار من أمراض التطرف.. واحلام العودة للثقافة التي كانت سائدة منذ آلاف السنين.




وإذا كان الأديب الراحل مصطفي صادق الرافعي قد وصف حفر قناة السويس الأولي بأنه التقاء للأحمر بالأبيض.. فإننا الآن أمام لقاء جديد بين الأحمر والأبيض وعلينا أن نتعامل مع هذا اللقاء بثقافة عصر.. ليس فيه مكان لعواء الذئاب!