ونسجت إيران حلفا ثابتا مع روسيا والصين ضد أمريكا الفرحة بعملية تدمير سوريا، والساعية لتقسيمها عمليا خدمة لصديق أمريكا الإسرائيلي



لم أنخدع أبدا بشعارات القومية العربية التي كان يدعيها نظام دمشق، وكنت أول المؤيدين لثورة الشعب السوري ضد النظام الديكتاتوري الطائفي النهاب، لكن الثورة التي بدأت سلمية واعدة، لم تستمر كذلك سوي بضعة شهور انتهت قبل نهايات 2011، بعدها لجأ نظام الأسد المذعور إلي خطة الهروب للأمام، وأشعلها حربا طائفية ملعونة لا تبقي ولا تذر، ورفع شعار «الأسد. أو نحرق البلد»، وقد احترق البلد بالفعل، وتهدم الحجر والبشر، وتحولت سوريا أجمل بلاد العرب إلي خرائب وأطلال، وظهرت جماعات أكثر إرهابية وطائفية من جماعة النظام، ودون أن يبقي الأسد قابضا سوي علي أقل من ثلث مساحة سوريا الآن.
كان الأمل أن تجد سوريا نظاما أفضل من نظام بشار الأسد، لكن ما جري عبر السنوات الأخيرة كان كابوسيا بامتياز، فقد تحطمت سوريا نفسها، وصار نصف سكانها في عداد اللاجئين والنازحين، وصار السوريون ـ أكرم الناس ـ في ضيعة الذل والبؤس والمسكنة، وبعد أن كانت بلادهم ـ برغم ديكتاتورية وطائفية الحكم ـ في «بحبوحة» وانتعاش اقتصادي، وحققت الاكتفاء الذاتي من القمح وصدرت فوائضه، وازدهرت فيها صناعات النسيج وصناعات البترول، فوق ما تعرفه الدنيا كلها عن شطارة وعبقرية «الشوام» في التجارة، وروحهم البشوش المرحبة باستضافة اللاجئين العرب، دون قيد ولا شرط ولا تأشيرة، وإكرامهم وإسكانهم في حبات العيون، وقد صار كل ذلك ـ وغيره ـ من الماضي الجميل المتصل إلي سنوات قليلة خلت، صار فيها خبز السوريين هو مهالك الدمار اليومي، وكرمهم هو الموت بمئات الآلاف، فوق الإصابات المقعدة لما يزيد عن المليونين، وإحراق أغلب حدائق سوريا ومزارعها، ونهب ثرواتها وآثارها، وهدم أغلب مساكنها، وبما يفوق فعل القنابل الذرية، وتحويل الجنة السورية إلي جهنم حمراء، تتكاثر فيها جماعات الإرهاب الوحشي كالفطريات، وتتحول إلي ملاعب شياطين يفوقون نظام الأسد نفسه في غواية القتل ومص الدماء، فجماعة «داعش» استولت علي ما يقرب من نصف مساحة سوريا، وجماعات «الأكراد» المسلحة أخذت نصيبها من حصة «داعش»، وجماعات تركيا (النصرة والسلفيون والإخوان) تعيث فسادا وتدميرا في الشمال وجنوب «درعا»، فيما لم يبق بيد النظام سوي أقل الأرض مع وفرة السكان في دمشق والساحل والوسط وشريط الحدود مع لبنان، وجري إنهاك الجيش السوري وقتل نصفه، ودفعه للاستعانة المباشرة بإيران وميلشيات طائفية شيعية، وفي معارك يسلم بشار الأسد بأنه لا يمكن كسبها جميعا، وهو ما يعني اننا بصدد تقسيم عسكري لخرائط الأرض السورية، قابل للتطور إلي تقسيم سياسي جغرافي وطائفي وعرقي، واختفاء سوريا التي كنا نعرفها، وإحلالها بدويلات متضادة متحاربة إلي اليوم غير المعلوم.
والأسوأ، أنه جري تدويل محنة سوريا العربية، والتي لا تكاد تلحظ فيها دورا لدولة عربية إلا من وراء ستار أجنبي، فدول الخليج ـ إياها ـ دفعت عشرات المليارات في مقاولة تحطيم سوريا، ليس لإيجاد موطئ قدم خليجي في سوريا، بل لتضخيم وزن ودور جماعات إرهاب تعمل في خدمة العدوان التركي، وتغذي طموح أردوغان للهيمنة علي ما تيسر من الكعكة السورية، وإيران ـ من جهتها ـ عملت بجهدها الذاتي مالا وسلاحا، وحولت ما تبقي من نظام بشار الأسد إلي مجرد جماعة إيرانية، أضافت إليها مددا من الجماعات الخادمة لإيران من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان، ونسجت إيران حلفا ثابتا مع روسيا والصين ضد أمريكا الفرحة بعملية تدمير سوريا، والساعية لتقسيمها عمليا خدمة لصديق أمريكا الإسرائيلي، ولا تبدو أمريكا مهتمة بوقف الحرب في سوريا، فكل ما يجري يخدم إسرائيل، ويزيل من طريقها كل خطر محتمل يأتي من الشرق العربي، ويستنزف قوة «حزب الله» المشارك في الحرب إلي جوار نظام الأسد، بينما تريد إيران ـ ومعها روسيا ـ وقف إطلاق النار، والبحث عن تسوية تستبق الزوال النهائي للنظام، خاصة بعد توقيع الاتفاق النووي، وتسليم أمريكا بقبول دور إيراني في العراق، وفي سوريا بالذات، وهو ما يفسر مبادرة طهران أخيرا إلي اقتراح حل سياسي، يقوم علي وقف إطلاق النار وتشكيل هيئة حكم انتقالي ووضع دستور جديد وإجراء انتخابات بإشراف الأمم المتحدة، ومع إيحاء روسي ـ إيراني بدفع بشار الأسد للتخلي عن موقعه في نهاية سيناريو الحكم الانتقالي، وقد لا تمانع واشنطن في بحث الحل الروسي ـ الإيراني المقترح، والمشاركة في الدعوة مجددا إلي صيغة «مؤتمر جنيف» بين الحكم والمعارضة، لكن المشكلة تظل أكبر من كل هذه الترتيبات بافتراض إمكان الاتفاق الدولي عليها، فالأطراف الإيرانية والروسية والصينية قد تملك فرصة إرغام جماعة الأسد علي وقف النار، لكن أحدا لا يملك دفع الآخرين للإقدام علي الخطوة ذاتها، فلا أمريكا ولا تركيا ولا ما يسمي ائتلاف المعارضة قادرة علي دفع «داعش» و»النصرة» وعصابات الإرهاب المسلح إلي التوقف عن الحرب، فلقد أفلتت اللعبة الدموية من يد صناعها، ولا تسأل ـ من فضلك ـ عن دور ذي قيمة لدول الخليج التي مولت قوافل الشر، فهذه الدول مجرد توابع صغيرة، قد يملك حكامها ترف التوقيع علي دفاتر شيكات، لكنها بلا دور يذكر في صنع السياسات.
والحل الوحيد الممكن هو «تعريب القضية السورية» إلي جوار «تدويلها» القائم، ودخول طرف عربي مؤثر إلي حلبة البحث عن حل، ولا أحد قادر علي الدور المطلوب سوي مصر، ولديها ـ أي مصر ـ علاقات تفاهم وتأثير لا بأس بها مع النظام وقطاعات من المعارضة المدنية السلمية، ثم إن مصر هي الطرف الوحيد الذي لم تتلطخ يده بدماء السوريين، وبوسع مصر أن تمد خطوط تفاهم مع روسيا وإيران والسعودية، وأن تبلور حلا يستبعد جماعات الإرهاب ويعزل الأسد في النهاية، وأن تحفظ لسوريا وحدتها بلا محاصصات طائفية وعرقية، وأن تفعل ذلك الآن قبل فوات الأوان.