القصة ـ إذن ـ تحولت إلي مقاولة لا سياسة، وتأملوا ـ من فضلكم ـ ما ينشر ويذاع عن برامج التحالفات إياها، وكلها من عينة كلام «التيك أواي»،



بدأت للمرة الثانية إجراءات الانتخابات البرلمانية بعد تشكيل اللجنة العليا، وصار مؤكدا أننا ذاهبون إلي انتخاب برلمان لن يلبث طويلا إلي أن يحل، وتماما كما جري حل برلمان الإخوان من قبل بحكم المحكمة الدستورية، وكما جري حل برلمانين في زمن المخلوع مبارك بسبب عدم الدستورية نفسها.
وربما يكون من الأفضل للبلد، أن يحل البرلمان المقبل وهو «في اللفة»، فهو برلمان بؤس حقيقي، وخال من طعم السياسة، ولا علاقة له بتمثيل الشعب، وحتي لو جرت إجراءات التصويت بنزاهة كاملة كما نحب، والسبب في هذه العلة ظاهر جدا، فالانتخابات تجري بالنظام الفردي، وبنظام القائمة المطلقة التي لم يعد لها وجود في الدنيا كلها، صحيح أن الانتخابات تجري بالطريقة الفردية في بلدان ديمقراطية عريقة، ومن نوع بريطانيا والولايات المتحدة واستراليا والهند، لكن الوضع مختلف تماما هناك عما عليه الحال في مصر، ففي هذه البلدان يسود نظام الحزبين الرئيسيين، والتصويت مسيس تماما، والناخب يصوت في العادة لمرشح من أحد الحزبين، وتنتهي العملية إلي برلمان واضح الملامح سياسيا، يصلح لأن تشكل علي أساسه حكومة أغلبية برلمانية، ولا يوجد شئ من ذلك في مصر الآن، فليس عندنا حزب واحد عليه القيمة، ولدينا ما يفوق المئة من أسماء الأحزاب لا الأحزاب، وغالبها الساحق أشبه بدكاكين أو «بوتيكات» أو مكاتب تشهيلات إضافية لرجال الأعمال، أي أننا بصدد وضع منزوع السياسة علي نحو شبه كلي، ثم يجئ النظام الانتخابي الفردي ليؤكد غياب السياسة وسطوة المال وحده، وتحول العملية الانتخابية إلي مضاربة في البورصة، وهو ما يفسر ضراوة السباق المحموم بين مليارديرات المال الحرام علي شراء مقاعد البرلمان، وتأمل ـ من فضلك ـ ما يسمي التحالفات الانتخابية، بينها تحالف علي القائمة المطلقة قريب من الأجهزة الأمنية، وجندوا له بعض رجال الأعمال لشئون الصرف علي أسماء مختارة غالبيتها واهية الصلة بالسياسة، وفي بقية التحالفات الكبري، تتواري السلطة الأمنية قليلا، ويحل النفوذ المباشر للسلطة المالية، ثلاثة أو أربعة مليارديرات يتولون الإنفاق بالمليارات، وكل واحد منهم يقتني «العدة» اللازمة، لديه محطة تليفزيون أو أكثر، ولديه صحيفة أو أكثر، وعدد من المواقع الإلكترونية، ويضيف لحسابه اسما لحزب، ولا يعجزه نقص وجود أسماء في حزبه الوهمي صالحة للترشح، فينزل إلي السوق مباشرة، ويشتري مرشحين أغلبيتهم من فلول عهد المخلوع، أو ممن لهم سوابق برلمانية في مجالس التزوير، ويدفع الملياردير للمحظوظ ثلاثة أو خمسة ملايين جنيه لزوم شراء الأصوات، بل وتعهد أحدهم بدفع راتب شهري إضافي لكل مرشح ينجح، وبما يفوق ثلاثة أمثال الراتب الذي يحصل عليه من خزانة البرلمان، وبغرض ضمان الولاء وتمرير التشريعات الخادمة لمصالح مليارديرات النهب.
القصة ـ إذن ـ تحولت إلي مقاولة لا سياسة، وتأملوا ـ من فضلكم ـ ما ينشر ويذاع عن برامج التحالفات إياها، وكلها من عينة كلام «التيك أواي»، وما من فارق جوهري أو غير جوهري بينها، فكلها تعبر عن مصالح طبقة النهب العام، وبصورة رديئة فجة تشبه سيناريوهات مسلسلات البلطجة والمخدرات، ولا بأس أن يلصقوا علي البضاعة الفاسدة «تيكت» أو شعار «تحيا مصر»، فهم يقصدون مصر التي في جيبهم، لا مصر التي نعرفها غارقة بغالب أهلها في الفقر والبطالة والمرض وبطولة البقاء علي قيد الحياة، والتي ينزل إليها هؤلاء في مواسم القنص الانتخابي، وبهدف نشل الأصوات، وحجز مقاعد البرلمان بأعلي سعر، ومن خلال وكلاء ومندوبين علي خلفيات عائلية وجهوية، لديهم أمل في كسب المزاد مع ضعف الإقبال المتوقع من الناخبين، وقلة عدد الأصوات اللازمة للفوز بمقعد، فالنظام الانتخابي الفردي ـ والقائمة المطلقة مثله ـ يهدر الغالبية العظمي لأصوات الناخبين، وخذ عندك مثلا واحدا لإيضاح الصورة، فلو تخيلت أن مئة ناخب ذهبوا لصناديق التصويت، فسوف يفوز بالمقعد الذي يحصل علي 51 صوتا من الجولة الأولي، وبسبب كثرة أعداد المرشحين، فلن يفوز أحد غالبا من أول مرة، وتعاد الانتخابات، وتتراجع أعداد المصوتين المئة إلي عشرين، ويفوز بالمقعد الذي يحصل علي 11 صوتا فقط من المئة الذين ذهبوا أول مرة، أي أن مقاعد البرلمان المقبل سوف تتقرر بأصوات نحو العشرة بالمئة من الناخبين الذين يذهبون لصناديق الاقتراع، ناهيك عن نسبة المقاطعين التي ستكون الأكبر بما لا يقاس، أي أننا سنكون بصدد برلمان العشرة بالمئة من الناخبين النشيطين، ويكاد لا يمثل سوي 2% من إجمالي الناخبين المسجلين، أي أنه برلمان لأقلية الأقلية التي تحتكر تمثيل الشعب كله زورا وبهتانا.
ولا شبهة في المعني السياسي لبرلمان من هذا النوع، فهو برلمان الثورة المضادة بامتياز، هو برلمان الفلول بعد أن تخلصنا من برلمان الإخوان، ولا عزاء للشعب الذي يمثلون عليه ولا يمثلونه، والسبب في الفجيعة ظاهر جدا، وهو تعمد السلطة عدم إجراء الانتخابات بالطريقة النسبية المفتوحة غير المشروطة التي يتيحها الدستور، والتي تسيس الانتخابات من أول لحظة، وتطرح علي الناس اختيارات سياسية متنوعة من اليمين والوسط واليسار، وتقلص أثر المال والبلطجة والعصبيات العائلية والجهوية والجاهلية، وتحفظ لكل صوت انتخابي قيمته، وتنتهي إلي برلمان يمثل الناخبين بنسبة مئة في المئة، بينما النظام الانتخابي الفردي لا يتيح الفرصة سوي للفلول وتيارات اليمين الديني، وقد زادوا الطين بلة بالتقسيم العجيب للدوائر الانتخابية الفردية، وقد أبطلت المحكمة الدستورية تقسيمهم الأول، ثم جاءوا بتقسيم ثان أنكي وأسوأ، واعترفوا بأن الاعتبارات الأمنية هي الحاكمة، وهو ما ستبطله المحكمة الدستورية ثانية بكل تأكيد، ولكن علي راحتها هذه المرة، وبعد أن تحررت من قيد الاستعجال بقانون جديد أصدره الرئيس، فالمحكمة ستأخذ وقتها الطويل المعتاد، وتحكم بحل البرلمان بعد انتخابه، ووقتها لن يبكي عليه أحد عاقل.