رسالة إلى هيرتا موللر: تحرير العالم بإعادة كتابته!

رسالة إلى هيرتا موللر: تحرير العالم بإعادة كتابته!
رسالة إلى هيرتا موللر: تحرير العالم بإعادة كتابته!

تكتب : ياسمين مجدى
عزيزتى هيرتا، هذه هى المرة الأولى التى أنشر فيها خطابًا وأرسله إلى أحد الأدباء العالميين. ربما لم أرسل من قبل لإحساسى أن العالم ليس كرةً صغيرةً كما نعتقد، فالبشر قريبون افتراضيًا، لكنهم داخل نفوسهم بعيدون للغاية، كل ثقافة مجهولة ومغلقة بالنسبة للآخر، ثقافة أوروبا الشرقية، والهندية والإفريقية وغيرها… ليصبح كل إنسان على مسافة من الآخر، ويعتبر نفسه أنه موجود وأن هذا الآخر لا يمثل عالمه أو ثقافته. لكننى عندما قرأتُكِ «قابلتُ نفسي» لديكِ، واسمحى لى أن استعمل هذا المصطلح الذى آخذه من عنوان إحدى رواياتك «ليتنى لم أقابل نفسى».

أعرف أن بيننا قارات، ولغات مختلفة، لكننى أراهن أن كلماتى ستصل إليكِ كما وصلت كلماتكِ لى وعبّرت عن عالمنا الإنسانى المشترك، لتثبت لى أن القرية واحدة أينما كانت، فى أوروبا أو فى بلدة عربية.


سعيدة أننى وجدتكِ على طرف من العالم، ترسمين الحكايات كما أرغب، أنا الموجودة فى طرف آخر. كلما قرأت كتاباتكِ وجدتُ نفسى، وجدت طرق الحكى التى أحبها، حيث التفاصيل المدهشة تروى العالم، كما لو أن الواقع العادى يتحول لصور سحرية، بوجود اللغة الشعرية المرهفة، نظرتك للعالم تحول كل العادى إلى شىء يستحق الكتابة عنه. 


القرية الواحدة
أحب عندما نكتب أن نصف العالم كما لم يعرفه أحد، فنشتق لغةً تخصنا للتعبير عن الصور التى نتخيلها، ونحولها من مجرد صور إلى حياة مكتوبة يصدق القارئ جنونها. 


لا أحاول الخروج من محليتى والالتصاق بالعالمية الممثلة فى شخصكِ. فأنا أؤمن ببلادنا وتجاربنا وبمحاولات بحثنا عن أنفسنا، وبالأساطير التى تربينا عليها واخترعتها مخيلاتنا فى فلكلورنا الشعبى والحكايات التقليدية القديمة. لكننى كلما قرأتكِ وجدت شيئًا مني. نحن ننتمى لقارتين تبدوان مختلفتين، أوروبا وأفريقيا، ومع ذلك  فى كتابك «اسقاطات” تتحدثين عن قرية تشبه قرانا العربية، أنواع النساء والزراعة، سعى الثعابين فى الحقول، تحكى عن الناس الذين يهاجرون إلى المدينة، وكيف أخذت القرية تتضائل، وتذكرين أن «أسماء العائلة فى قريتنا أسماء مهن كحذاء وخياط وعرباتى وأسماء حيوانات كذئب ودب وثعلب... وبجانب المؤسسة الاستهلاكية التعاونية يقع البيت الثقافى.»


نرى القرى فى الشابة التى ذعرت حينما رأت ثعبانًا وتحول شعرها للون الأبيض فاعتبروها مشعوذة، نحس بقرانا فى رجل يرتدى طقم أسنان يضايقه ويسقط من فمه كلما ضحك، فقام بالتخلص منه وإلقاءه. نسمع صوت قريتكِ البسيطة كأنها قرانا، ونرى النساء يغطوا رؤوسهن، ويضطروا لجمع ملابسهم حول جسدهم أثناء حصاد المحصول. ويغطى ملابسهم الدقيق عند العجن.


إنكِ تصفين عالم قرية طفولتك فى رومانيا، كما لو أنكِ تصفين قرية ريفية عربية. العالم يتحد هكذا، وتذوب كل الفواصل على نواصى الأدب، ويبقى الإنسان واحدًا فى كل مكان وزمان، حتى لو كانت روايتكِ عن قرية أوروبية منذ أكثر من خمسين عامًا، نقابل فيها الأم البسيطة التى تحيك ستارة عليها صدأ من حبل الغسيل، إنه عالم واقعى للغاية، ومع ذلك طريقتكِ يا هيرتا فى السرد لا تجعله كذلك.


تكتب هيرتا عن نفسها وعالمها من وحى تجاربها فى الريف الرومانى، فهى ألمانية نشأت وتربت فى رومانيا، ثم تتجه أعمالها التالية للكتابة عما عانته من اضطهاد فى رومانيا عندما احتلتها روسيا وقامت باضطهاد الأقليات الألمانية وكانت هيرتا من بينهم، فتم وضعها تحت المراقبة، وتعرضت هيرتا لمضايقات وتحقيقات كثيرة. حكت عنها فى تجاربها الروائية التالية.


ولدت هيرتتا عام 1953، وصدر كتابها الأول « إسقاطات» عام 1982، الذى يحكى عن الريف الرومانى، هو كتابها الأول، لذلك نحس فيه باندفاع الكاتبة الشابة وهى تروى عن قريتها، فى الأعمال الأولى غالبًا نجد المؤلف متحمس ليخبر بكل شيء، وليضع كل تفاصيل العالم المدهشة، حتى لو كانت كثيرة للغاية، لذلك فى كتاب «إسقاطات» نجد العالم ممتلئًا بتفاصيل الناس والمكان والأحداث الكثيرة، وهذا دأب وحماس المؤلفين فى بداية كتاباتهم.


بطلة «إسقاطات» هى طفلة تروى من منطقها عن قريتها، تفاصيل الجدة، النساء، الحقل، الحوانيت، تروى عن عالم بسيط لكنه قاسى تجاه الطفلة، التى تتلقى ضربات متتالية من عائلتها. الغريب أن هذه الطفلة تتسبب فى حريق القرية فى نهاية العمل، كما لو أنها تنتقم دون قصد من القرية التى تجاهلتها أيضًا دون قصد.


تستعملين يا هيرتا تقنية ملغزة، فتخبرى بأشياء لا نفهمها ثم تفسرينها لاحقًا، فتمنحينا جزءًَا مدهشًا، ثم تخبرى بمعنى وحقيقة ذلك، كأن تقول الطفلة: «النار تعذبنى بكماشاتها. النار تقترب، وساقاى خشب متفحم أسود». ربما لا نفهم معنى ذلك، لكننا فى الفقرة التالية نجد تفسيره، حينما تعترف: «أنا هى من أشعل النار، والكلاب فقط تعرف ذلك. وهى تجول كل ليلة فى نومى قائلة إنها لن تفشى من الأمر شيئًا، غير أنها ستنبحنى حتى الموت.»  


هذه المرة الثانية التى أكتب عنكِ فيها، أحب التفاصيل التى تمسكى عبرها بالعالم لتحكيه لنا، طريقتك فى الحكى دون مباشرة لتخبرينى عبر الأحداث عن البؤس الذى يعيشه أبطال «إسقاطات”. أجد روحى عند عالمكِ ، فهذه كتابة أصدقها.


اللغة الشعرية
«والليل ليس غولاً، فليس فى جوفه سوى الريح والنوم» العمل الأدبى هو بناية التفاصيل الكثيرة، فتهتمين بالكثير من التفاصيل يا هيرتا لإقامة عالمك بطريقتكِ الخاصة، لنرى «سرب من الغربان السود فوق صليب المرمر الأبيض الكبير المتسامق عند المقبرة، وتنطلق العصافير من البرقوق البرى الذى يزحم حافة الطريق هادرة إلى الحقل»، والقس يجعل غولاً أبيض ضخمًا يطير فى الهواء.


إن كل تفصيلة لا تعبر فى حالها لدى هيرتا، إنما تشتبك معها وتكتبها على طريقتها، وتلعب معها، فاللغة لديكِ يا هيرتا تمتلك دورًا كبيرًا فى تجريد الأوصاف من واقعيتها لتحلق فى الخيال الكبيرـ إنها تدق الناس بمسامير، كما جاء: «يحب جدى الكلام عن مطارقه ومساميره، ويقول عن بعض الناس أنهم مسمرون، ومسامير جدى حادة براقة، ومطارقه فظة ثقيلة صدئة».


سرعة الإيقاع من الأشياء المحببة لى عند الكتابة، ووجدتها عندكِ يا هيرتا، إننا نركض بين الأوصاف والحكايات والتفاصيل لنلضم واحدةً وراء أخرى فيتم بناء عقد، ويكتمل العالم. تكتبين بسرعة يا هيرتا تفاصيل كثيرة، كأنكِ تنزلقين فوق منحدر، وأثناء ذلك تشاهدين أشياءً كثيرة تصفينها بسرعة بينما تنزلقين.


أحب لغتكِ الشعرية، التى تصف العالم برهافة، كوصف العاصفة: «كانت الغرفة تضيء بين الفينة والفينة، والعلب الفارغة الكبيرة التى حفظتها جدتى منذ سنوات تخشخش، وحيوانات عجيبة غريبة من بقع ضوء، وظلل عديدة الأرجل تدب على سقف الغرفة، وأسلاك أعمدة التلغراف تتضارب قاذفة بالشوارع يمنة ويسرة». 


«كانت الأشجار نحيلة ومع ذلك لم تنكسر. وأخذت تدنو من فراشى أكثر فأكثر نافثة بردًا قاريًا. وقد أردت أن أشربها لشدة شفافيتها وبرودتها، لكنها شقت وجهى وقالت: نحن لسنا من الماء، بل نحن من الزجاج، حتى المطر من الزجاج». إنه وصف شعرى مليء بالتفاصيل، يخبر بخيال كبير، كما يخبر عن الفقر، وعن البيوت التى لا تستطيع مواجهة العاصفة، وعن الحاجة فحتى الماء من زجاج، إنه وهم.


إنها طريقتكِ يا هيرتا لتحرير العالم من القمع والعنف والخوف بكتابة حكايته على هواكِ بطريقة سحرية خيالية، ليصبح الخيال الحر الطليق بديلاً للواقع الصعب.


اللغة شعرية حتى أنه يمكننا استخراج قصائد من بين السطور فى «إسقاطات»، مثل: «السرير كبطن بقرة، وكل شيء ساخن مظلم يتصبب عرقًا، وحماله بنطال جدى معلقة بمسمار، وبنطاله الخالى يجوب الغرفة، وحين أمد يدى يتسنى لى أن ألامسه، لعل فى جيوب البنطال مسامير».  


يحمل كتاب «إسقاطات» إشارات تخبر بالواقع السياسى، فاللغة تشى ولا تكشف، وتحرض القارئ للبحث  فى تاريخ رومانيا لمعرفة ما تم ذكره فى النصوص، من كلمات الحروب، والألمان والروس، والاستيلاء وأن «أكبر صليب هو صليب الأبطال. وهو أعلى من صومعة المقبرة وعليه سجلت أسماء جميع أبطال جميع جبهات جميع الحروب حتى المفقودين الذين يقال لهم فى القرية المخطوفون» فيقدم الكتاب بذلك لمحات عما عاشته رومانيا من صراعات جرت على أرضها كمنطقة موالية لألمانيا، ثم تحولها لهيمنة روسيا عليها، بصراعات سياسية وخسائر بشرية. 


أعتبر كتابتكِ كتابة صديقة، رغم أنى لم أقرأك إلا متأخرًا، لكن الأصدقاء يمكنهم أن يلتقوا مهما طال الوقت.
بدأت أبحث عن لقاءات لرؤيتك تتحدثين عن حياتك، تصفين طفولتك الريفية وأنت تجلسين بالحقل وتتابعين القطار. تحكين بطلاقة عن طفلة ريفية، تكبر وتعيش اضطهادًا من روسيا عندما تحتل رومانيا، ثم تعيشين مضطهدة لسنوات، حتى خروجك للعيش فى ألمانيا، بصفتك ألمانية الأصل. 


أرجو أن تعتبرينى صديقة لم تعرفيها من قبل، مثلما أحسبك صديقة تجهلين بوجودى، لا ضير فى إرسال الرسائل حتى لو لم تصل. أنا على طريق الكتابة أيضًا، أراكِ فى الأمام ، وأصدق أن خيطًا رفيعًا فى الكتابة نسير فوقه، وكل عدد من الكتاب يختارون خيوطهم. إذا كانت الخيوط تربطنى إليكِ، فإن الرسائل تمد  أياديها لنصل.

 

أقرا ايضا | «ڤاليو» للتمويل الاستهلاكي تحصد جائزة «أفضل منصة لحلول التقسيط»