خواطر الإمام الشعراوي | التعالي على النعمة

الشيخ محمد متولي الشعراوي
الشيخ محمد متولي الشعراوي

يقول الحق فى الآية 58 من سورة القصص «وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ».. كلمة «وَكَمْ..» كم هنا خبرية تفيد الكثرة، كأنك تركتَ الجواب ليدل بنفسه على الكثرة، كما تقول لمن ينكر جميلك، ولا تريد أنْ تُعدد أياديك عليه: كم أحسنتُ إليك، يعنى: أنا لن أُعدِّد، وسوف أرضى بما تقوله أنت لأنك واثق أن الإجابة سوف تكون فى صالحك، وعندها لا يملك إلا أن يقول: نعم هى كثيرة فكم هنا تعنى الكثرة، وينطق بها المخاطب لتكون حجة عليه.

معنى: «مِن قَرْيَةٍ...» من للعموم أي: من بداية ما يُقال له قرية «بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا» البطر: أن تنسى شُكْر المُنعم على نعمه، أي: أنه سبحانه لم يرد ذكره على بالك وأنت تتقلَّبَ فى نِعمه، أو يكون البطر باستخدام النعمة فى معصية المنعم عز وجل.

ومن البطر أن يتعالى المرء على النعمة، أو يستقلها ويراها أقلّ من مستواه، كالولد الذى تأتى له أمه مثلاً بطبق العدس فيتبرَّم به، وربما لا يأكل، فتقول الأم كما نقول فى العامية؛ أنت«بتتبطر» على نعمة ربنا؟ كلمة فى لغتنا العامية لكن لها أصل فى الفصحى.

إذن: من البطر أنْ تتجبَّر، أو تتكبر، أو تتعالى على نعمة الله، فلا ترضى بها، وتطلب أعلى منها ومعنى «مَعِيشَتَهَا» أي: أسباب معيشتها «فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين» فما داموا قد بطروا نعمة الله فلابد أن يسلبها من أيديهم، وإنْ سُلبتْ نِعم الله من بلد هلكوا، أو رحلوا عنها «إِلاَّ قَلِيلاً» هم الذين يقيمون بعد هلاك ديارهم.

«وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين» نرثهم لأنهم لم يتركوا مَنْ يرثهم، وإذا تُرِك مكان بلا خليفة يرثه آل ميراثه إلى الله تعالى.
وفى آية أخرى يعالج الحق سبحانه هذه القضية بصورة أوسع، يقول تعالى: «وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف...» «النحل: 112».

ومعنى الكفر بالله: سَتْر وجود الله، والسَّتْر يقتضى مستوراً، فكأن الأصل أن الله تعالى موجود، لكن الكافر يستر هذا الوجود، وهكذا يكون الكفر نفسه دليلاً على الإيمان، فالإيمان هو الأصل والكفر طارئ عليه.
ومثال ذلك قولنا: إن الباطل جُنْدى من جنود الحق، فحين يستشرى الباطل يذوق الناس مرارته، ويكتوون بناره، فيعودون إلى الحق وإلى الصواب، ويطلبون فيه المخرج حين تعضُّهم الأحداث.

إقرا أيضاً | خواطر الإمام الشعراوي| ما يصيبهم إنْ اتبعوا رسول الله

وكذلك نقول بنفس المنطق: الألم أول جنود الشفاء؛ لذلك نجد أن أخطر الأمراض هو المرض الذى يتلصص على المريض دون أنْ يُشعره بأيِّ ألم، فلا يدرى به إلا وقد استفحل أمره، وتفاقم خطره وعزَّ علاجه، لذلك نسميه- والعياذ بالله- المرض الخبيث.
ففى قوله تعالى: «فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله...» «النحل: 112».

دليل على وجود النعم، ومع ذلك كفروا بها أي: ستروها، إما بعدم البحث فى أسبابها، والتكاسل عن استخراجها، أو ستروها عن المستحق لها وضنُّوا لها على العاجز الذى لا يستطيع الكسب؛ لذلك يسلبهم الله هذه النعم ويحرمهم منها رغم قدرتهم.

وهناك أشياء لو ظلت موجودة لأعطتْ رتابة، ربما فهموا منها أن هذه الأشياء إنما تأتيهم تلقائياً بطبيعة الأشياء، وحين يسلب الله منهم نعمه ويقطع هذه الرتابة، فإنما ليفهموا أن الرتابة فى التكليفات تُضعِف الحكمة من التكليف، كيف؟
نقول: الحق تبارك وتعالى حرَّم علينا أشياء وأحلَّ لنا أشياء، فمثلاً حرَّم الله علينا الخمر حتى أصبحنا لا نشربها ولا حتى تخطر ببالنا، فأصبحت عادة رتيبة عندنا، والله تعالى يريد أنْ يُديم على الإنسان تكليف العبادة، حتى لا يعتادها فيفعلها بالعادة، فيكسر هذه العادة مثلاً فى صوم رمضان.

ويُحرِّم عليك ما كان حلالاً لك طوال العام، وقد اعتدْتَ عليه، فيأتى رمضان وتكليف الصيام ليُحرِّم عليك الطعام الذى كنت تأكله بالأمس، ذلك لتظل حرارة العبادة موجودةً تُشوِّق العبد إليها، وتُعوِّده الانضباط فى أداء التكاليف.