كنوز| أسباب اغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر في «البهو الفرعوني»

جنازة رسمية وشعبية لأحمد ماهر باشا - أحمد ماهر باشا ينصت لحوار مع الملك فاروق الأول
جنازة رسمية وشعبية لأحمد ماهر باشا - أحمد ماهر باشا ينصت لحوار مع الملك فاروق الأول

فى 24 فبراير عام 1945 اجتمع نواب البرلمان لبحث مسألة إعلان مصر الحرب على خصوم الحلفاء، وكانت وزارة د. أحمد ماهر باشا قد أعدت بيانا وافقت فيه على إعلان الحرب، وبعد أن ألقى رئيس الوزراء الدكتور أحمد ماهر هذا البيان فى مجلس النواب، اتخذ طريقه إلى مجلس الشيوخ ليلقى نفس البيان أمام الأعضاء.

وأثناء مروره بالبهو الفرعونى، تقدم منه شاب يدعى محمود العيسوى وأخذ يطلق عليه الرصاص من مسدسه فأصابه إصابات أودت بحياته وسط ذهول كل من كان وقتها فى المكان، وتم إلقاء القبض عليه ومن خلال التحقيقات معه تبين أنه عضو بالحزب الوطنى ومحام يعمل فى مكتب سكرتير الحزب عبد الرحمن الرافعى، وأقر فى التحقيقات أنه أقدم على فعلته التى لا يعتبرها جريمة، ليمنع قرار دخول مصر الحرب إلى جانب إنجلترا.

 

وبينت التحقيقات أن المحامى محمود العيسوى كان ضمن فريق صقور الحزب الوطنى الذى أسسه الزعيم مصطفى كامل، وكان ضمن الشعبة المدنية فى الحزب الذى تم تأسيسه لمقاومة الاحتلال الإنجليزى، وهو من مواليد قرية «بنى غربانة» التابعة لمركز قويسنا بمحافظة المنوفية، وحصل على شهادة الحقوق عام 1939 ودبلوم القانون الخاص عام 1940.

ودبلوم القانون العام بتفوق عام 1941، وأعد رسالة للدكتوراه فى الحقوق بعنوان «مركز مصر الدولى بعد إبرام معاهدة سنة 1936»، شاب ناجح بهذه المؤهلات والمواصفات ومتفوق علميا أثار دهشة الرأى العام وجهات التحقيق وراء الدوافع التى بينها لاغتيال رئيس الوزراء بهذه البساطة التى وصفها البعض بالسذاجة الوطنية، والغريب الذى كشفت عنه التحقيقات أنه برغم عمله كمحام بمكتب عبد الرحمن الرافعى.

إلا أنه لم يكن يباشر الدعاوى التى يتم تداولها فى المكتب، وتفرغ تفرغا تاما للإنغماس فى قضايا مصر الداخلية والخارجية،، وتبين للمحكمة أنه كان ضمن فريق بالحزب الوطنى يؤمن بأن العنف المسلح هو الوسيلة الوحيدة لإجبار الاحتلال على مغادرة مصر، ولهذا لم يبد أى ندم أثناء محاكمته على الجرم الشائن الذى ارتكبه، وأفصح أنه قام بعمل وطنى يرضى ذاته ووطنيته !! 

 


من جهة أخرى شيعت جموع الشعب المصرى بكل طبقاته الاجتماعية جثمان د.أحمد ماهر باشا رئيس الحكومة فى جنازة شعبية ورسمية تليق بمقامه وأعلنت البلاد حالة الحداد، وكان الملك فاروق قد كلف محمود فهمى باشا النقراشى برئاسة الحكومة، الذى أمر بإحالة القضية إلى المحكمة العسكرية العليا برئاسة المستشار الجليل محمود منصور بك، وعضوية حسن حمدى بك واثنين من العسكريين.

وكان القاتل محمود العيسوى قد اعترف أمام النيابة قبل إحالته للمحكمة بأنه ينتمى للحزب الوطنى المعارض لتوجهات وسياسات رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا، وظل يؤكد على أن الدافع وراء ارتكابه للجريمة هو رغبته فى منع قرار دخول مصر الحرب إلى جانب انجلترا من مبدأ أن الأولى بالحرب هم الإنجليز المحتلون وليس الألمان الذين لم يحتلوا أرض مصر ولم يمارسوا فيها أى فظائع، وقال: « لماذا نحاربهم ولم تجمع بيننا عداوة من قبل بينما نترك من يسرق أقواتنا فعلا ؟ ». 


حكمت المحكمة العسكرية على القاتل الآثم محمود العيسوى بالإعدام  شنقا، وسيق فجر يوم 18 سبتمبر 1945 لتنفيذ الحكم، وحين سُئل أمام غرفة الإعدام عما يطلبه بعد أن تمت تلاوة الحكم الصادر ضده، طلب أن يسمح له بالصلاة، وتوضأ وصلى الصبح، وقبل وضع «الطاقية السوداء» على رأسه قال: 

« أنا لا يهمنى إلا حكم التاريخ، وأرجو من الصحفيين ألا يشوهوا سمعتى كما شوهوا القضية، وكلمتى لهم ألا تفتروا على ميت ». 


>>>


من الجدير بالذكر أن د.أحمد ماهر باشا يعد أحد أشهر الساسة المصريين فى فترة الأربعينيات من القرن الماضى، تخرج فى مدرسة الحقوق عام 1908، وحصل على الدكتوراه من جامعة مونبيليه فى فرنسا، تقلد وزارة المعارف فى وزارة سعد باشا زغلول عام 1924 وكان أحد المتهمين فى قضية الاغتيالات الكبرى، ولكنه نال البراءة.

وهو شقيق على ماهر باشا رئيس وزراء مصر الذى تولى رئاسة الوزراء فى حكومات عديدة فى عهد الملك فؤاد وابنه الملك فاروق الأول، وقد انفصل أحمد ماهر باشا مع محمود فهمى باشا النقراشى عن حزب الوفد بعد توقيع مصطفى باشا النحاس معاهدة 1936 مع انجلترا، وقاما بتأسيس حزب الهيئة السعدية مع عدد من الوفديين على أساس أنه الممثل الحقيقى لأفكار واتجاهات زعيم الأمة سعد باشا زغلول، وقد تولى أحمد باشا ماهر رئاسة الوزراء خلفا لمصطفى باشا النحاس عام 1944 فى الفترة التى كانت فيها الحرب العالمية الثانية مشتعلة.

وفى المرحلة الأولى من الحرب حققت ألمانيا انتصارات دفعت جلالة الملك فاروق لأن يعلن عن تأييده لقوات المحور، بدافع من بعض حاشيته التى كان بها عدد من الإيطاليين، لكن د. أحمد ماهر باشا كان له رأى آخر مخالف لرؤية الملك!!..

فقد انحاز لصالح بريطانيا، وأعلن انحياز مصر لبريطانيا لأنه كان ضد الفكر الفاشى والنازى، وكان يرى أن انحياز مصر لبريطانيا سيعمل على تقوية الجيش المصرى وسيعطيه خبرة ميدانية يفتقدها، فهو جيش لم يدخل حرباً منذ عهد محمد على باشا ، وكان يرى أنه فى حال انتصرت إنجلترا، فسيشكل الجيش المصرى عنصرًا خطيرا وضاغطا على بريطانيا لنيل الاستقلال.

وفى حال انتصر المحور، فسيكون الجيش المصرى عائقا ضد قوات الاحتلال إذا ما أراد احتلال البلاد، وبهذا المفهوم أصبح د.أحمد ماهر باشا فى موقف لا يحسد عليه بعد إعلانه دخول مصر الحرب إلى جانب انجلترا ضد المحور، وقابل عاصفة من الانتقادات الشديدة من قبل الملك وحزب الوفد، وأشيع بين العامة أنه يعمل لصالح الانجليز.

ومما زاد الموقف تعقيدا أن د.أحمد ماهر باشا لم يصارح الشعب بحقيقة وجهة نظره أو الأسباب الحقيقية التى جعلته يختار تلك الوجهة، ومن الجدير بالذكر أنه قبل حادثة اغتياله بثلاث سنوات نشرت إحدى المجلات حديثًا له  أفصح فى نهايته ما يشبه النبوءة عندما قال: « أنا أعلم سلفًا ما ينتظرنى من صعاب وعقبات.. ولكنى خلقت لأكافح وأنى لن أموت نائمًا، بل أموت وأنا واقف على قدمى ! » ، وتحققت النبوءة!.


من «أشهر الاغتيالات السياسية»  
 

إقرأ أيضاً|كنوز | «الأخبار» تضىء الشمعة «101» للأب الشرعى للكاريكاتير المصرى

 

 

 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي