الثقافة ترتدى النقاب

ياسر عبد الحافظ يكتب: سارتر يدلى برأيه برأية في قضية "المومس الفاضلة"

سارتر يدلى برأيه برأية في قضية
سارتر يدلى برأيه برأية في قضية

«المومس الفاضلة» مسرحية من فصل واحد ولوحتين، ننشر هنا المشهد الأول من إعادة معالجة لها على وعد بتقديم بقية العمل للجمهور على خشبة المسرح مباشرة عند اتفاق أبطال العمل على وجهة نظر واحدة يمكن من خلالها بلورة الفكرة العامة التى من أجلها تم اتخاذ قرار إعادة تقديم المسرحية، وأيضا عند توافر الظروف المناسبة للمسرح المصرى من خلال بناء مسارح جديدة وفتح المغلق منها وحث الجمهور على العودة إلى مقاعد المتفرجين.

الشخصيات:
إلهام 
ليزي
سارتر
المثقف
عضو مجلس النواب
المتحدث باسم الجمهور

شخصيات ثانوية:
الزنجي

اللوحة الأولى
حجرة فى مدينة مصرية، حوائطها بيضاء. وهناك أريكة، وعلى اليمين يوجد شباك، وعلى اليسار باب الحمام، وفى واجهة المسرح توجد حجرة صغيرة تفتح على باب حجرة الاستقبال وداخلها نلمح من على البعد مكتبًا تتراص عليه الملفات، تجلس على المكتب سيدة منهمكة فى العزف على آلة فلوت.
المشهد الأول
قبل أن يرتفع الستار يُسمع صوت عزف رقيق على الفلوت، ثم يتبعه أصوات لنداءات باعة يتداخل معها ضجيج نفير عربات. ليزى امرأة عجوز تسير بصعوبة ناحية الباب لتفتحه مستجيبة لجرسه الذى يدق بإلحاح.
ليزي: (بصوت خفيض يناسب سنها) تعرفون من على الباب سأذهب لأصرفه وأعود إليكم. لا تظهروا أنفسكم فلن يفهم ما يحدث. تصمت لحظة وتنقل نظراتها بين الجالسين فى غرفتها وتبتسم قبل أن تضيف: لا أحد فى الحقيقة يمكنه أن يفهم ما يحدث.
 (تذهب لتفتح الباب فيظهر الزنجى فى إطاره. إنه زنجى عملاق، شعره أبيض، متوتر المظهر)
ما هذا؟ ألن تكف عن المحاولة، انقضى الأمر لماذا تعود الآن بعد كل هذه السنوات.
الزنجي: (متوسلًا) أرجوكِ يا سيدتي، أرجوكِ.
 ليزي:  فيمَ ترجوني؟ (تنظر إليه بتمعن) انتظر. ألا تدرك بالفعل أنك لم تعد فى خطر، لن يعاقبك أحد بعد الآن لمجرد أنك أسود، مطاردوك يلعنهم التاريخ.
الزنجي: عن أى تاريخ تتحدثين يا سيدتي. حياة الأسود دائمًا فى خطر (يتحرك مبديًا رغبته فى الدخول) أرجوكِ. 
ليزي: أنت حر، من الأفضل أن تذهب لأنه لدى رجل (تصمت بغتة) لا ليس رجلا، هذا كان فى العرض القديم.. عندى ضيوف، من فضلك اذهب.
تسارع بإغلاق الباب ولا تريد أن تسمع ما سيقول، تحفظه وهو لا يبدو راغبًا فى الفهم، يتمسك بدوره فى النص الأصلى ولا يأبه بالتغيرات التى جرت.
الزنجي: (يحاول منعها من غلق الباب لكنه لا يستخدم قوته كاملة ولا يكف عن التوسل والإلحاح) سيدتى هذا أمر لا يتغير أبدًا، القاعدة واحدة.. عندما يبدأ أبيضان فى التحدث لا بد أن يموت زنجي. ألم تسمعى بأخبار جورج فلويد الزنجى الذى قتله الشرطى الأبيض؟ 
تعود ليزى إلى غرفتها. تجلس إلهام على السرير، وبجوارها سارتر، فيما اختار المثقف وعضو مجلس النواب كرسيين فى ركنيين متباعدين، وفى المنتصف بين الجميع، إنما فى مساحة تخصه، جلس على الأرض المتحدث باسم الجمهور منشغلًا بهاتفه، تقترب منه ليزى بهدوء حتى يكون فى إمكانها رؤية الشاشة بوضوح وعليها كلمات البحث فى المتصفح.. المومس الفاضلة مقاطع ساخنة. يرتبك المتحدث باسم الجمهور عندما ينتبه أنها تقف خلفه فيغلق الهاتف ويضع بجوار قدمه.
ليزى توجه كلامها إلى إلهام: (يصمت عزف الفلوت عندما تبدأ فى التحدث) سمعت أنكِ سبب كل هذه الضجة التى أيقظتنا ثانية. 
إلهام: لنا الشرف أن نكون فى استقبالك.   
ليزى بضحكة ساخرة يبتسم لها سارتر: ذكر الشرف هنا يبدو غريبًا بعض الشيء.
لا تعقب إلهام ولا أحد آخر، يبدو أن الجميع يفكر فيما سيقوله، لكن المتحدث باسم الجمهور ينتبه إلى الحوار فى تلك اللحظة بعد أن كان قد عاد إلى هاتفه.
سارتر: هل لى أن أسأل عن سبب تلك الضجة الضخمة التى تصاحب التفكير فى إعادة المسرحية، حسب علمى هذه المسرحية تم تقديمها عشرات المرات وبأشكال مختلفة بلا مشاكل.
عضو المجلس النواب: (يبدو مترددًا قليلًا لكنه سرعان ما يقول ما عنده) المشكلة ليست فى المسرحية ولا فى أفكارها، نحن مع الفن دائمًا، لكن عنوانها يثير حساسيات كثيرة..
سارتر: (يقاطعه) سموها إذا المومس غير الفاضلة إن كان هذا كفيلًا بعودة الهدوء.
ضحكات متقطعة من إلهام والمثقف وعضو مجلس النواب.
المثقف: المسألة ليست بهذه البساطة سيدي، ثم أنه كيف تقبل بتغيير اسم عمل لك، التغيير الذى تقترحه فضلًا عن أنه لا يحل المشكلة فهو يشوه فكرة العمل الأساسية.
سارتر: العناوين لا تعنى الكثير يا عزيزي، المهم أن تجد حالة فنية تلتقى حولها الأطراف المختلفة لتناقش اختياراتها، هذه وظيفة المسرح. أما حالة الجدل العقيم والتحزب التى تحاصركم فلن تنتج سوى ضجة مزعجة. (يصمت لحظات) هل لى بمعرفة مشكلة العنوان؟
المثقف: عضو مجلس النواب ومعه قسم كبير من الجمهور متحفزان ضد كلمة مومس؟
سارتر: (موجهًا حديثه إلى المتحدث باسم الجمهور) ما الذى يغضبك فى كلمة مومس؟ لا يمكننى إلا افتراض أنك تظن أن كل النساء مثل أمك..
 المتحدث باسم الجمهور: (وقد احمر وجهه ويبدو أنه لا يجد ما يرد به) المفروض أن الأدب والفن يكون وسيلة للارتقاء بالأخلاق.
سارتر: وجهة نظر طبعًا.. لكن.
ليزي: (تقاطع سارتر منفعلة وتوجه حديثها إلى المتحدث باسم الجمهور) فلماذا تبحث عن مقاطع ساخنة للمومس الفاضلة.. ألا تريد رؤيتى عارية يا حبي؟
تبدو ملامح الارتياح على وجه إلهام والمثقف، فيما يغضب المتحدث باسم الجمهور ومعه عضو مجلس النواب.
عضو مجلس النواب: من فضلك.. كلامك هذا ما يجعلنى أصمم على موقفى من هذه المسرحية، أنها غير مناسبة لمجتمعنا المصري، هذا ليس فنًا راقيًا يخدم الناس بل من الممكن أن نطلق عليه «فن إباحي».
سارتر: (تبدو على وجهه ملامح الاهتمام) لماذا تصف المسرحية هكذا؟ لا أرفض رأيك لكن فقط لدى فضول للفهم.
عضو مجلس النواب: سيدي، أنا أقدر فكرة المسرحية كونها تتناول مسألة العنصرية، وأنا مع عدم وضع قيود على الفن لعظيم دوره فى المجتمع، لكن هذه الأعمال ستدخل كل بيت ويشاهدها الأطفال وهذا الاسم غير مناسب لمجتمعنا الشرقي.
ليزي: (مندهشة) ألا توجد مومسات فى مجتمعكم الشرقي؟
إلهام: هذه سياسة دفن الرأس فى الرمال.
المثقف: (متحدثا إلى ليزي) أرجو ألا يشعرك الكلام بالحرج سيدتي.. لكِ منا كامل الاحترام.
ليزي: (تنظر إلى المثقف ويبدو أنها لم تعى ما يقوله لكنها تبتسم لمجاملته) أنا لم أطلب يومًا سوى بعض التفهم والاحترام.
يصمت الجميع لحظات احترامًا لمشاعر ليزى بينما يعلو صوت الفلوت من الغرفة الثانية التى نلمح فيها العازفة مازالت فى جلستها نفسها على مكتبها. 
سارتر: (مقاطعا العزف الذى يبدأ صوته فى الخفوت إلى أن يتلاشى) إنما اعذورني، ألا توجد لديكم فى الوقت الحالى قضايا أكثر إلحاحًا من مسـألة العنصرية، لقد زرت بلدكم سابقًا ولم ألمس لهذه القضية وجودًا بخلاف قضايا أخرى أكثر إلحاحًا.
 إلهام: (بضيق واضح) ربما، لكنك لم تعرف بعد كيف ستكون شكل المعالجة الجديدة للمسرحية.
سارتر: كلى أذان صاغية.. هل سيتم استبدال العنصرية وهى القضية الجوهرية هنا بعنصر آخر، وما هو يا ترى؟
المثقف: اسمح لى سيدى أن أختلف معك، ليس بالضرورة أن تكون العنصرية المرتكز الأساسى للعمل، فى تقديرى أن صلب المسرحية هو المظاهر الخادعة، فالمومس تفهم الأخلاق أكثر مما يفهمها بعض من يضعون قوانينها. (ينهى كلماته وهو ينظر إلى عضو مجلس النواب متحديًا)
عضو مجلس النواب: (يبادل المثقف النظرات المتحدية، ثم يوجه كلامه إلى سارتر) اسمح لى سيدى أن أعبر عن عميق امتنانى لك ولأفكارك، أنت بشجاعة لمست عمق أزمتنا الحالية وهى ابتعاد المثقف عن قضايا أمته ووطنه وتصميمه على البقاء فى أطلال برجه العاجي.
سارتر: أنا لا أتحزب هنا يا عزيزى مع طرف ضد الآخر، أنا أسعى لوضع كل طرف أمام أسئلته التى لا يريد أن يواجهها وساعتها يمكن بناء عمل جماعى كتقديم مسرحية.
إلهام: هذا تعقيد لا ضرورة له، نحن مع التنوير ضد قوى ظلامية تسعى لجرنا إلى العصور الوسطى وهذا ما عليك فهمه وهو بالمصادفة واجبك كمثقف.
المثقف: (يقف وينحنى لإلهام) أتفق تمامًا. 
عضو مجلس النواب: لماذا تضغطون على الرجل، دعوه يعبر عن وجهة نظره بحرية.
المثقف: (بلهجة ساخرة) طبعًا وأنت من أكثر المؤمنين بقيمة الحرية.
سارتر: (يوجه كلامه إلى عضو مجلس النواب) من الضرورى أيضًا التأكيد على أن رغبتك فى تغيير عنوان المسرحية أمر تافه ويتمسك بالشكليات ليتجنب الدخول فى حوار حقيقي.
 ليزي: هذه المرة القضية أصعب بكثير من المرة الأولى.
سارتر: (موجهًا الكلام إلى ليزي) نعم يا عزيزتي، وأظن أنه لا مكان لنا هنا، دعينا نلحق بصديقنا الزنجى قبل أن تعتقله الشرطة.
المتحدث باسم الجمهور: لو سمحتم هل من حقى أن أقترح عليكم شيئًا.
ينظر إليه الجميع بلهفة ويردون بصوت واحد: نعم.
يقوم المتحدث باسم الجمهور من مكانه متوجهًا إلى منضدة فى مواجهة الجميع يضع عليها هاتفه بعد أن يختار جزءًا من مسرحية يرتدى فيها رجل زى امرأة متعمدًا المبالغة بحشو أجزاء من ملابسه فى أماكن معينة بقصد السخرية واستجداء ضحكات الجمهور. يتبادل مع بقية الممثلين الشتائم والنكات الخارجة، أداء ينفعل معه الجمهور الذى كان صامتًا وعابسًا طوال ما مضى من حوار بين أبطال المومس الفاضلة. يخيم الصمت على خشبة المسرح فيما ينسحب سارتر وليزى بهدوء.