يوميات الأخبار

ماذا إذا عزت نعم؟

مبروك عطية
مبروك عطية

قالت: لم تحك لى أنك شاهدتنى فى منامك ذات يوم!
قال: لما طغى ذكرك فى يقظتى فلم تغيبى عنى طرفة عين استحيا المنام أن يستدعيك فيه، لذلك لم أرك يوما فى منامى.

السبت


على عادته ذهب البطل المصرى الرشيدى محمود العسال إلى بيت خالته ليرى زبيدة ابنتها وحبيبته التى امتلكت قلبه، واستحوذت على وجدانه، فصارت أمله المنشود، وكانت زبيدة آية ناطقة بالجمال، وصفها الأستاذ على الجارم فى كتابه (غادة رشيد) بوصف أبلغ وأرق من الشعر المنظوم، ويبدو أن كثيرات من البارعات فى الحسن يردن أن تتعلق بهن كل القلوب، فهى تنزل من غرفتها تتهادى فى قميصها الناعم، وتتعثر فى هرتها التى تلزمها فلا تتركها، وكأنها عنصر أصيل فى رسم الصورة، وتحاول أن تخفى علمها بوجود العسال فى بيتهم، فتصدر أنفاس الربيع من صدرها الأخضر، لتقول برقة وحنان: هل أنت هنا يا محمود؟ كيف حالك يا ابن خالتى، وكيف أصبحت؟ فيهب محمود واقفا ينتفض انتفاضة العصفور بلله القطر، يحاول التقاط أنفاسه، ويستعيد من رجولته وكفاح عمره قوة تعينه على الثبات أمام هذا الجمال الذى لا يواجه بثبات، وفى هذا الصباح قال محمود: تعلمين يا زبيدة أنى أحبك، وأنى طلبتك من خالتى للزواج، وأنت تماطلين، وها أنا ذا أطلبك من جديد، وعندى رجاء،

قالت: وما رجاؤك يا ابن خالتى؟ قال : إن عز عليك ألا تقولى: نعم فلا تقولى: لا، هذا هو عين الشاهد، وبيت القصيد، وهكذا كان رجاء المحبين أن يبقى معلقا بالأمل، والرجاء ما دام حيا، فلا نعم ولا: لا خير للمحب من القطع بلا، فالقطع بلا أشد من قطع وريده، وشريان عمره، هو لا يحب أن يقطع محبوبه علاقته به، ولو كانت تلك العلاقة وهمية، عند من يحب، لكنها عنده وهمية تدرجت حتى صارت حقيقية، فوهم الحب أنفع للمحب من انقطاعه، وتبقى فى النهاية (نعم) أعلى الكلمات فى قاموس المحبين، و(لا) أغرب الكلمات، وأعنفها، وأبغضها عند المحبين.


الأحد


قيمة الوجود


إذا لم يكن لوجود الحى من قيمة يبدو أثرها فى غيره لا سيما من يحب صارت حياته كلا حياة، فلا حياة ولا عدم، والعدم عند انعدام أثر الوجود أفضل بكثير من الوجود، وحين انتقلت من المرحلة الإعدادية إلى الصف الأول الثانوى اخترع مخترع أن ندفع رسوما قدرها خمسة جنيهات، ودخل علينا شيخ معهد منوف الدينى وخاطبنا قائلا: لقد فرضت رسوم عليكم قدرها خمسة جنيهات من لم يأت بها فلا بقاء له فى الأزهر؛ فأصاب جميعنا بغم وهم شديدين، ورأيت بعينى من سقط على الأرض من زملائى، ومن دارت به، نزل الخبر علينا نزول الصاعقة ؛ فهذا المبلغ كبير، ويكاد يكون إلى التخريف أقرب منه من الجد، وما من طالب أزهرى إلا ويعلم أن أسرته لا طاقة لهم به، ورجعت إلى قريتى وقد اختلط بعينى شجر الطريق بحبال اليأس فلا أرى من الشجر إلا شوكا نثره اليأس من نفسى عليه، ولأول مرة أرى ماء الترعة التى كانت على يسارى فى الطريق من قرية غمرين إلى قريتى دبركى، لأول مرة فى حياتى رأيت لون الماء يتردد بين لونين الأسود بلون اليأس، والأحمر بلون الدم الذى يجرى فى عروقى، وكنت أرى كل من ينادينى على الطريق، عدوا أود  نسفه، وهلاكه، وحين عدت إلى القرية ودخلت دارنا ورآنى والدى -رحمه الله- تجمد الدمع فى عينى من شدة الحزن الذى قرأه الوالد، فقال: مالك؟ قلت فى أسى شديد: الأزهر الذى لم يفرض رسوما يوما قد فرض علينا خمسة جنيهات، وإلا فلا استكمال للمرحلة الثانوية، وضحك والدى، وقال : بسيطة، ولا يهمك، ستذهب غدا إن شاء الله، ومعك المبلغ المطلوب، وسكت فى ذهول عجيب؛ ففى نفسى يقين أن عمدة القرية لا يملك هذا المبلغ، وكنت أستذكر دروسى فى دارنا القديمة وحدى، حيث انتقلت الأسرة إلى بيتنا الجديد الذى لم تألفه نفسى لأنه كان على الشارع العمومى، فكانت حركة المارة وأصواتهم وأصوات مواشيهم تزعجنى، ودخل على أبى وسلم، وقال مبتسما: لعلك مؤرق بسبب الخمسة جنيهات ! قلت: أجل؛ فأخرجها من جيبه وقال: هذه هى كما وعدت، فلما تناولتها من يده وقبلتها قال لى: اسمع يا مبروك، من كان له أب على وجه الدنيا وسأله حاجته فليس عليه إلا شيء واحد، أن ينام قرير العين، لا يفكر فى حاجته، وإلا فلا معنى لحياة والده، ولما أصبحت عرفت كيف تصرف والدى؛ فلم أر باب الدار الداخلى، وكان لدارنا بابان، باع أبى الباب الداخلى، دون الخارجى الذى وجد فيه كفاية، وظلت كلمة والدى فى وجدانى حتى حصولى على درجة الأستاذية فى الجامعة، وألفت كتابى (قيمة الوجود فى الحياة).
الاثنين 


ألم أقل لك؟


لأمر لا يعلمه غير علام الغيوب صحت الأم من نومها قبيل الفجر، وأيقظت زوجها، وقالت: هيا بنا إلى مصر الآن، تقصد القاهرة، وقد كان أهل الريف وما زالوا يطلقون كلمة مصر على القاهرة، وقال زوجها: مالك؟ قالت: قلبى يحدثنى أن ابننا فى خطر، قال: يا شيخة استهدى بالله واستعيذى به من الشيطان الرجيم، إنه فى أحسن حال، وتراك عشت كابوسا من أثر العشاء الدسم التى نمت بعده بالأمس.


قالت: إن لم تصحبنى فسأسافر وحدى، وتناولت قميصها الأسود المعلق بمسمار فى الجدار القديم، فقال: مجنونة وتعملها، انتظرى حتى نصلى الفجر ونسافر، قالت : أصليه فى المكان الذى يؤذن فيه، دقيقة واحدة لن أنتظر، يا كبدى يا ابنى


وانطلق الوالدان إلى القاهرة، وقصدا مسكن ابنهما بالدرب الأحمر حيث كان يدرس فى جامعة الأزهر بالدراسة، وهناك لم يجداه؛ فصرخت أمه وقالت لأبيه: ألم أقل لك! ولدى، أين ولدى؟ وعلما من زملاء ابنها أنه أصيب فى حادث إصابة خفيفة، ونقل بعدها إلى مستشفى الحسين الجامعى المجاورة لكليته، فهرعا إليه، واطمئنا عليه، ولم تبرد النار فى صدرها إلا بعد أن تفقدته بنظرها ويده ووجدت الجرح بفضل الله خفيفا، الأمر الذى جعل أباه يقول لها : انظرى جرح خفيف لا يستحق تلك الثورة التى أيقظتنى عليها؛ فقالت: شكة الدبوس تصيبه فى قدمه سهم قاتل يصيبنى فى كبدى.


وهكذا كان للقلب حديث صدق يصل من الأفق البعيد الطويل، فيوقظ النائم، ويحرك الساكن، والقلب فى صدر المحب بمثابة الملك، وكل جوارح المحب جنود تسمع له وتطيع، وقد حدث القلب تلك الأم فأيقظها من نومها العيق لأنه قال لها: شيء ما غير طيب أصاب ابنها، فما لبثت أن أيقظت والده، وانطلقا إليه، ومن ثم يجب أن ننتبه إلى قول العلماء فى حديث وابصة الذى قال له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم -استفت قلبك: إن القلب يستفتى إذا كان قلبا تقيا خاشعا ورعا، فليست كل القلوب صالحة لأن تستفى؛ فتفتى بما هو معتبر، فهناك قلب إن استفتيه فى مسألة تخالف هواه أفتى صاحبه بضلال عظيم، وهناك فى الحب قلب ثرثار يملى على صاحبه أوهاما ليس فيه من الحق شيء، وكل إناء بما فيه ينضح، فما كان فيه الحق أملى بالحق، وما كان فيه وهم أملى وهما.
الأربعاء 


أنت تحيا لتنادى أنا أحيا لألبى


حين قالت فدوى طوفان شاعرة فلسطين:


نادنى من آخر الدنيا ألبى.... كل درب لك يفضى فهو دربى


يا حبيبى أنت تحيا لتنادى .... يا حبيبى أنا أحيا لألبى


لخصت قصة العشق فى إيجاز بليغ، ومعنى بديع، فالمحب يرى حبيبه قد خلق لكى ينادى، ويسأل حاجته، ومحبه قد خلق كى يلبى هذا النداء، ويحقق ذاك الرجاء، بكل ما أوتى من قوة، وفى قولها: نادنى من آخر الدنيا ألبى يذكرنا بقول البارودى فى منفاه:


لبيك يا داعى الأشواق من داعى ... أسمعت قلبى وإن أخطأت أسماعى


أى إن حالت المسافات دون أن تسمع أذنى نداءك فقد سمع قلبى، والقلب لا تحول المسافات دون سماعه، وأكاد أزعم يقينا لا ظنا أن وصول الأصوات إلى القلب حقيقة لا مجاز، وهى هبة من السماء لا يؤتاها إلا من عرف الحب الحقيقى، لا الوهمى، وحين قتلت قريش الشاب الأنصارى خبيب بن عدى قال : السلام عليك يا رسول الله لقد بلغنا رسالتك وكان ذلك فى أعلى مكة، وكان النبى صلى الله عليه وسلم فى مجلسه مع أصحابه: وعليك السلام خبيب، قتلته قريش، وذلك قد يكون وحيا من السماء، نقل صوت خبيب إليه، وقد يكون من هذا المعنى، أى من أثر الحب الحقيقى، ولا يمكن أن يكون وصول صوت عمر رضى الله عنه-إلى سارية وهو يناديه: يا سارية الجبل الجبل من قبيل الوحى؛ فلا وحى بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من قبيل الصفاء النفسى، وتعلق القلوب بعضها ببعض، فقد رأى  الفاروق أن قائد جيشه سارية لو نحا بمن معه من الجنود إلى الجبل فسوف ينصرهم الله، رآه عمر بقلبه، وسمعه سارية أيضا بقلبه؛ فاتخذ من الجبل درعا له ولجيشه؛ فنصرهم الله، والذين يدعون الحب محرومون من هذه الهبة، فلا ينادى أحدهما الآخر، ولا يسمع أحدهما الآخر، إلا عن طريق المحمول.


فمع توفر وسيلة الاتصال لا يسمع أحدهما الآخر فما بالك إذا انعدمت الوسيلة بالكلية!!! إن الوسيلة إذا انعدمت، أو ضعفت لم يبق إلا القلب وسيلة، والقلب لا يخطئ السماع أبدا، فالدنيا كلها قابلة للتشويش ما عدا قلوب المحبين، لا يشوبها التشويش، فما أغنى المحبين عن وسائل الاتصالات؛ إذ قلوبهم أقوى وأصدق منها، ويزيد ذلك جمالا أنها أسرع من البرق والنت بكل ما فيه من برامج ومواقع اتصالات، فإن رأيت شخصا لا يسمعك من خلال الهاتف، أو كان فى أذنيه انسداد فاعلم أن حبه إياك دعوى فقدت دليل صدقها.