حسن حافظ
رغم تعاسة حارتنا فهى لا تخلو من أشياء تستطيع إذا شاءت أن تبعث السعادة فى القلوب المتعبة، بمثل هذه الجملة فى افتتاحية رواية أولاد حارتنا يلخص نجيب محفوظ، مفهوم الحارة الذى برع فى استخدامه، إذ تتحول الحارة هنا إلى رمز يعكس الكون الإنسانى كله، فما الحارة الصغيرة فى أحياء القاهرة القديمة، إلا مسرح تتجلى عليه الرموز الإنسانية التى نجدها فى كل مكان وزمان.
وتحولت تيمة الحارة إلى متلازمة فى الرواية المصرية على مدار أجيال، وحملتها إلى العالمية، وصارت علامة مميزة لها ومنها انتشرت إلى عدة دول عربية، إذ يحضر المكان فى هذه الأعمال كأحد الأبطال، لكن مع ذلك يتراجع عدد الروايات التى تتحدث عن الحارة ربما مع تطور الزمن والانفتاح العالمى الذى نعيشه جميعا منذ الألفية الجديدة، ما يجعل رواية الحارة تواجه تحديداً مع اختلاف الزمن وأدوات التعبير ويجعلها تنزوى بعد عقود الازدهار.
لا تُذكر الحارة المصرية فى المشهد الروائى وإلا يُذكر معها نجيب محفوظ، باعتباره النموذج الأشهر والأكثر اكتمالا فى استخدام الحارة فى القاهرة القديمة مسرحا للعديد من رواياته وقصصه القصيرة، استخدم مفردات الأحياء الشعبية فى بناء عالمه الروائى الثرى الذى عبّر من خلاله عن المجتمع المصرى كله، واستطاع عبر الانغماس فى المحلية ممثلة فى الحارة القاهرية بتفاصيلها الحياتية الوصول إلى العالمية، ورغم أنه لم يكن أول من كتب عن الحارة المصرية، إلا أنه يعدُّ الأبرز فى هذا المضمار وصاحب التجربة الأعرض والأكثر تأثيرا فى الأجيال الروائية التالية عليه فى اقتحام عالم الحارة الروائي، سواء باستيحاء عالم الحارة كما فى تجربة محفوظ لتحليل تحولات الطبقة الوسطى والدنيا فى مصر، أو حتى البحث عن بديل فى عالم المهمشين فى الأحياء العشوائية، كتوسيع لعالم الحارة فى تطوراتها على أطراف القاهرة.
وبدأت الكتابة عن الحارة بشكل روائى بعمل توفيق الحكيم المؤسس (عودة الروح) 1933، التى تدور فى إحدى حوارى السيدة زينب، حيث يسكن الفتى محسن (بطل الرواية) فى شقة مع أعمامه فى الحى الشعبى الشهير، وترك الحكيم أثره فى جميع الروائيين من بعده، إذ نجد يحيى حقى يكتب روايته الشهيرة (قنديل أم هاشم) 1940، التى تدور أحداثها فى حوارى حى السيدة زينب أيضا، وتدور فى أجواء حول العلاقة بين الشرق والغرب، والعلم والخرافة، كذلك تأثر نجيب محفوظ بالحكيم واعترف بأستاذيته، بل إن تأثير الحكيم فتح عين نجيب محفوظ على الطريق الذى سيسير فيه، وهو الأدب الواقعي، إذ ترك مشروعه لكتابة تاريخ مصر القديمة عبر عدة روايات، وبدأ فى كتابة روايات تدور فى الحارة المصرية، مستخدما نفس التيمة التى بدأها الحكيم لكنه مضى فيها قدما ورسّخها فى المشهد الروائي، فكان التلميذ الذى تفوق على الأستاذ.
بدأ نجيب محفوظ الانغماس فى الواقعية الروائية، بداية من عمله (القاهرة الجديدة) 1945، ثم انتقل إلى عوالم القاهرة القديمة، حيث عاش فى حى الجمالية الذى يعود إلى قرون عدة وكوّن طبقات تاريخية من الحكايات، فبدأ فى بناء عالمه الروائى المميز والقائم على عالم الحارة المصرية، وكانت البداية مع رواية (خان الخليلي) 1946، ثم (زقاق المدق) 1947، و(بداية ونهاية) 1949، ثم ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية) 1956-1957، وخلال هذه المرحلة ركز نجيب محفوظ على الحارة المصرية كما خبرها فى حى الجمالية وشارع المعز، ويظهر التأثر الواضح بالحارة فى عناوين روايات هذه المرحلة من حياته الروائية.
ورغم عودة محفوظ بعد ذلك إلى الحارة كمتلازمة لعالمه الروائى إلا أنه بدأ فى استخدامها على مستوى رمزي، لتكتسب الحارة معانى أوسع تعبر عن حالات إنسانية تشمل الوجود الإنسانى كله، وكانت البداية مع روايته الأكثر إثارة للجدل (أولاد حارتنا) 1958، التى استخدم فيها الرمز لعلاج قضية الوجود الإنساني، ثم عاد واستخدم رمزية الحارة فى عمله الأكثر اكتمالا من الناحية الفنية (ملحمة الحرافيش) 1977، التى تحكى عشر قصص لأجيال عائلة سكنت حارة مصرية لا نعرف مكانها ولا زمانها، وتدور فى أجواء تمزج بين الواقع والخيال، كذلك استخدام محفوظ الحارة بأشكال فنية مختلفة كما فى عمله البديع (حكايات حارتنا)، وعمله الفانتازى (ليالى ألف ليلة) 1982، وفى عدد من قصصه خصوصا قصته القصيرة الأشهر (الزعبلاوي).
وظهر منافس لنجيب محفوظ فى الكتابة الروائية عن الحارة المصرية، تمثل فى الروائى إسماعيل ولى الدين، الذى قدم مجموعة من الروايات التى تدور فى أجواء الحارة المصرية، بل وفى نفس المناطق التى كانت تدور فيها أحداث روايات محفوظ، خصوصا فى منطقة الجمالية وأحياء القاهرة القديمة المختلفة، وحقق الكثير من النجاح فى فترة السبعينيات بمجموعة من الروايات عن الحارة، منها (حمام الملاطيلي)، و(الباطنية)، و(السلخانة)، و(حمص أخضر)، و(الأقمر)، و(فتاة برجوان) التى تحولت إلى فيلم بعنوان (حارة برجوان)، وفى كل هذه الأعمال بدا واضحا تأثير نجيب محفوظ على إسماعيل ولى الدين.
استلم جيل الستينيات الراية الروائية من نجيب محفوظ، وبدأ الكثير من أبناء هذا الجيل فى التأثر بأستاذهم صاحب الثلاثية، وكان أكثرهم تأثرا الأديب جمال الغيطاني، الذى كتب رواية (وقائع حارة الزعفراني)، وقصة (وقائع حارة الطبلاوي) المنشورة فى كتاب جمع أربع قصص تحت عنوان (منتصف ليل الغربة)، بينما قدم إبراهيم أصلان تجربة روائية شديدة التميز عندما اتخذ من عالم الحارة فى إمبابة مركزا رئيسا لأشهر أعمال، رواية (مالك الحزين)، وإن فضل معظم جيل الستينيات الخروج من الحارة المحفوظية إلى فضاءات جديدة غير مكتشفة خصوصا فى المناطق والأحياء التى تتماس فيها وتتصادم الشخصيات الريفية بواقع المدينة.
ومع خفوت الحديث عن الحارة فى المشهد الروائى المعاصر، إلا أنها عادت مجددا إلى الصدارة وعرفت الحارة المصرية كيف تعبر عن نفسها فى أشكال إبداعية مختلفة، فنجد يوسف زيدان يعود ويستخدم تيمة الحارة للتعبير عن مصر كلها فى مجموعته القصصية (أهل الحي)، حيث تتحول الحارة إلى البطل الروائى الذى يجمع كل قصص العمل، بينما نجد أن الروائى محمد عبد العاطي، ظهرت له رواية هذا العام تحت عنوان (حارة عليوة سابقا)، بينما تعدُّ رواية (حارة المليجي) للروائى كمال رحيم، الصادرة مؤخرا، هى الأحدث فى سلسلة الروايات المكرسة للحديث عن الحارة المصرية، الذى سبق أن قدم رواية ملحمية عن الحارة المصرية بعنوان (المليجي) 2014.
من جهته، يحلل الدكتور شريف الجيار، أستاذ النقد والأدب المقارن بجامعة بنى سويف، مسار تطور كتابة رواية الحارة قائلا لـ "آخر ساعة": "تمثل الحارة المصرية أيقونة معرفية وثقافية فى الخطاب الروائى المصري، خاصة فى عقود الأربعينيات والخمسينيات حتى بداية السبعينيات، لاسيما فى الخطاب الروائى لعمود الرواية العربية نجيب محفوظ، الذى اعتمد كثيرا فى بنية المكان فى عوالمه السردية على الحارة المصرية، التى دعمت الشخصية المصرية لفترات طويلة بالعادات والتقاليد وثقافة الحى المفعمة بالحيوية والوطنية والانتماء، ويحسب لنجيب محفوظ أنه خرج بهذه الحارة المصرية بشكلها الهندسى المعتاد الذى يعتمد على تداخل أضلاعها إلى الحارة الكونية، أى أن محفوظ خرج من فكرة وفلسفة الحارة المصرية البسيطة إلى أن تصبح رمزا وأيقونة عالمية، فالحارة هنا هى حارة الوجود الإنسانى كله، وكأنه فلسف الحارة المصرية لتصبح مثلا للعالم كله، لتعبر عن لا وعى الإنسان المصرى بشكل عام، وذلك المفهوم للحارة المصرية انتقل إلى الأجيال التالية من الكتّاب أمثال خيرى شلبي، لأن الحارة تحولت إلى رمز لمصر بشكل عام وتعبير عن ارتباط المصرى بثقافته".
وتابع الجيار: "مع اقتراب نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادى والعشرين، وجدنا أن صوت الحارة يخفت فى الكتابات الإبداعية بشكل عام، وفى الكتابات الروائية بشكل خاص، وذلك نابع من انتشار التكنولوجيا الحديثة والعالم الافتراضى الذى هيمن على معظم الكتّاب الشباب، واتساع مفهوم الهندسة المكانية للواقع وانعكاسه على المتخيّل الروائي، فنرى أن فكرة الحارة تقلصت أمام الشارع المفتوح، فالمتخيّل تغير فى تعامله مع الحارة التى تقلصت وأصبحت قليلة للغاية ونادرة فى الكتابات المعاصرة، نتيجة رؤية الكتّاب الشباب للعالم الجديد المنفتح، لذا أعتقد أنه كلما توغلنا فى العالم الافتراضى تراجع زخم الاعتماد على الحارة فى البناء الروائي، وسنرى ما يمكن وصفه بالحارة التكنولوجية الجديدة التى ترث المفهوم القديم، وربما نرى أن المفهوم الفلسفى للحارة بحسب الاستخدام المحفوظي، وهو استخدام الحارة كرمز للكون هى نفسها بشكل جديد كما تقدمها العوالم الافتراضية".