حينما بدأت تلقي الشعر بعدما انتقلت من الصف السادس الإبتدائي الأزهري إلى صفوف المرحلة الإعدادية حيث التعمُّق في دراسة اللغة العربية إلى مواد متفرقة كالنحو
والصرف والبلاغة وغيرها ولتمكيننا أكثر وأكثر من قواعد اللغة كان لابد من دراسة نصوص شعرية ونثرية لتطبيق قواعد النحو والصرف في هذه الأبيات. مضت الأيام وبالمثل حينما بدأت أدرس اللغات القديمة كان تطبيق القواعد النحوية لها في الأمثلة الشعرية أو الجمل المأثورة، إما لشعراء، أو فلاسفة، أو لخطباء مفوهين. أمثال كاتوللوس (Catullus)، أو شيشرون (Cicero)، أو أوفيد (Ovid) أو سينيكا (Seneca)، أو حتى فيرجيل (Virgil) من خلال جمل بسيطة نستطيع من خلال ترجمتها – من اللاتينية إلى الإنجليزية، ثم العربية، أو اليونانية القديمة – أن نقوم بتطبيق القواعد النحوية وأيضاً فهم معاني الكلمات. هنا قابلت للمرة الأولى كاتوللوس من خلال نص نثري له يخاطب فيه محبوبته، قائلا:
Vale, puella!
Puellapoetam non amat. Vale, puella! Catullus obdurate; puellaminvitam non rogat.
وداعاً، يا فتاة!
الفتاةُ لا تحبُّ الشاعرَ. وداعاً، يا فتاة! كاتوللوس قوياً؛ لا يطلبُ فتاةً غير راضيةٍ.
من الوهلة الأولى تستطيع لمس الحزن في نبرة الشاعر، الذي كتب عنه في مقدمة الكتاب أنه شاعر رومانسي أفنى حياته في حب محبوبته «كلوديا» (Clodia) أو كما قام بتعريفها دوماً بإسم «ليسبيا» (Lesbia)، التي أحبها بمجرد أن رأى وجهها للمرة الأولى حينما وصل إلى روما.يذكر لنا المؤرخ الروماني هيرونيموس (Hieronymus) في حولياته سنة ميلاد كاتوللوس بأنها عام 87 ق.م. كما يحدد لنا توقيت وفاته بأنه عام 57 ق.م.
ولكن أخرج لنا الباحثون إشارات من أبيات كاتوللوس الشعرية تدل على أنّه كان لا يزال على قيد الحياة وقت العام 55ق.م. وبالتالي يرون بأن التاريخ الأنسب لوفاته هو عام 54ق.م.
وُلِدَ شاعرنا في مدينة فيرونا الإيطالية الواقعه جنوب جبال الألب. لأسرة ثرية مرموقة، وكان والده صديقاً شخصياً ليوليوس قيصر – الذي اعتاد دوما وأحبّ أيضاً أن يقيم في بيت والد كاتوللوس كلما زار المنطقة. ترجع أهمية كاتوللوس في الشعر الرومانى أنه قاد فريق التجديد، محاولا الخروج عن عباءة السلف وتقاليدهم الصارمة، التي كانت تقتضي دوماً التغني ببطولات القدماء، والأساطير، ومعجزات الآلهة. كان يرى هو ومجموعة أخرى من العقول وأبرز الخطباء السياسيين الشبان في ذلك الوقت، أمثال؛ ماركوس كاثيليوس (Marcus caeliua)
وهو أحد الأشراف الذي أصبح فيما بعد شيوعياً. بالإضافة إلى ليثينيوس كالفس (LiciniusCalvus) الشاعر النابه والقانوني الضليع إلى جانب هلفيوس كينا (Helvius Cinna) الشاعر الذي كاد الغوغاء من أنصار أنطونيوس أن يحسبونه أحد قتلة قيصر وينهالون عليه ضرباً حتى يلقى حتفه.كانوا يرون أه لابد من بزوغ فجر أوزان جديدة تتغنى بألفاظ عذبة تُلهب عواطف الشباب؛ على طريقة كاليماخوس (Kallimachos) وصافو (Sapppho) شعراء الأسكندرية – اللذين نقل كاتوللوس بعض أشعارهم إلى اللاتينية. جاعلين شعارهم «الفن للفن» كما كانت رؤيتهم للشعر جمالية فى المقام الأول.
نسنطيع القول بأريحية تامة أن هذه المجموعة التي تم إطلاق اسم الشعراء الجدد عليها، كانوا ناقمين على أوضاع عصرهم الملىء بالحروب
وكانوا يعارضون قيصر ويوجهون له كل ما تسعفهم به عقولهم من نكات لاذعة، غير مدركين أن تمردهم هذا على الدرب الذى سار عليه سابقيهم، إنما هو تعبير عن الثورة التي يعيشونها. نادوا أيضا بقدسية الغرائز، وبراءة الشهوات، وعظمة التهتك، والانغماس فى الملذات. في حين أن هؤلاء الأدباء لم يكونوا أسوأ من أدباء جيلهم المعاصرين أو حتى الجيل الذي يليه: أمثال أوفيدOvid)،)وتيبولُّسTibullus)،) وبروبرتيوسPropertius)،) وحتى فرجيل الخجول في أيام شبابه. الذين جعلوا الشعريدور حول كل إمرأة متزوجة، وغير
متزوجة تقدم لربات شعرهم حباً سهلاً عابراً.
أحبّ كاتوللوس كلوديا أو ليسبيا (ليزبيا) كما كان يسميها في قصائده، منذ أن رآها للوهلة الأولى حينما وصل روما في الثانية
والعشرين من عمره. حيث اعتاد حكام الولايات في ذلك الوقت العمل على اصطحاب أحد المؤلفين معهم، ولكن كايوس مميوسCaius Memmius)،) قرر أن يصطحب معه شاعراً له من المنزلة والمكانة ما يجعله يتنقل فى قصر قيصر كيفما شاء، كان هذا الشاعر هو كاتوللوس. فى الحقيقة لقد درس كاتوللوس شعراء الأسكندرية فى الفترة الهيللينستية، وأيضاً شعراء أيونيا الأقدمين – فأتقن ما يمتاز به شعر كاليماخوس من عبارات سهلة وأوزان متعددة، وما في شعر صافو من قوة وإتجاه مباشر نحو الغرض، وما في شعر أرخلوكس من خمريات قوية،
وما في شعر أناكريون من حب ونشوة – دراسة جعلت أحد الباحثين يتطرق إلى القول: بأنه إن كنت تريد دراسة هؤلاء الشعراء؛ فإنه يكفيك دراسة كاتوللوس الذي نقل نفسه من مجرد تلميذ لهم إلى منزلة متساوية معهم؛ حيث قدّم كاتوللوس نهضة في الشعر اللاتيني مماثلة لما فعله شيشرون في النثر اللاتيني. هنا قابل محبوبته،
والتي كان الجميع يتخذ من عتبة دارها مقصداً، فقد سحرت أفئدة الجميع بحسنها ومن بينهم كاتوللوس، الذي كان يدعوها «إلهته المتألقة ذات الخطوة الرشيقة». ولما أصبح من مريديها
لم يستطع أن يُضارب في ميدانها سوى بالشعر، الذي لا يعرف سواه، فوضع تحت قدميها أجمل ما في اللغة اللاتينية من قصائد غنائية. حتى أنّه أصابته الغيرة من الطائر الذي تضمّه لصدرها فأنشد في ذلك قائلا:
أيها الطائر، يا بهجة حبيبتي
التي تلعب معك وتضمك إلى صدرها
والتي تمد لك سبابتها إذا طلبتها
وتغريك بأن تعضها عضة قوية
لست أدري أي دعابة لطيفة يلذ لحبيبتى الوضّاءة
أن تداعب بها أمنيتى.
صار الإفتتان بها فترة من الزمن غير معروف مدتها، لكن المؤكّد فى هذه المدّة أنّه نسى كل شيء ما عدا حبّه وافتتانه بها. حتى قررت أن تخونه كما خانت زوجها من قبل معه، ورمت نفسها في أحضان عاشق آخر، حتى أنه في لحظة من لحظات جنونه عبّر كاتوللوس عن هذا الوقت قائلاً أنّه تخيلها فى أحضان ثلاثة آلاف عاشق مرة واحدة. وعبر عن ذلك بقصيدة Amo Keats. إلى جانب أن كاتوللوس دوماً ما يجعل نفسه موضوع شعره – لذلك يمكنك دوماً تقفى آثاره
ومعرفة أحواله المتقلبة – فإنه كان يجد في استخدام الألفاظ البغيضة تلذذاً – معللاً ذلك بأنه يجذب انتباه المستمعين – كان أيضاً لديه نبل من نوع خاص فى اختيار ألفاظ تدل على الفرح؛ مثلما أنشد في عُرس صديق له ما يقول فيه بأنه يحسده على ما يتيحه له زواجه من صحبة طيبة صالحة، وبيت آمن مستقر
ومتاعب سعيدة هي متاعب الأبوة. كما أنشد أبياتاً واسى بها نفسه وودع بها أحد أصدقائه أمام قبره قائلاً:
أيها الأخ العزيز لقد تنقلت في كثير من الدول
وجبت البحار
وجئت لأقدم لك هذا القربان المحزن
وأهدى إليك آخر ما يهدى إلى الأموات
تقبل هذه الهدايا التي تبللها دموع الأخوة
ووداعاً يا أخي إلى أبد الدّهر.
أقام في آسيا بعد ذلك، وتأثر بأديان الشرق القديمة، واحتفالاته، ووصف الموت في قصيدته أتيس Atys؛ بأنه «سبات الليل الأبدي». وتقع أكبر قصائده في 408 بيتاً فى ملحمته الفنية عن حفل زواج البطل بيليوس، بحبيبته أميرة ربات البحر ثيتيس، كما ضمّن هذه الملحمة أسطورة أريادنه التى هجرها حبيبها ثسيوس.
كما قص في قصيدته بيليوس وثيتيس Peelus and Thetis، فى شعر سداسى حلو النغم ما لا يكاد يضاهيه شعر فرجيل نفسه؛ قصة بيليوس وأرديانى، حيث ابتاع يختاً صغيراً طاف به البحر الأسود، وبحر الأرخبيل، والبحر الأدرياوى وسار صاعدا نحو بيته بعد أن وصل بحيرة جاردا
. وهناك أخذ يتساءل:
«هل ثمة سبيل للفرار من متاعبنا،
فنعود إلى مواطننا الأولى ومعابدنا؟
وأن نستريح فوق فرشنا المحببة.
إنّ الناس يبدأون حياتهم بالبحث عن السعادة
ثم يقتنعون آخر الأمر بالسلام.»