بقلم: إيهاب فتحى
قبل أيام شاركت فى جولة تفقدية لمركزالإصلاح والتأهيل بوادى النطرون التابع لقطاع الحماية المجتمعية بوزارة الداخلية وشارك فى الجولة عدد من ممثلى البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية والمجالس الحقوقية ولجان حقوق الإنسان بمجلسى النواب والشيوخ وعدد من الإعلاميين ومراسلى الوكالات الأجنبية.
تم تشييد هذا المركز فى مدة لا تتجاوز 10 أشهر وبتكلفة مالية لن تتحملها موازنة الدولة بواقع أن هذا المركز وما سينشأ مثله مستقبلا ستتم تغطية عملية الإنشاء من القيمة الاستثمارية لأراضى السجون العمومية التى ستغلق عقب إنشاء هذه المراكز.
عندما تبدأ عملية التشغيل الكاملة لمركز وادى النطرون سيتم إغلاق 12 سجنًا مما يمثل نسبة 25% من السجون فى مصر، فى مركز وادى النطرون نحن أمام منظومة وفلسفة عقابية مختلفة لم تشهدها الدولة المصرية طوال تاريخها الحديث.
داخل المركز 6 مناطق للاحتجاز مصممة وفق المعايير الإنسانية التى تعطى مفهومًا مختلفًا لفلسفة العقاب فتوفر أجواءً مناسبة من حيث درجات التهوية والإنارة وأماكن لممارسة الشعائر الدينية وفصول للعملية التعليمية والقيام بالهوايات وملاعب وساحات رياضية ومراكز للتدريب المهنى والفنى التى تضم مجموعات من الورش المختلفة.
بالانتقال لمنطقة التأهيل والإنتاج فيها مناطق الصوب الزراعية، وزراعات مفتوحة وإنتاج الثروة الحيوانية، غير جزء صناعى به ورش إنتاجية وتتولى منافذ بيع ملحقة بالمركز بيع المنتجات أو بيعها فى المعارض التى يتولى تنظيمها قطاع الحماية المجتمعية بوزارة الداخلية ويكون عائد هذا البيع لصالح النزيل فى المركز إما يوجهه لأسرته التى يعولها أو يحتفظ به لحين انتهاء فترة العقوبة ليكون مدخرًا ماليًا يعينه بعد الخروج من المركز.
بالتأكيد لم يغفل مركز بهذا الحجم وهذه الفلسفة العقابية المتطورة وجود مستشفى مركزى مزود بأحدث الأجهزة الطبية وكافة الأقسام العلاجية من حالات الطوارئ إلى عيادات الطب النفسى وعلاج الإدمان.
أما مجمع المحاكم المنفصل إداريًا عن المركز فبه 8 قاعات حتى تتم إجراءات المحاكمات دون عناء الانتقال مع توفير الأجواء العادلة والأمنية أثناء إجراء المحاكمات، وتم تخصيص مناطق كاملة لزيارات أهالى النزيل ويتم اصطحابهم إلى هذه المناطق بالحافلات مع توافر كافة الإجراءات الاحترازية الصحية وأيضًا الإجراءات التأمينية.
أعطت الجولة صورة كاملة حول هذه المنظومة العقابية المتطورة وكيف ستدار والأهداف الهامة التى ستحققها للمجتمع، لكن خلال هذه الجولة كان يجب أن يطرح العقل بعض الأسئلة لماذا انتقلت الدولة المصرية من مفهوم عقابى سائد ومازال مطبقًا فى أغلب دول العالم ومنها دول تحسب فى عداد الدول المتقدمة إلى هذا المفهوم المتطور؟ وكيف حدث هذا التطور؟ وهل حضر فجأة فى فكر الدولة المصرية ؟ والسؤال الأهم كيف طورت الدولة من وظيفتها كسلطة سياسية مطالبة بإقرار مبادئ القانون عن طريق وسائل العقاب القانونى لحماية المواطن إلى سلطة طورت من نفسها وعلاقاتها بجزء من مواطنيها خرجوا عن القواعد القانونية؟
للإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نعيد دراسة مراحل تطور فكر الدولة المصرية وفلسفة إدارتها لمفهوم الدولة وعلاقاتها بمواطنيها خلال العقد الماضى، ويجب أن ترتبط الإجابة بطبيعة الحراك التى شهدته الأمة المصرية لأن مركز وادى النطرون هو أحد نتاجات تطور هذا المفهوم فى إدارة الدولة والحراك الذى شهدته الأمة.
يمكن أن نطلق على المرحلة الأولى من تأسيس فكرالدولة المصرية الحديثة أنها مرحلة الترقب والبحث عن إجابة وكانت بدايتها مع اندلاع أحداث يناير ففى تلك المرحلة بدأت الأمة تترقب وتبحث عن مفهوم مختلف للدولة بعد أن فقد مفهوم الدولة ثباته مع العنف الذى انفجر فى الشارع وظهور القوى الظلامية ممثلة فى الفاشية الإخوانية التى كانت بكل الطرق تريد فرض سلطتها الشريرة ليس على الدولة فقط بل على الأمة المصرية بأكملها.
فى المرحلة الثانية كان الفعل بالكامل للأمة المصرية وطليعة شعبها من القوات المسلحة عندما تحركت جماهير الـ 30 من يونيو وقامت بثورتها المجيدة لتستعيد الدولة من سطوة قوى الظلام والفاشية، وتبدأ جماهير يونيو مع الطليعة من القوات المسلحة والقيادة السياسية التى اختارتها بإرادتها الحرة فى العام 2014 فى رسم خارطة طريق لمفهوم الدولة الحديثة التى طالبت بها جماهير يونيو بعد خوف العنف وضبابية المستقبل الذى خيم على مقدرات هذه الأمة خلال عامين بدءًا من أحداث يناير ويعتبرا الأخطر والأشد مصيرية فى التاريخ المصرى الحديث حتى قيام ثورة يونيو المجيدة.
لايمكن تصور رسم خارطة الطريق للدولة الحديثة والأهم تطبيق هذه الخارطة كان سهلا أوهينًا والأحداث التى تثبث حجم التحديات والمصاعب التى واجهتها الدولة المصرية والقيادة السياسية التى تولت إدارة دفة التطبيق ليست بعيدة عن الذاكرة المصرية المعاصرة، وكان على رأس هذه التحديات والمصاعب مواجهة إرهاب الفاشية الإخوانية المدعوم بقوى الاستعمار القديم والحديث وتصدى لهذا الخطر الفاشى الأسود طليعة الشعب المصرى من رجال القوات المسلحة والشرطة.
رغم هذا التصدى وأرواح الشهداء التى ارتقت من هؤلاء الرجال الأبطال والدماء التى بذلت إلا أن الدولة المصرية والقيادة السياسية التى تولت إدارة دفة التطبيق لم تتخل عن مطالب الأمة وجماهير يونيو فى إنشاء الدولة الحديثة، فكانت معركة دحر الإرهاب تدور بكل شراسة على كافة الجبهات وفى نفس الوقت تتم عملية بناء الدولة الحديثة على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما استلزم من الدولة المصرية فى هذه المرحلة الثانية أن تكون فى حالة استثنائية وانتباه من أجل مواجهة دناءة الإرهاب و حماية عملية البناء التى لم تتوقف ولن تتوقف.
استطاع الرجال الأبطال من طليعة هذا الشعب من قواته المسلحة وشرطته إخماد أصوات التفجيرات والتصدى لرصاصات الغدر بصدورهم قبل أن تنال من هذا الوطن والمواطن، استطاعوا فى سنوات المصير تحقيق الانتصار على الإرهاب الفاشى وعلى الفاشيست ويعطون للدولة المصرية مفتاح الخروج من حالة الاستثناء إلى رحابة مستقبل آمن مطمئن ..لكن دون أن تتخلى عن موقف الانتباه.
لم يستشعر الكثيرون وسط انشغالات اليوم العادى الآمن الذى صنعته أرواح شهداء ارتقت ودماء بذلت أن المرحلة الثالثة فى تطور مفهوم الدولة المصرية الحديثة بدأت بالفعل وهى مرحلة التطبيق ولم تعد الخارطة مجرد خطوط وإحداثيات بل هى تطبيق حى لقرار هذه الأمة، ويعمل هذا التطبيق بكامل طاقته ويعطى منجزه وثماره فى صباح كل يوم متحررًا من خوف إرهاب دنيئ أو مستقبل مهتز فى صورته .
ماكنت أراه فى وادى النطرون كان أحد منتجات هذا التطبيق الذى تصنعه ماكينات الدولة المصرية الحديثة فى كل يوم ويعطى الإجابة على كافة الأسئلة التى طرحها العقل حول الانتقال والتحول فى مفهوم إدارة الدولة المصرية وعلاقاتها بمواطنيها لكن مركز وادى النطرون كان يجيب على جزء خاص مرتبط بتطور مفهوم استخدام السلطة العقابية التى تمتلكها الدولة فى مواجهة الخارجين عن القانون.
تعطى منجزات المرحلة الثالثة أو مرحلة التطبيق صورة أكثر شمولا لمفهوم الدولة المصرية الحديثة الذى يعمل الآن باستقرار وثبات فقبل وقت قليل أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسى إلغاء حالة الطوارئ وقبلها أطلق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وقبل هذا كانت تتم أكبر عملية تحول مجتمعى فى تاريخ مصر الحديث حيث اتجهت قوة الدولة المصرية الحديثة إلى الطبقات المحرومة والهشة لتعطيها أكبر قدر من الرعاية لتتم عملية هى الأضخم فى تطوير العشوائيات وتطبيق حزمة من قرارات الرعاية الاجتماعية ونظام شامل صحى كان على رأس نتائجه إنهاء آفة فيروس الالتهاب الكبدى الوبائى الذى نهش أجساد المصريين على طوال تاريخهم.
لم تكتف قوة الدولة المصرية الحديثة بتطوير ورعاية هذه الطبقات التى تشكل كتلة كبيرة داخل حزام المدن، ولكنها قررت خوض التحدى الأكبر فى تاريخ مصر القديم والحديث وهو الاتجاه إلى قلب مصر ومخزونها الحضارى إلى الريف المصرى لتطبق بكل جدية وتعطى رعاية وخدمات الدولة الحديثة للريف من خلال مشروع تنمية الريف المصرى.
نحن نجنى الآن ثمار كفاح هذه الأمة وثورتها فى الـ 30 من يونيو وعلى رأس هذه الثمار الدولة المصرية الحديثة وتطورها المستمر ونرى منجز هذا التطور فى كل يوم وهو تطور جذره الحضارى يمتد فى أرض هذا الوطن، لأنه قرار مصرى خالص ومشروع وطنى مستقل وأصدرت القرار ورعت المشروع الأمة المصرية دون وصاية من أحد وبإرادة حرة.