حكايات الحوادث| يحسبونه هينًا

يحسبونه هينًا
يحسبونه هينًا

أؤمن بالنصيب، وكثيرًا ما أخاطب الله وأشكره فى السراء والضراء، لكننى لست ممن يحلمون بمستقبل تعجز الظروف المحيطة عن تحقيقه، أو ممن ينقمون على مجتمعهم فيذكرون مساوئه ويتركون محاسنه، أنا راضٍ بقلة حيلتى، وهوانى على الناس.


لكن رغم كل هذه المثالية والضعف، إلا أن هناك أمرا يقتلنى فى غربتى كلما تذكرته، استولت الدموع على عينى، وارتفع صوت تنهيداتى فغلب نحيب بكائى.

هذا الأمر جعلنى سنوات أبحث عن قلب قوى ولسان لا يهاب، أحتاجهما فى مهمة صعبة، ساستخدمهما لإطفاء أمل سكن قلب وجوارح رجل ثمانينى تنبأ وحلم بمستقبل باهر لابنه، ولكن فى الحقيقة التى لايعلمها هو لم يتحقق منه شيء.

نعم، أقولها وبصراحة، أنا عاجز اليوم، أصبحت كالطفل الصغير الذى لا يستطيع أن يخبر والديه عن نوع من الحلوى محظورة عليه شراؤها، خشية غضبهم منه، فلست قادرًا على إخبار أبى حقيقة ما ينتظره، أعلم بمجرد نطقها له ستطمس أحلام سكنت جوارحه، وستتحول فى لحظة واحدة الى أمراض تكتب نهايته .

هنا فى غربتى لا أتحدث عن مستقبلى، فقد علمت النتيجة وقرأتها جيدا منذ أن قدمت أوراقى الى أكثر من هيئة للتعيين بها، راسبًا ولا أمل لك، ما حلمت به أصبح سرابًا، اعترف أننى كنت جزءًا من هذا الرسوب، والمجتمع له نصيب أيضًا، كلنا مخطئون، ولكن ما ذنب ذلك العجوز يموت قهرا!؟ .

أنا شاب من الريف «الجوانى» ، أبى وأمى «اميين» ولدى ثمانية من الأخوة، اعتدت منذ صغرى على التفوق، عزلت نفسى فى حجرتى، من المنزل إلى المسجد، آثرت العزلة فى شخصيتى، أصبحت أهاب البشر، لا أميل إلى العنف، ضعيفًا، راضيًا بحالى، يسيطر على الرجل القوى بصوته المرتفع، وأبكى حزنًا وعجزًا عن عدم قدرتى على نصرة الضعيف وقليل الحيلة.

تفوقت فى دراستى، وسط كل هذا كان أبى يحلم بمستقبل باهر لى، كان قبل أن يذهب إلى العمل، يطلب من الجميع ألا يزعجونى، وعندما يعود يحتضننى كلما شاهدنى أذاكر، يذهب إلى بائع الفاكهة ليلا، يحضر لى القليل من «بلح الزغلول» الذى أحبه ، يخبئه فى «سيالة جلبابه» يعطى أشقائى القليل منه، ثم يحتجز الجزء الأكبر لى.

لم يسمح لى أبى بالعمل فى الزراعة، كان يخشى على من التعب، فقد ولدت بحساسية مفرطة، والأتربة قد تكتب نهاية حياتى فى أى وقت، لكن بعد فترة شفيت منها وعدت إلى طبيعتى، ورغم ذلك مازال أبى يعاملنى برفق.

تفوقت فى دراستى، لكن لم يمهلنى القدر كثيرا، مرضت فى المرحلة الثانوية، لا أعرف ما سر هذا المرض، فجأة كرهت المذاكرة، أدرت ظهرى للعلم، أصبحت تائهًا فى الشوارع ابحث عن المرح، عن الشجار مع الشباب مثلى، تحول هدوئى إلى عصبية، لم يتحملنى أحد فى المنزل أو فى القرية، أصبحت فى نظرهم «الواد الخايب».

وسط كل هذا الضياع كان هناك شخص آخر، لم يسئ لى، ظل أبى يراقبنى، يحاول ان يفسر ماذا حدث، كيف فى ليلة وضحاها أصبحت غير عابئ بالدراسة، أخذ يتحدث مع مشايخ القرية، يشرح لهم حالتى، يقول لهم إن ابنه المتفوق لم يعد يذاكر، أصبح يكره المدرسة، لايريد أن يذهب إليها، تحول إلى متشرد فى الشوارع لا يحب الجلوس فى المنزل، حتى جاء اليوم الذى وجدته يدخل على مسرورا، أخبرنى أنه ليس حزينا بما أفعله، هو يدرك أن هذه مرحلة وستنتهى، ثم طلب منى أن أرتدى جلبابى، وأذهب معه الى دجال فى قرية مجاورة لنا.

تحركت بصحبة والدى فى الثانية صباحا ، لم يكن هناك قدم تسير فى شوارع القرية سوانا، كنت خائفًا مرعوبا، فقد أخبرنى أبى أن هذا هو طلب الدجال، أن نأتى فى هذا الوقت

وصلنا إلى مخبئه السرى فى إحدى الزراعات، قام الدجال بنشر تعاويذه وبخوره، ودون بعض الحروف فى ورقة، وطلب من أبى أن يضعها فوق كأس مملوء من الماء ثم يقلب الكأس والماء بداخله ويضعه تحت فراشى لمدة أسبوع.

كنت استغرب كيف لا تسقط المياه من الورقة؟، ولماذا تقل فى الكأس يومًا عن الآخر، لكن أبى لم يكتف بذلك، بل أحضر مشايخ القرية، ظلوا يقرأون على آيات من القرآن، أيام وأنا أستقبل حفظة القرآن فى منزلى، حتى هدأت وعدت الى رشدى، أمسكت الكتب وذاكرت ولكن فات الأوان، حصلت على مجموع معقول فى السنة الثالثة، وقتها لم أقرر أى كلية يجب ان أدخلها، وفجأة وأنا أفكر، وجدت أبى يدخل على مسرورا، قال «سألت الكثير من شباب القرية، أخبرونى أن هذه الكلية هى التى تستطيع أن تضمن لك مستقبلا باهرا، تنفع أشقاءك وعائلتك، حاولت أن اشرح لوالدى أن هذه الكلية العريقة لا يكتفى التعيين بعد التخرج على المجموع فقط، بل تحتاج الى «واسطة» ويجب أن يكون شخصا مرموقا ذو مسئولية وظيفية كبيرة فى المجتمع، لكن أبى اكتفى بكلمة واحدة «اتركها لله».

مرت سنوات الكلية سريعا، اجتهدت فيها على قدر كبير، حصلت على تقدير معقول، هلل أبى، وبدأ يرسم الحلم معى، ولكننى كنت عند وجهة نظرى، الحلم صعب، ورغم ذلك كنت ابتسم كلما وجدت أبى يحلم معى، كنت أراه مثل الطفل الذى يسعد كلما تذكرمناسبة سعيدة قادمة، عشت معه أحلامه وتمنيت ان يتحقق ولو جزءا صغيرا منها، حتى يسعد ذلك العجوز قبل أن يفارقنا.

جاءت اللحظة التى انطفأ حلمى فيها، أدركت ان الأمر كما قرأته كان صحيحًا، لا أمل لفقير مثلى، ولا حلم سيتحقق مهما كانت الرؤى والأمنيات، تقدمت بأوراقى مثلى مثل الآلاف من أبناء دفعتى، اجتزت الاختبار، ولكن خرجت النتيجة دون اسمى.

وسط كل ذلك لم يكن يعلم ابى بشىء، مازال يحلم، ويمنى نفسه بأن أكون منقذ العائلة وفخرها، قررت أن اتقدم الى جهة أخرى، دخلت المقابلة اجبت على كل الاسئلة، لكن بعد عامين لا جديد، خرجت النتيجة بدونى، كل ذلك وابى لا يعلم ماذا يحدث، كلما سألنى أخبره أن النتيجة لم تظهر بعد، كنت أمنى نفسى أن تقبلنى أى جهة من هذه الجهات، حقيقة توقفت عن الحلم منذ أول اختبار لى ، لكننى كنت اتحدث مع نفسى كثيرا، أما آن لهذا العجوز أن يفرح، دخلت امتحان الجهة الثالثة والرابعة، وأدركت من المقابلة أنه لا أمل لى.

قررت أن اسافر بعيدًا، أن ابتعد عن أحلام ابى، أحاول ولو قليلًا، اتجنب أسئلته عن النتيجة، أعلم أن الأمر سيكون صعبًا له، فرغم فقره إلا أنه لم يشعرناً يومًا أننا قليلون، دائما ما كان يتفاخر بأبنائه أمام الجميع، كان أبى يحاول ان يزرعنى وسط اشقائى لأكون لهم السند فى الدنيا، كثيرًا ما تمنى وحلم وسعى لأكون الأفضل، لكننى لم أكن على قدر حلمه وأمنياته، لست انا فقط بل المجتمع ووحشيته وظلمه.

سافرت الى دولة عربيةَ، لم انظر ماذا سأعمل؟، فقط أردت أن اذهب بعيدا، لا أريد أن أشاهد اللحظة التى أخبر فيها ذلك الفلاح البسيط الحالم الطموح بنتيجة ما ينتظره، أنا أعلم قسوة ذلك، فقد خاب مسعاه، ولم أعد السند الذى أراد أن يتكئ عليه اشقائى.

أنا هنا أعمل مندوبًا للمبيعات، أحمل على ظهرى واتحرك فى الأسواق، أنا راضٍ بهذا العمل، وأريد أن استمر لسنوات هنا، رغم أنه لا يليق بى، فكم كنت نزيها رغم فقرى، وكم كنت مدللاً من أبى رغم كثرة أشقائى، لكن كل ذلك يهون، مقابل إلا أرى دمعة أو حزنًا أو عجزًا أو قلة حيلة فى رجل حرم نفسه من أجلنا.

لن استطيع أن أخبره بحقيقة ماينتظره كما يريد الجميع ذلك، هو الآن مريض، ورغم ذلك مازال يقاوم ويحلم، يخبرنى كلما هاتفته بكلمات تقطر دما «نفسى اشوفك سند لاخواتك.. نفسى افرح بيك قبل ما أموت» هذه الكلمات تقع على كالدهر، والله تمنيت أن أموت قبل أن اسمعها.

أعلم أن المرض قد التهم جسده، وأصبح غير قادر على الحركة ، لكنه مازال يخبرنى أمنياته كلما تحدثت معه، وأنا اطمئنه، اختلق له المبررات، أخبره أن « النتيجة لم تظهر بعد، وأنه سيتحقق حلمك لا تقلق، وسأكون سند لاخواتى».

الكل يريد منى أن أخبره، يحسبونه أمرًا هينًا بالنسبة له ولى، لا يدركون حجم الأحلام التى رسمها ذلك العجوز معى، فقد كان كالطفل يتراقص بأحلامه ويتغنى بها، دائمًا ما كان يتمنى أن أكون السند، لكن هذا الأمر لم يتحقق فعليًا، خرجت نتيجة الجهتين الأخرتين و لم يرد اسمى فيهما.

منذ أيام تواصل معى ابى، كان يتحدث بصعوبة ، أعلم أن المرض أوشك على تحقيق مراده، فقد وهن قلبه، واسودت عيناه، هذه المرة لم يحدثنى عن مستقبلى، ولم يسألنى عن النتيجة وماذا حدث؟ .

لكننى وجدته يوصينى بأشقائى، كانت كلماته محددة لى «سيختار الله لك مستقبلًا عظيمًا، فقط أدعوه، وسيستجيب لك « ثم ودعنى».


شعرت بالقلق عليه، لكن شقيقتى اخبرتنى أنه قوى، وهو غير قادر على سماع أى أخبار سيئة، لذلك قررت أن أحتفظ بخيبة أملى لنفسى، ولا أرهق جسد وعقل العجوز بها، فقد أكون سببًا سريعًا فى فراقه، فاتحمل الذنب طوال حياتي.


رسالتى لك أبي.. عش هنيئا، انت تستحق كل شيء فى هذه الدنيا، رغم اميتك وفقرك، لكنك لم تحرمنا من شيء.


أحلامك لى قد تتحقق بصور كثيرة، فالمال والسلطة لايجلبان سعادة، وأعدك أننى سأكون لاشقائي، وسيتحقق حلمك، لذلك كن معنا ولا تفارقنا.

 

كن مطمئنا

سيدي، حديثك معى كان حزينا، لمست الضعف والعجز وقلة الحيلة فى كل كلمة ذكرتها لى، أعلم أن كل هيئة تقدمت لها بأوراقك لها معايير كثيرة للاختيار، ومعايير أخرى لانعلمها.


لكن لاداعى للهروب، كن بجوار والدك، اخبره دائما انك السند لاشقائك، هو يريدك سندًا لا أكثر، فكن كذلك، وانتظر حتى يتماثل للشفاء وأخبره بحقيقة ماينتظره، واشرح له الأسباب، وقتها سيتقبل الأمر بصدر رحب.

إقرأ أيضاً |وزير الأوقاف: احذروا الخوض في الأعراض