هيثم مصطفى
منذ الصغر ونحن نستعجب صوت كونسير للقانون وهو يعلن عن الآذان في التلفزيون، وكأن القانون في ضرباته يكاد أن يقول الله أكبر الله أكبر، وللعجب أن مثل هذه الموسيقى قد سمعنا بصمتها في فيلم فجر الإسلام، وكذلك سمعنا نفس البصمة في أكثر من فيلم تسجيلي عن التراث الإسلامي، ولا ننسى موسيقى الأفلام التي تدور بحواري مصر القديمة كالسيدة زينب والحسين وغيرها في أفلام قنديل أم هاشم وشباب إمرأة، فتجدنا نتجول بأرواحنا ونحن نتلقى ما تبدعه قريحة هذا الموسيقار العملاق، الذي تنوع فنه ما بين التفخيم الجاذب لألبابنا كما فيلم الناصر صلاح الدين وفيلم رد قلبي، وكذلك موسيقاه الرومانسية الراقصة في أفلام مثل أميرة حبي أنا، وخلي بالك من زوزو، وموسيقى زمن الملكية بفيلم بمبة كشر، وبديعة مصابني، وشفيقة القبطية، وموسيقى المأساة مثل بداية ونهاية، خان الخليلي وباب الحديد، وعن الوطنية مثل بورسعيد وفي بيتنا رجل.
هو فؤاد جرابيد بانوسيان، مصري مسيحي من أصل أرمني ولد في 15 أكتوبر 1916في حي الظاهر (الذي تلقب به عوضًا عن اسمه الأصلي)، وبالبحث عن تاريخه الشخصي سنجد أنه من الصعب العثور حتى على صورة شخصية له، إذ اختلف الناس على أن الصورة المتداولة على الإنترنت إن كانت له أو للموسيقار اليوناني العملاق أندريا رايدر (الذي كان بدوره مؤلفًا للموسيقى التصويرية الخالدة)، إذ عُرف عنه إنطوائيته الشديدة، وبعده التام عن الأضواء، إذ لم يكن إجتماعيًا على الإطلاق.
درس الظاهري في الفرير وتخرج منها ليتلقاه أستاذه في الموسيقى قسطندي خوري الذي لقنه الكمان، ليدرس بمعهد فؤاد الأول للموسيقى على يد البولندي أليكسندر كونتروفيتش فيعمل بعدها مدرسًا للأناشيد بوزارة المعارف.
وجاءت فرصته الحقيقية بنقله للعمل بمعهد الفنون المسرحية، مسجلًا أعماله الإذاعية بكونسير القانون والكمان، إذ عمل جاهدًا على عمل توافق بين موسيقى القانون والأوركسترا ليصنع لنا مقطوعات موسيقية وتابلوهات تصويرية لا توصف مثل لوحة قافلة الحجاج، والمولد، وفاء النيل.
ومن المثير للدهشة هو إبداعه لإعطاء الطابع الديني المميز للصورة الوجدانية في المناسبات الدينية، فنجده يخرج لنا طاقات من النور فيها، فتحسبه بها أحد الدراويش أو المريدين، ليجعلنا نخشع لضربات القانون السريعة بحالٍ يدهشنا وهو الأرمني المسيحي، إلا أنه رغم كل هذا أعطانا الشعور الطاغي بالإيمان، بل أبدع في أن وضع موسيقى عزف القانون في الأعمال الدينية.
وبعد محاولات لحصر أعماله التي تعدت الثلاثمائة قطعة موسيقية مختلفة قضاها عبر مشواره الفني الحافل بالأعمال، وجدت رغم كل شيء أنه لم يكن له لقاءً تلفزيونيًا أو إذاعيًا واحدًا، إذ بقى دومًا راهبًا لعمله، مقلًا تمامًا في الظهور، فلقد عاش لفنه ولعمله ولفكره، ورحل في صمت، ولم يكن يريد منا سوى أن نستمتع بما أبدعه من مقطوعات تتفرد في قمة التنوع والخلود، خلودًا يجعلنا نبكي شوقًا وحنينًا، ليرحل في صمت بعد صراع مع المرض في 1أكتوبر 1988.
و..
والله زمان يا فن!!