شرق وغرب

لماذا فاز عبدالرزاق قرنح بجائزة نوبل في الأدب؟

أليكس شيبرد
أليكس شيبرد

أخيرًا بعد سنوات من فشل توقعاتي حول جائزة نوبل للأدب، وفي بعض الحالات كان الفشل ذريعًا، أعلنت الأكاديمية السويدية، فوز عبدالرزاق قرنح، الروائي والناقد الأدبي الزنجباري البريطاني، بجائزة نوبل لـ«لإحاطته المثابرة والرحيمة بتأثيرات الكولونيالية ومصير اللاجئين فى الهوة الواقعة ما بين الثقافات والقارات».

روايات قرنح نفسها مجهولة إلى حد كبير خارج بريطانيا، وليست معروفة تمامًا داخلها. ورغم أن الناشرين الأمريكيين نشروا أعماله فى الماضي، إلا أن حقوق طبع كل عناوينه تقريبًا قد أعيدت إلى أصحابها؛ فلم تبع كتبه -وفقًا للصحفية جين فريدمان- إلا 3000 نسخة فى الولايات المتحدة، فى مجموعها

طيب، أنا أبالغ قليلًا فى الحقيقة: لقد أنهيت مقال توقعاتى السنوى بقولي: «إنه شخص غير مذكور فى هذه القائمة من بلد غير مذكور فى هذه القائمة»، احتمالات بنسبة اثنين إلى واحد للفوز بجائزة نوبل! لم يكن قرنح مذكورًا، ولا كانت تنزانيا التي اندمجت مع زنجبار في عام 1964، عندما كان قرنح في السادسة عشرة، لذلك فقد تنبأت بالفائز تنبؤا صحيحًا، قد تكون تلك تفصيلة تافهة، لكن لو كان لديك سجل حافل بالفشل مثلى فلابد أن تقتنص مثل هذه الانتصارات الصغيرة كلما سنحت.

لم يكن «قرنح» على رادار أي أحد، طوال السنوات الست الماضية، استخدمت العديد من مؤشرات الاحتمالات - وأبرزها دليل المراهنات الرياضية البريطانى لادبروك!- كمصدر لمقالاتى التنبؤية السنوية.

على حد علمي، لم يظهر قرنح قط كمنافس – حتى باحتمال مائة إلى واحد، إنه فى بعض النواحي، نقيض للفائز بنوبل عام 2017، كازو إيشيجورو؛ وهو كاتب آخر هاجر إلى إنجلترا فى سن صغيرة، لم يظهر اسم إيشيجورو أيضًا فى تكهنات نوبل قط؛ غالبًا لأنه كان من المعتقد أنه أكثر شعبية من اللازم – فقد تحول اثنان من كتبه إلى فيلمين ترشحا لجوائز الأوسكار. كان قرنح، كما تبين، مجهولًا بشدة.

قرنح أستاذ للأدب الإنجليزى في جامعة كِنت، وتقاعد مؤخرًا، وربما كان معروفًا بشكل أفضل كناقد؛ وهو سبب آخر لتجاهله، المفارقة أن عمله كناقد تركز على كُتاب هم أنفسهم أسماء متكررة ضمن قائمة توقعات الفوز بنوبل. فقد كتب مقدمة طبعة كلاسيكيات بنجوين لرواية نجوجي وا ثيونجو «حبة قمح» وهو محرر دليل كامبريدج لسلمان رشدي «هذه النسخة من الأكاديمية السويدية، التى تمنح جائزة نوبل، لا تعرف المزاح على نحو خاص - حتى بالمعايير السويدية- لكن قد تكون هذه أيضًا فكرتها عن المزاح».

روايات قرنح نفسها مجهولة إلى حد كبير خارج بريطانيا، وليست معروفة تمامًا داخلها.

ورغم أن الناشرين الأمريكيين نشروا أعماله فى الماضي، إلا أن حقوق طبع كل عناوينه تقريبًا قد أعيدت إلى أصحابها؛ فلم تبع كتبه - وفقًا للصحفية جين فريدمان- إلا 3000 نسخة فى الولايات المتحدة، في مجموعها.

وفي ظل مشاكل الموردين المستمرة التى تسببت فيها جائحة كورونا، قد يستغرق الأمر فترة لا بأس بها قبل أن تتمكن متاجر الكتب من إعادة اقتناء عناوينه من أجل القراء الفضوليين الجدد.

ولد قرنح فى زنجبار، وانتقل إلى المملكة المتحدة كلاجئ بعد انقلاب عسكري عام 1964 أدى إلى اضطهاد المواطنين ذوى الأصول العربية. وقد عاش فى بريطانيا من وقتها وكتب بالإنجليزية - لغته الثانية - فقط «لغة قرنح الأولى هى السواحيلية»، روايته الأولى «ذكرى الرحيل» رواية عن بلوغ سن الرشد تجرى وقائعها وسط ثورة فاشلة، وقد نُشرت عام 1987.

كتب بعدها 9 كتب، كلها تقريبًا تستكشف موضوعات الذاكرة والهجرة وميراث الاستعمار. أشهر رواياته «الفردوس» (1994) سلطت لجنة جائزة نوبل الضوء عليها، وكانت فى القائمة القصيرة لجائزة البوكر عندما صدرت.

قرنح هو أول كاتب من أفريقيا يفوز بجائزة نوبل فى الأدب منذ أكثر من عقد، وأول كاتب غير أبيض من أفريقيا يفوز بها خلال ثلاثين عاما تقريبًا. وهو الكاتب الأفريقى الخامس فقط الذى يفوز بنوبل بشكل إجمالي، هو أيضًا الكاتب الأفريقي الأسود الثاني في الفوز بعد الكاتب المسرحي النيجيري وولي سوينكا، الذى فاز بنوبل عام 1986، والذى كان أول كاتب أسود يفوز بالجائزة بما أن تونى موريسون نالتها عام 1993.

لقد توقع الكثيرون، وأنا من ضمنهم، أن تكون 2021 عامًا تكرم فيه لجنة الأدب المختصة بمنح جائزة نوبل كاتبًا أفريقيًا أسود. ومع ذلك، كان قرنح اختيارًا مدهشًا، لطالما اعتُبر نجوجى وا ثيونجو - الكاتب الأفريقى الحى الأكثر تأثيرًا ويمكن القول إنه الأهم - في مقدمة المرشحين لجائزة نوبل، ربما يكون قد خرج فعليًا من السباق بعد فوز قرنح؛ فحقيقة أن قرنح قد كتب كثيرًا عن أعمال نجوجى تشير إلى سماجة شبيهة بما فعلته اللجنة بفليب روث قرب نهاية حياته. بالمثل، ثمة عدد من الكتاب الأفارقة الأبرز بكثير من قرنح ولم يفوزوا بعد بالجائزة؛ من ضمنهم بوريس ديوب، نور الدين فرح، ميا كوتو. خمسة من الكتاب الأفارقة الستة المتوجين بنوبل كتبوا بالإنجليزية، مثل قرنح، والروائى المصرى نجيب محفوظ هو الاستثناء الوحيد.

ربما هناك بُعد سياسى فى تفكير اللجنة؛ باعتبار أن كثيرًا من كتابات قرنح تركز على الهجرة وأنه جاء إلى بريطانيا كلاجئ. عند سؤاله عن ذلك بعد الإعلان مباشرة، احتج أندرس أولسون رئيس اللجنة قائلًا إن الجائزة لم تُمنح لأسباب سياسية وأن «ظاهرة المنفى والنزوح موجودة منذ سنوات عديدة»، علاوة على ذلك، أشار إلى أن لجنة جائزة نوبل تتابع أعمال قرنح منذ الثمانينيات - وهو ادعاء مدهش إلى حد ما؛ نظرًا إلى أن قرنح لم ينشر إلا روايتين قليلتى الذكر فى نهاية ذلك العِقد - قبل أن يضيف أنه لا يعتقد أن أزمة النازحين «كان لها أى تأثير مباشر على قرارنا» ومع ذلك، فإن لجنة جائزة نوبل معروفة بإعلانها بيانات سياسية، سرية أو غير ذلك، عن طريق اختياراتها نفسها.

هذه جائزة نوبل الرابعة فى الأدب التى تمنح منذ تأجلت الجائزة لعام بعد فضيحة مراهنات وتحرشات جنسية، لقد انتصر الحرس القديم للجنة نوبل في صراع السلطة التالى، مقصين في هذه العملية أول أمينة دائمة امرأة للأكاديمية السويدية، والتي لم يكن لها أى دور في الفضيحة، الكُتاب الأربعة الذين فازوا بجائزة نوبل من وقتها - أولجا توكارتشوك، بيتر هاندكه، لويز جلوك، والآن عبدالرزاق قرنح - كانوا جميعا متوجين تقليديين إلى حد ما بنوبل: جادون، مثقفون بشكل لا يرقى إليه الشك، مجهولون على النطاق العالمي، من بين الأربعة يمكن القول إن هاندكه هو الأشهر، والذى بالكاد يعرفه الجمهور العام، «لعل شهرته الأكبر أنه ألقى خطبة قصيرة في جنازة سلوبودان ميلوسيفيتش».

بعد سنوات من تجاوز الأعراف - بمنح الجائزة لسفيتلانا أليكسييفيتش وهي في الأساس كاتبة غير روائية تشتغل غالبًا على التاريخ الشفاهي؛ وبوب ديلان المغني وكاتب الأغاني وأحد أشهر الأشخاص في الستين عاما الماضية؛ وكازو إيشيجورو النجم الأدبي اللامع - استقرت جائزة نوبل للأدب عائدة إلى ما كانت عليه فى أغلب تاريخها: جائزة غير قابلة للتنبؤ تختار فائزيها المجهولين غالبا لأسباب غير واضحة تمامًا، دائمًا.

وهذا فى رأيي أفضل فائدة لجائزة نوبل: إلقاء الضوء على كُتاب مُهمَلين لكنهم يستحقون.

في الماضي، كان هؤلاء الكتاب المجهولين أوروبيين بشكل حصرى تقريبًا، «أقرب متوج بنوبل لقرنح ربما يكون جان-مارى جوستاف لو كليزيو، الروائى الفرنسى-الموريشى الذى كان مجهولًا تقريبا خارج فرنسا عندما مُنح الجائزة عام 2008».

بالطبع قرنح موجود فى مكان غائم، بعد أن عاش فى إنجلترا أغلب حياته. ومع ذلك، فقد كافحت جائزة نوبل فى أغلب تاريخها كى ترتقى إلى مسماها الرسمى كجائزة للأدب العالمى. وبمنحها الجائزة لقرنح، تخطو اللجنة خطوة صغيرة نحو الارتقاء أخيرًا إلى ذلك الهدف الوجيه.

أقفاص

قصة: عبدالرزاق قرنح

شَعَر حميد فى بعض الأوقات كما لو كان دائمًا فى الدُكَّان، وأنَّه سيقضى نحبه هناك. لم يعد يشعر بعدم الارتياح أو يسمع الغماغم الخفيَّة فى الساعات المُتأخِّرة مِن الليل التى جفلت قلبه خيفةً ذات مرَّة. كان يعرف الآن أنَّ مصدرها المُستنقع الموسميُّ الذى فصل المدينة عن القُرى ويعجُّ بالحياة. كان الدُكَّان فى مكانٍ حيويٍّ عند مُفترَق طُرُقٍ رئيسىٍّ خاص بضواحى المدينة. فتحه وقت الشفق عند مرور باكورة العُمَّال، ولم يُغلقه إلَّا بعد أن عاد الجميع إلى منازلهم عدا المُتباطئون. كان يُحب قول إنَّه رأى الحياة بأكملها تمرُّ أمامه مِن الدُكَّان. كان يقف على قدميه طوال الوقت فى ساعات الذُروة يتحدَّث ويمزح مع الزبائن ويتودَّد إليهم مُفتخِرًا ببراعته فى التصرُّف والتعامل مع البضائع. لاحقًا، كان يغوص مُنهكًا على المِقعد المُحاصَر الذى كان يستخدمه كدُرج نقوده.

ظهرت الفتاة فى الدُكَّان فى ساعةٍ مُتأخِّرةٍ مِن إحدى الأُمسِّيَّات، بينما تبادر إلى ذهنه أنَّه قد حان وقت الإغلاق. لقد لاحظ أنَّه قد غفا مرَّتين، وهى حيلة خطيرة فى مثل هذه الأوقات العصيبة. استيقظ المرَّة الثانية فى إجفالٍ مُعتقِدًا أنَّ يدًا كبيرةً كانت تقبض حلقه وترفعه عن الأرض. كانت تقف أمامه مُنتظِرةً وعلى وجهها نظرة اشمئزاز.

قالت بعد الانتظار دقيقة طويلة وقحة: «سمن بلدى.» «شلن.»أشاحت أحد جانبى وجهها وهى تتحدَّث، كما لو كان منظره مُزعِجًا. كانت قطعة مِن القُماش ملفوفةً حول جسمها ومُثبَّتة تحت إبطيها. تشبَّث القطن الناعم بها مُظهِرًا قوامها الرشيق. تلألأ كتفاها العاريان فى دجى الليل. أخذ الوعاءمِنها وانحنى ناحية تنكة السمن البلدى. كان يملؤه شوق وألم مُفاجئ. عندما أعاد الوعاء إليها، نظرت إليه بإبهام، عيناها قاصيتان ومُزجَّجتان بالتعب. رأى يُفوعها الذى تمثَّل فى وجه دائريِّ صغير وعُنق رفيع. استدارت دون أن تتكلم وعادت إلى الظلمة، حيث خطت خطوةً واسعةً للقفز فوق الخندق الخرسانىّ الذى فصل الرصيف عن الشارع. شاهدها حميد وهى تبتعد وأراد أن يصرخ لينبهها أن تتوخَّى الحذر. كيف عرفت أنه لم يكن هناك شىء فى الظُلمة؟ لم يخرج سوى نعيق واهن وهو يخنق الدافع لمُناداتها. انتظر، مُتوقِّعًا صُراخها بقدر توقُّع عدمه، لكنَّه سمع فقط صفعات صندلها المُتباعِدة وهى تمضى قُدُمًا فى الليل.

كانت فتاة جذَّابة، ولسببٍ ما عندما وقف يُفكِّر فيها ويُراقب فجوة الظُلمة التى اختفت فيها، أخذ يشعر بالاشمئزاز حيال نفسه. كانت مُحقَّةً فى النظر إليه نظرة ازدراء. فاح فمه وجسده. لم يكن هناك سبب يُذكَر للاستحمام أكثر مِن مرَّةٍ كل يومين. استغرقت الرحلة مِن الفراش إلى الدُكَّان دقيقةً أو نحو ذلك، ولم يذهب قط إلى أىّ مكانٍ آخر. ما الداعى للاستحمام؟ كانت ساقاه غير مُتناسقتين بسبب عدم مُمارسة التمارين الرياضيَّة المُناسِبة. لقد قضى يومه فى عُبوديَّة؛ مرَّت شهور وسنوات على ذلك النحو، أبله عالق فى حظيرة طوال حياته. أغلق الدُكَّان فى إرهاقٍ، وهو يعلم أنَّه سيتمادى فى قذارته.

جاءت الفتاة مرة أُخرى إلى الدُكَّان فى المساء التالى. كان يتحدَّث حميد مع أحد زبائنه؛ رجل يكبره سِنًّا بكثير يُدعى منصور يعيش بالجوار ويأتى إلى الدُكَّان فى بعض الأُمسيَّات للتحدُّث. فقد نصف بصره بسبب إصابته بإعتام عدسة العين، وكان الناس يسخرون مِن مِحنته ويُذيقونه مرارة حيلهم. قال بعضهم إنّ منصور أعمى لأن عينيه كانتا مليئتين بالقاذورات. لم يستطع الابتعاد عن الأولاد. تساءل حميد أحيانًا عما إذا كان منصور يتسكَّع فى الدُكَّان رغبةً فى شىء، رغبةً فيه، لكن ربما كان مجرد خُبث ونميمة. توقَّف منصور عن الكلام عندما اقتربت الفتاة، ثُمَّ حدَّق فيها جدًّا وهو يحاول تبيُّن ملامحها فى الإضاءة الضعيفة.
هل عندك مُلمِّع أحذية؟ أسود؟ سألت.
أجل، قال حميد وبدت نبرته جامده، لذا تنحنح وكرَّر: أجل.وابتسمت الفتاة.

وسأل منصور «مرحبًا يا عزيزتى. كيف حالكِ اليوم؟»،كانت لهجته شديدة الوضوح وغليظة وانسيابيَّة البيان لدرجة أن حميد تساءل عما إذا كان يقصد بها المزاح. «يا لجمال رائحتكِ، يا له مِن عطر! صوت مثل الزُواردى (العندليب) وقوام مثل الغزال. قولى لى أيتها المسيتشانا (الفتاة)، متى سيتوفر لك وقت الليلة؟ أحتاج إلى شخصٍ لتدليك ظهرى».
تجاهلته الفتاة. سمع حميدُ منصورَ وهو يُواصل الدردشة مع الفتاة وظهره لهما، حيث تغنَّى لها بمدائح مُفرِطةٍ بينما يحاول أخذ موعد مِنها. لم يستطع حميد وسط ارتباكه أن يجد علبة المُلمِّع. عندما وجدها واستدار أخيرًا، اعتقد أنَّها كانت تُراقبه طوال الوقت مُستمتعةً بشدَّة ارتباكه. ابتسم، لكنَّها عبست ثم دفعت له. كان منصور يتحدَّث بجانبها، يتملَّقها ويُغازلها ويُخشخش العُملات المعدنيَّة فى جيب سُترته، لكنَّها استدارت وغادرت دون أن تتكلم.

قال منصور وجسده يهتزُّ رُويدًا مِن ضحكاته المكتومة: «انظر إليها، كما لو أن الشمس نفسها لا تجرؤ على الإشراق عليها. مغرورة جدًّا! لكنَّ الحقيقة أنَّها غِرَّة. وسُرعان ما سأظفر بها. كم تعتقد ستأخذ؟ دائمًا ما يفعلون ذلك، أولئك النساء، كل هذا التصنُّع ونظرات الاشمئزاز... لكن بمُجرَّد أن تُدخلهم الفراش وتطؤهم، يعرفون حينها مَن هو السيِّد».
وجد حميد نفسه يضحك حفاظًا على السلام بينهما، لكنه لم يكن يعتقد أنها مِن الفتيات اللاتى يُشترين. كانت واثقةً جدًّا ومُرتاحةًحيال كل تصرُّفاتها لدرجة أنه لم يستطع تصديق خنوعهالمكائد منصور بما يكفي. أخذت الفتاة تشغل تفكيره، وعندما كان بمُفرده، تخيَّل نفسه يُجامعها. ذهب ليلًا بعد إغلاقه الدُكان للجلوس لبضع دقائق مع الشيخ فجير، صاحب الدُكَّان وكان يعيش بالخلف. تملَّكت الشيخوخة بصره، ونادرًا ما طلب مُغادرة فراشه.

كانت تأتى إليه امرأة تعيش بالجوار لرعايته خلال النهار وتأخذ سلعًا مِن الدُكَّان فى المُقابل، لكن الشيخ المريض كان يُحبُّ جلوس حميد معه لبُرهة ليلًا. أنتنت رائحة الرجل المُحتضِر الغُرفة خلال حديثهم. لم يكن هناك الكثير لمُناقشته؛طقس يتضمَّن شكاوى مِن ركود التجارة والدعاء تضرُّعًا لعودة الصحة. تحدَّث فجير أحيانًا، عندما كان مُكتئبًا، عن الموت بعين باكية والحياة التى كانت تنتظره هناك. يأخذ حميدالشيخ إلى المرحاض بعد ذلك، ويتأكَّد أن نونيَّته فارغة ونظيفة، ثُم يتركه. كان يتحدَّث فجير إلى نفسه فى ساعات مُتأخِّرة مِن الليل، ويرتفع صوته أحيانًا ارتفاعًا بسيطًا مُناديًا على حميد.

نام حميد خارجًا فى الفناء الداخليِّ. أفرغ مكانًا فى الدُكَّان الضئيل خلال هُطول الأمطار ونام فيه. أمضى لياليه وحيدًا ولم يخرج قط. لقد مر ما يزيد عن سنةٍ بكثير منذ أن غادر الدُكَّان، ولم يخرج قبل ذلك مع أحد سوى فجير؛ قبل أن يصير الشيخ طريح الفراش. كان فجير يصطحبه إلى المسجد كل جمعة، وتذكر حميد حشود الناس والأرصفة المُتشقِّقة التى تُصدر بُخارًا عند هُطول الأمطار. كانا يذهبان للتسوُّق فى طريق عودتهما إلى المنزل، حيث يُسمِّى الشيخ له الفاكهة الحلوة ذكيَّة الرائحة والخُضار ذا الألوان الزاهية ويلتقط بعضه لجعله يشمَّه أو يلمسه. عمِل حميد عند الشيخ مُنذ أن كان مُراهِقًا، عندما جاء لأوَّل مرَّةٍ للعيش فى هذه المدينة.أطعمه فجير وعمِل فى الدُكَّان. كان يمضى لياليه وحيدًا عند انتهاء كل يوم وغالبًا ما يُفكِّر فى والده ووالدته والمدينة التى وُلِد فيها. مع أنَّه لم يعد صبيًّا، جعلته الذكريات ينتحب وأذلَّته المشاعر التى تأبى تركه وشأنه.

عندما أتت الفتاة مرَّةً أُخرى إلى الدُكَّان لشراء الفاصوليا والسُّكَّر، كان حميد كريمًا فى ميزانه. لاحظت وابتسمت له. شعَّ سُرورًا مع أنَّه يعرف أنَّ ابتسامتها تُخامرها السُخريَّة. قالت له شيئًا فعلًاه فى المرَّة التالية؛ مُجرَّد تحيَّة، لكن قالتها فى دماثة. أخبرته لاحقًا أن اسمها رُقيَّة وقد انتقلت مُؤخَّرًا إلى المنطقة للعيش مع أقاربها.
أين منزلكِ؟ سأل.
مويمبيمارنجو، قالت وهى تُطوِّح ذراعها للإشارة إلى بُعدها الشديد. لكن عليك أن تمشى فى شوارعٍ جانبيَّةٍ وتقطع تلالًا.
أمكنه معرفة عملها كخادمة مِن الثوب الأزرق القُطنيِّ الذى كانت ترتديه نهارًا.عندما سألها عن مكان عملها، خنفرت بهدوءٍ أولًا وكأنَّها تقول إنَّ السؤال غير مُهم. ثُمَّ أخبرته أنها كانت تعمل خادمةً فى أحد الفنادق الجديدة فى المدينة حتى تجد وظيفةً أفضل.
أفضل فُندق، الإكويتور، قالت. هناك مَسبح وسجَّاد فى كل مكان. كل المُقيمين هناك تقريبًا مزونجو (أورپيِّون). لدينا القليل مِن الهنود أيضًا، لكن لا أحد مِن هؤلاء الناس مِن الأدغال فيجعل الشراشف كريهة الرائحة”.

وقف عند مدخَل حُجرة نومه فى الفناء الخلفيِّ بعد غلقه الدُكَّان ليلًا. كانت الشوارع خاليةً وساكنةً فى تلك الساعة، وليست الأماكن المُزدحِمة الخطيرة التى تكونها نهارًا. أكثر التفكير فى رُقيَّة ولفظ اسمها أحيانًا، لكن ما زاده التفكير فيها إلَّا وعيًا بعُزلته وقذارته. تذكَّر كيف نظرت إليه فى أوَّل مرَّةٍ مُبتعِدةً فى سِتر العتمة. أراد أن يلمسها، لقد فعلت السنوات التى قضاها فى الأماكن المُظلِمة ذلك به، وهكذا ينظر الآن إلى شوارع المدينة الأجنبيَّة ويتخيَّل أنّ لمسة فتاةٍ مجهولةٍ ستكون خلاصه.
خرج ذات ليلةٍ إلى الشارع وأغلق الباب خلفه. مشى رُويدًاإلى أقرب مِصباح شارعٍ ثُم إلى الذى يليه. تفاجأ أنه لم يشعر بالخوف. سمع شيئًا يتحرَّك لكنَّه لم ينظر. إذا لم يكن يعرف وجهته، فلا داعى للخوف لأَن أى شيءٍ يُمكن أن يحدث. كان ذلك مُريحًا.

انعطف عند ناصيةٍ تجاه شارعٍ مُصطفٍّ بالمحلَّات،كان واحد أو اثنان مِنهما مُضاءً، ثُمَّ انعطف عند ناصيةٍ أُخرى هربًا مِن الأضواء. لم يرَ أى أحدٍ، لا شُرطيِّ ولا خفير. جلس عند حافّة ميدانٍ لبضع دقائقٍ على مِقعدٍ خشبيِّ مُستغرِبًا أنَّ كل شيءٍ يُفترض أن يبدو مألوفًا جدًّا. كان هناك بُرج ساعةٍ فى أحدالجوانب يدقُّ فى هُدوءٍ فى الليلة البكماء. اصطفَّت الأعمدة المعدنيَّة على جوانب الميدان، جامدةً ومُستقيمةً. كانت الحافلات مُتوقِّفةً فى صفوفٍ عند أحد الطرفين، وبإمكانه سماع صوت البحر على بُعد.

ذهب تجاه الصوت واكتشف أنَّه لم يكن بعيدًا عن الشاطئ. جعلته رائحة المياه يُفكِّر فجأةً فى وطن أبيه. كانت تلك المدينة أيضًا تطلُّ على البحر، ولعب فيما مضى على شواطئها وفى مياهها الضحلة مثل جميع الأطفال الآخرين. لم يعد يراه كمكانٍ ينتمى إليه، مكانٍ كان وطنه. ارتطمت المياه رُويدًا بحاجز الأمواج، ووقف يُحدِّق فيها وهى تتحول إلى زبدٍ أبيضٍ عليه. كانت الأضواء لا تزال ساطعةً على أحد أرصفة المرفأ، وكان هناك أزيز ميكانيكيُّ. لم يبدُ مُمكنًا عمل أى شخصٍ فى تلك الساعة المُتأخِّرة مِن الليل.

كانت هناك أضواء عبر الخليج؛ نقاط مُفردة معزولة مُعلَّقة على ستارة مِن الظُلمة. مَن عاش هناك يا تُرى؟ رجف خوفًا. حاول تصوُّر أُناسٍ يعيشون فى ذلك الجانب المُظلم مِن المدينة. صوَّر له عقله رجالًا ذوى بأسٍ ووجوهٍ قاسيةٍ يُحدِّقون فيه ويضحكون. رأى مساحاتٍ فارغةٍ مِن الغابات مُضاءةً إضاءةً خافتةً حيث تتربَّص الظلال بالأجنبيِّ، ويتزاحم الرجال والنساء لاحقًا فوق الجُثَّة. سمع دبدبة أقدامهم فى طقوسٍ قديمةٍ وصيحات انتصارهم بينما تدفَّقت دماء أعدائهم على التُربة المكبوسة. لم يقتصر خوفه مِن الناس الذين يعيشون فى ظُلمة الخليج على التهديد الجسديِّ الذى يُشكِّلونه. كان أيضًا بسبب أنَّهم يعرفون أين هم، وكان هو فى مكانٍ مجهول.

التفَّ عائدًا إلى الدُكَّان غير قادرٍ على مُقاومة –على الرغم مِن كل شيء–إحساس أنَّه قد جرؤ على شيء. أصبح عادةً بعد إغلاقه الدُكَّان ليلًا وتلبية حاجات فجير أن يذهب فى نُزهةٍ إلى الشاطئ. لم يُعجِب فجير الأمر واشتكى مِن تركه بمُفرده، لكنَّ حميد تجاهل تذمُّره. كان يرى أُناسًا بين الحين والآخر، لكنَّهم مرَّوا فى عُجالةٍ دون النظر إليه. كان خلال النهار يأمل رؤية الفتاة التى أصبحت شُغله الشاغل. تخيَّل نفسه معها ليلًا. حاول خلال تنزُّهه فى الشوارع البكماء أن يتخيَّلها معه تتحدَّث وتبتسم وتضع راحة يدها أحيانًا على رقبته. وقتما جاءت إلى الدُكَّان، كان يضع دائمًا بضاعةً إضافيَّةً وينتظر ابتسامتها. كثيرًا ما تحدَّثا، حيث يُسلِّمان على بعضهما فى إيجاز ويتكلَّمان عن الصداقة. كان يُعطيها فى أوقات العجز مِن المخزون السرِّيِّ الذى يحتفظ به للزبائن المُميَّزين. امتدح مظهرها متى جرؤ، وتلوَّى شوقًا وحيرةً عندما كافأته بابتساماتٍ مُشرقات. ضحك حميد بينه وبين نفسه عندما تذكَّر تفاخُر منصور بشأن الفتاة. لم تكن فتاةً تُشترى ببضعة شلنات، بل فتاةً يُتغنَّى بها ويُظفر بها بالاستعراض والشجاعة. ولم يكن يمتلك منصور، الذى فقد نصف قدرة إبصاره مِن القاذورات، ولا حميد الفصاحة أو الصوت الطرِب لمثل هذا العمل البُطوليِّ.

أتت رقية مُتأخرًا فى إحدى الليالى لشراء سُكَّر. كانت لا تزال مرتدية ثوب عملها الأزرق، الذى كان مُبقَّعًا أسفل ذراعيها بالعرق. لم يكن هناك أى زبائنٍ آخرين، ولم تبدُ فى عجلة. أخذت تُناغشه رويدًا قائلةً شيئًا عن مدى كدِّه فى عمله.
لابد أنك ثرى مِن كل هذه الساعات التى تقضيها فى الدُكَّان. هل لديك حُفرة فى الفناء تُخبِّئ فيها أموالك؟ يعلم الجميع أن أصحاب الدكاكين لديهم كُنوز سرِّيَّة. هل تدَّخر مِن أجل العودة إلى مدينتك؟، قالت.
ليس لديَّ أى شيء. لا شيء هنا يخصُّني.

ضحكت ضحكةً خافتةً غير مُصدِّقة وقال “لكنَّك تكدُّ فى عملك أكثر مِن اللازم على أى حال. لا تحظى بما يكفى مِن المرح.  ثُمَّ ابتسمت وهو يضع ملء المغرفة سُكَّر.
شكرته وهى تنحنى إلى الأمام لتأخُذ السُّكَّر مِنه. بقيت على تلك الحال للحظةٍ أطول مِن اللازم؛ ثم رجعت ببُطء”دائمًا ما تُعطينى بضائع. أعلم أنَّك تريد شيئًا فى المُقابل. عندما تُريد ذلك، سيتوجَّب عليك إعطائى ما هو أكثر مِن هذه الهدايا البسيطة”.
لم يرد حميد الذى غمره الخزي. ضحكت الفتاة ضحكةً رقيقةً وابتعدت. نظرت مرةً حولها نظرةً خاطفةً وهى تبتسم إليه ابتسامةً عريضةً قبل أن تنغمر فى الظلمة.

يذكركُتَّاب أدب ما بعد الاستعمار كلمات مِن لغتهم الأصليَّة للدلالة على الاستقلال اللغوى بالإضافة إلى الاستقلال الوطني، ويلجأ بعضهم أحيانًا إلى التخلِّى عن لغة المُحتَّل تمامًا واستخدام لغته الأم مثلما فعل نجوجى واثيونجو لاحقًا.

الإعجاب بالصمت

قصة: عبدالرزاق قرنح

ألفيت نفسى أتكئ بشدة على هذا الألم. فى البدء جربت إخماده، معتقداً أنه سيزول ويتركنى إلى اضطرابى. وأنه سيتباطأ إلى حين، كإنذار صارم بالهموم التى تتوارى متربصة أسفل سطح حياتنا المتشبثة بالرضا عن النفس. لكن عوضاً عن تلاشيه، صار أكثر وضوحاً، وأدق بروزاً على نحو ملموس، شاغلاً مساحة داخلي، مقززاً، وخبيثاً، ولصيقاً، ينفث أبخرة لزجة نتنة من الوحدة والرعب. حينما استيقظت فى الصباح تحسسته، ثم تنهدت حينما غمرنى الإدراك شاعراً به يتحرك داخلي، حى وسليم. قالت إيما إنه كان عسر هضم، أو شيء مماثل، لكنى أدركت من القلق الحائر الذى لاح فى عينيها أنها لا تصدق ما تقول. ولأسابيع قليلة أقنعتنى أن أجرب شتى أنواع مساحيق العلاج وأقراص الدواء، وشرعت تقرأ عن حميات غذائية خاصة، وحموضة المعدة، والألياف، والفيتامينات. كانت إيما تتصرف بهذا المنوال حينما تقابلها أى مشكلة. كانت تبدى اهتمامها الفائق، على الأقل لبرهة. لم يتسن لنا تجريب الحميات الخاصة، والتى كان بعضها ممتازاً، لأنه فى صبيحة كل يوم كنت أشعر بالوحش هناك يزداد شراسة.

فى نهاية المطاف ذهبت إلى طبيبي. صرت أخشى على حياتى البائسة، واعتزمت استشارة طبيبي. يمكنك أن تقول ذلك فى انجلترا: طبيبي. الجميع هنا لديهم طبيب خاص. ذلك الذى يجلس على كرسى دوار خلف مكتب ضخم، تطوقه كتب طبية وصينية نظيفة تتراص عليها أدوات. وغرفة عملياته، التى تضم ركناً تحجبه ستارة تخفى خلفها طاولة الفحص، مضاءة بمصابيح تميل بزاوية متقنة لتحاشى إجهاد أعين المرضى. أشرح ذلك لإخوتى الأقل حظاً وزوجاتهم، وشقيقاتهم وأمهاتهم وخالاتهم الذين يضطرون إلى إخراس أصواتهم والثرثرة فى بديهيات كى يظهروا بشكل سوى وطبيعى ويحفظون هيبة العائلة. أقصد الشباب البؤساء ممن يعيشون فى الأركان المظلمة من العالم مجبورين على التخييم لأيام تحت وهج الشمس وانهمار المطر، تضربهم الأعاصير والعواصف الترابية، ينتظرون بتر عضو فى أجسادهم مصاب بالغرغرينا، أو تلقى وخز حُقنة ترياق لعضة ثعبان، أو حتى مرهم مضاد للبكتريا لجروحهم المتقرحة، أو معالجة آثار حروق الشمس. فكرة وجود طبيب خاص بهم قد تبدو لهم ضرباً من الخيال.

الموقف هنا مختلف. الرعاية الطبية تُقدم منذ الميلاد حتى الوفاة، وبلطف واهتمام، فى عيادات فسيحة الأرجاء مخصصة لراحة المريض ورفاهيته، وجميعها بالمجان. وإن لم تكن مجانية، تبدو كذلك. إنها نعمة صغيرة اُنتزعت بعد لأى أحد، تتمتع بها انجلترا الآن بعد دهور من الكدح وقرون من المحن والشدائد شيدت خلالها حطامها البهي. قف عند ضفاف التيمز فى أى موضع بين جسرى بلاكفرايرز وويستمنستر، ويمم وجهك صوب الشمال، وتمعن وقلبك مترعاً بالمهابة وأنت تتصور عناء بناء البروج الضخمة، والمكاتب العظيمة، والقباب ذات الأعمدة، والأديرة مترامية الأطراف، والمقاصير الفاخرة، والقصور المزخرفة، والجسور المذهبة المزينة بالمصابيح. ثم دع عينيك تجولان بعيداً، وستجد المصانع والمخازن، ومزارع مدارة بالماكينات، وكنائس صغيرة وبلدات مشيدة على طراز، ومتاحف تكتظ بمغانم تاريخ شعوب أخرى مسحوقة، ومكتبات تزخر بكتب جُمعت على مر القرون. لو قارنت ذلك بأى بالوعة مضطربة التى يسمونها مدينة فى النواحى المظلمة من العالم، آخذاً فى الاعتبار العمل المضنى الذى صير كل ذلك واقعاً، حينها لن تبدو لك نعمة صغيرة مثل امتلاك طبيب خاص مفرطة الترف.

الحطام أحد الأمور الكثيرة التى صنعت من انجلترا أمة، بجانب قدر معين من الثقة المفرطة، والتلذذ بالسخرية والتى تبدو سفسطة وحكمة شوارع. لم تعد انجلترا التى قامت من هذا الحطام موجودة. سل أى شخص. ليست انجلترا التى أنارت الظلمات، ومنحت العالم نظام السكك الحديدية، وخط جرينتش، والبنسلين، والتى اخترعها جميعاً الاسكتلنديون فى المنفى. ليست انجلترا التى جلبتنا قصصها عن نشأة العالم إلى الوجود. بل أضحت الآن بريطانيا والمملكة المتحدة، والإمبراطورية الأوروبية المقدسة التى تلوح فى الأفق، رُغم المظاهرات الصاخبة لبعض الناس فى مقاطعاتها الاستعمارية القديمة، والذين يرون هذا التبدل الجلى خدعة ماكرة لإبقائهم فى نير العبودية التى دامت لأجيال وأجيال على مر التاريخ.

بل صار الناس يجفلون كأنما ارتكبوا إثماً عندما ينطقون اسم انجلترا، يخشون أن يظن الآخرين أنهم متبجحون، وقوميون، وعنصريون، وفاشيون. وحينما يوضع تاريخها الأسود المليء بالسطو والنهب تحت المجهر، يغض الاسكتلنديون والايرلنديون الطرف عن ضلوعهم فى تلك المغامرات التحريضية، ويذكّرون المهتمين بأنهم كانوا أيضاً يرزحون تحت سنابك الاستعمار الإنجليزي. الأجزاء الوحيدة فى انجلترا التى يمكن الحديث عنها بحرية ضمير هى الريف أو إحدى الفرق الرياضية المجتهدة المتعددة، والتى هى مصدر متواصل من الاشمئزاز والازدراء الممتع، برغم أن ذلك عرضة للتحول إلى زهو مخبول، ومبالغة متناغمة عند إحراز نصر غير متوقع.

على كل حال، بعد كل هذه العصور القاسية من الكدح والكفاح، حينما كاد الناس، الذين غشيهم التعب، على وشك الراحة ومشاهدة ألعاب الضوء على الشجيرات والمياه، ونزع أغماد سيوفهم، والإصغاء إلى الصفير العذب للريح الغربية، وقطف ثمار جهودهم اليانعة، على حين غرة وصل حشد من الغرباء بجلبتهم وصخبهم خارج الأسوار. لكل عصر وبلدة وقرية مجاذيب، ومنبوذين، ومشردين، وصعاليك، وحكماء متوحدين، لكن كيف وصلت هذه الحشود إلى ذلك المكان؟ كيف انتهى بهم المطاف جميعاً إلى هناك؟ أجل بالطبع نعلم كيف حدث ذلك.

لكن لماذا لم يقنعوا بالمعرفة التى ستعود عليهم حتماً من رحلتهم البحرية إلى أوروبا، مهما كانت وحشية الأحداث التى اقتضت القيام بالرحلة؟ المعرفة كغاية فى حد ذاتها! وما الضير فى إرسال فرقة صغيرة وأحد القادة للصمود أمام المحن؟ ما العيب فى أن يكونوا مثل بوكاهانتس؟

وهذه حكايتها. كانت أميرة من قبائل ألجونكيان، ابنة ملكهم بوهاتان. تتصل أحداث قصتها بغرس– ما أجملها من كلمة!- مستعمرة إنجليزية فى فيرجينيا، فى عهد الملكة إليزابيث الصالحة ووريثها جيمس ستيوارت.

وقع جون سميث، القاتل الإنجليزى المأجور فى العملية، فى الأسر وهو فى مهمة استطلاعية- يفكر فى إمكانية القيام بمشروع تطهير عرقى صغير- واقتيد إلى بوهاتان. بعدما حضر مآدب لعدة أيام (خمن السبب)، طُلب منه أن يضع رأسه على صخرة، بينما وقف من حوله نبلاء ألجونكيان وبأيديهم هروات. ألقت بوكاهانتس بجسدها على الإنجليزي، ووضعت رأسها على رأسه فحالت بينه وبين الموت. هذه اللحظة ستكرر مراراً وتكراراً فى قصص مغامرات الإمبراطورية؛ الأميرة الهندية الحسناء التى تقع فى غرام الفارس الأوروبى وتضحى فى تهور بكل شيء فى سبيل الحب.

لكن بوكاهانتس كانت من فعلتها أولاً. ثم جاءت صدمة اكتشاف أن بوكاهانتس كانت فى الحادية عشرة حينما فعلت ذلك، شيطانة صغيرة. بعد فترة، عبرت إلى المستعمرة الإنجليزية (أُسرت حينما كانت فى الثامنة عشر)، وكشفت طواعية عن خطط ألجونكيان اليومية والمتسمة بالجرأة والغدر للهجوم على الإنجليز. وسرعان ما عُمدت باسم ريبيكا وتزوجت من رجل إنجليزي. ريبيكا: صِيرِى أُلُوفَ رِبْوَاتٍ، وَلْيَرِثْ نَسْلُكِ بَابَ مُبْغِضِيهِ. لكن كانت تنتظرها رحلة محفوفة بالمخاطر أشد من رحلتها الأولى إلى الحضارة. اصطحبها زوجها إلى انجلترا، حيث كُرمت بصفتها نبيلة هندية محط فضول الجميع، وسرعان ما ماتت فى جرفيسند فى كينت، منطقة تغطيها المستنقعات فى الطرف السفلى من انجلترا وبعيدة كل البعد عن فرجينيا. لعلها كانت ستحسن صنعاً لو ظلت فى وطنها عوضاً عن الزج بنفسها فى قصص الإمبراطورية. لكن لم يذكر أحد شكواها بخصوص ذلك.

لكن الحشد الغريب لم يفعل مثلها، كان عاجزاً عن إثبات مزاعمه أو حفظ ماء وجهه، أو حتى التصرف بغرابة بسيطة ومكبوحة. لوحوا بعقودهم البالية وباحوا بقصصهم البائسة، يصرخون ويزمجرون فى سخط وحنق. يريدون مساحة اكبر فى الصحف، ويتذمرون حينما لا يقرأ أحد كتبهم التى لا تنتهي، ويطالبون بتخصيص وقت لهم على التلفزيون. كم من الاتهامات فى القصص التى يسردونها! والمطالبات التى يقدمونها، بحق السماء! ما من شيء يردعهم، ومن المستحيل معرفة ماذا يقصدون. التاريخ ليس إلا حزمة من الأكاذيب التى تغطى قرون من الثورات والقتل فى أنحاء الأرض، وخمن من يكون البرابرة. أخف القصص وطأة تُفسر كاستعارات مراوغة يتحولون فيها إلى وحوش كاسرة وأشباه بشر، مخلوقات تعسة وعبيد بائسين. حتى أعمالهم البربرية فيما بينهم والماثلة للعيان يمكن عزوها دائماً إلى شيء آخر: العبودية، الاستعمار، المسيحية، التعليم الأوروبي، أى شيء بخلاف نهمهم الشره، أو عنفهم الهمجي، أو تملصهم الماكر للإفلات من عبء تحمل المسئولية. القانون ضدهم، وأرباب العمل يرفضونهم، والبنوك تضطهدهم. يا لتبجحهم!

وهم أيضاً يهرعون إلى الأطباء، حاملين انتفاخاتهم المشوهة وقرحهم الجلدية المتقرحة. لا يجفل الأطباء وهم يفحصون هذه الجروح القديمة، بعضها ينتفخ تحت الجلود السقيمة، وبعضها يقطر سائلاً أبيض. فى ظنى أن الأطباء عمليون ومبرمجون بشكل يصعب تصديقه، يعالجون الجسد الذى يزفر شكاوى، ثم يكتبون قائمة صغيرة للتخلص من الألم.

ابتسم طبيبي، شاب يرتدى قميصاً ابيض ناصعاً، له شعر بنى جميل، وعينين زرقاوين، من طراز الرجل الذى تجده يدير العالم من أى زاوية تحدق فيها. أتخيله بعد العمل يستقل فى إعياء سيارته رينج اوفر، للذهاب إلى زوجته الحسناء فى منزلهما المريح الواقع فى إحدى الضواحى الجميلة. فى اللحظة التى يطفئ فيها المحرك فى الممر المعبدبالحصى، يندفع نحوه طفلاه ليغرقاه بالمحبة (اعتقد لديه فتاة فى الحادية عشرة وطفل فى التاسعة)، وربما كلب أشقر لطيف من فصيلة كولى. لعل الزوجة حبلى بطفل ثالث متأخر كى يجدد الغرام الذى جسده طفلاهما الأولان.

على كل حال، ابتسم ثم تنهد فى رضا، ومد جسده البالغ ستة أقدام فى كرسيه الدوار المريح. «الآن، كيف يمكننى مساعدتك؟» دق على صدرى ووكزه، وأصغى إليه وفى عينيه نظرة فضول بعيدة، ثم لم يتمالك نفسه وضغط على الإطار الصغير الذى طوق بطنى مؤخراً. لكنى لم اعرف ما الذى يتوقع أن يخرج منه. صرير، لعنة محرمة، قطرات صديد متجانس، هزة لا إرادية لعضلة ضامرة، ماذا؟ وقفت فى صمت بينما يعجن فى جسدى الهامد، يقرص ويعتصر، ويخبط بمفاصله على عظامى النحيلة. ثم أخبرنى وهو يقطب أن قلبى واهن.   صدقاً، كان بوسعى أن أقول له ذلك. لهذا السبب قمت بزيارته كى أخبره ذلك، لكنى جلست فى صمت يكلله الاحترام بينما واصل كلامه.