عاجل

كنوز | مذكرات «عربجي» ساخر يدعى سليمان نجيب !

الساخر القدير سليمان بك نجيب  --  غلاف «مذكرات عربجى»
الساخر القدير سليمان بك نجيب -- غلاف «مذكرات عربجى»

فى عام 1922 بدأ «الأسطى حنفى أبو محمود» نشر سلسلة مقالات سياسية اجتماعية ساخرة فى مجلة «الكشكول» التى أسسها سليمان فوزى للوقوف فى وجه حزب «الوفد» بالمقالات والرسوم الساخرة التى طالت زعيم الأمة سعد باشا زغلول، وانتقدت سياسة الحزب بالصورالكاريكاتورية والمقالات الساخِرة، وفى ظل تلك السياسة التى اتبعتها «الكشكول» جاءت مقالات «الأسطى حنفى أبو محمود» ولم يكن قراء «الكشكول» يعرفون وقتها من هو الأديب الذى يتخفى وراء الاسم المستعار للأسطى «حنفى أبو محمود»، الوحيد الذى كان يعرف الكاتب الحقيقى لتلك المقالات التى تم تجميعها فيما بعد فى كتاب بعنوان «مذكرات عربجى» هو الكاتب الكبير فكرى أباظة الذى لم يكن وقتها قد حصل على رتبة الباشاوية. 


وتكشف مقدمة المذكرات عن الرسالة التى بعث بها كاتبها إلى فكرى أباظة التى يقول فيها : 
- «إلى الأستاذ فكرى بك أباظة.. سيدى الأستاذ النابغة.. محسوبُك - الأسطى حنفى أبو محمود - كان له الشرف أن يُقِلَّكَ فى عربته مرارًا، إما منفردًا أو مع زمرة من إخوانك ومحبيك، يرجوك ويتوسل إليك أن تكتب له كلمة صغيرة يضعها فى مقدمة مذكراته التى ظن بعضهم أنها جديرة بالنشر..

وأنا لا أرجو ولا أتوسل إلا لأنى من المعجبين بقلمك وأدبك، وأنك باعتراف الكل الكاتب الذى تَقرأ كتاباته كلُّ الأفراد بلهف وشغف، وأستصرخ ديمقراطيتك أن تحنَّ على حوذيِّك بكلمة تجعل لهذه المذكرات قيمة..

إنك كريم يا أستاذ، طالما جُدت عليَّ بضِعف ما أستحقه فى «التوصيلة»؛ لأن نظرك البعيد يرى أن بجانب أكل البهايم أكل العيال، ومن كان من أخلاقه الكرم والبحبحة فلا أظن أن يضن على حوذيِّه القديم بما يطلبه، أبقاك الله وجعلك ظلًّا لأمثالى المساكين الغلابة، وأنا يا سيدى عبدك المطيع المخلص.
حنفى أبو محمود


وتتضمن مقدمة «مذكرات عربجى» رد الأستاذ فكرى أباظة الذى يقول فيه: 


- «عزيزى الأسطى حنفى.. أشكرك كل الشكر على حسن ظنك بى، وما كان الأمر يحتاج إلى «الطلب» يا أسطى، كان يكفى أن تأمر فنجيب، لأن لك علينا «أفضالًا» لن ننساها، لأنك لست حوذيًّا فقط، بل أنت «فيلسوف»، والفلسفة مبجَّلة فى حدِّ ذاتها، برفع النظرعن حيثية المتصفين بها !

حقًّا، إنى لأكتب بعواطفى، لا أتكلف ولا أتصنَّع، فدعنى أهنئك من صميم فؤادى، ولو كان كرباجك كقلمك لفاخرنا بك أعظم الأسطوات فى جميع القارات!

تتبعت كلماتك كلها، وكلما قرأت واحدة استفزنى الشغف بأسلوبها إلى انتظار الأخرى على أحرِّ من الجمر، فرأيت «خفة الروح» تنساب بين السطور انسيابًا، ورشاقة العبارات تتدفق تدفقًا، فلما أخذتنى الغيرة من ذلك الابتكار والتفنن، واسيت نفسى قائلًا: «إن الأسطى حنفى لم يأتِ بشيء من عنده، لأن هذه «نفثات» الأنفاس بلا جدال، وهو مشغول «بالكرِّ» نهارًا وليلًا «وبالشدِّ» صباحًا ومساء، ومن كانت هذه أدواته وحواشيه فمن يستطيع أن يماشيه؟! ..

«يمينًا» يا أسطى، لست أحابيك ولا أداجيك، إنما أقرر الواقع، لقد «لذعت» بكرباجك العظيم ظهور المتهتكين والمتهتكات، المتحذلقين والمتحذلقات، وقديمًا كان الكرباج أداة التهذيب والتأديب، ولكن كرباج العهد الغابر كان يسيل الدم ولا يجرح النفس، أما كرباجك أنت فلا يُسيل الدماء، ولكن يجرح النفوس، ونحن إنما نريد معالجة الأرواح لا الأبدان، فشكرًا لك يا طبيب النفوس، لا تفكر كثيرًا فى الأزمة يا أسطى، ولا تطمع، ومادام علفك وعلف أولادك ومواشيك موجودًا فاحمد الله، ومادمت فليسوفًا فليكن جيبك «فاضيًا» كقلبك، ألا تعلم أن من تصدى لتهذيب الجمهور وجب أن «يدوسه الجمهور»؟..

انظر «يمينك وشمالك» بسكوت، «وطبِّق» النظرية تجدها صحيحة، «فسِرْ» فى طريقك هادئًا، ولا تجمد فى «موقفك»، وأسمعنا «طرقعة كرباجك» فقد اختفى صوته من زمن بعيد، ولكن حذار أن تدفع أو «تجمح» فتكون التوصيلة «للواحات»! ..

أىْ عزيزى الأسطى: إن أمة حوذيَّتها مثلك لجديرة بأن «تركض ركضًا، و«تربع» إلى مطامعها لا تلوى على شىء فى الطريق..

إنى لفى غاية الشوق إلى كتابك، فهيا و«حضِّر» الملازم بسرعة فينتفع الجمهور، وأنا فى انتظارك فلا تتأخر على، مرسل طيه «اللى فيه القسمة» أرجو قبوله مساعدة فى الطبع.


فكرى أباظة المحامى 


ويرد عليه الأسطى حنفى أبو محمود: «وصلنى المبلغ، قدها وقدود يا سى فكرى، مش جايب الكرم من بره، والعرق دساس يا أستاذ.


محسوبك حنفى


عرف قراء «الكشكول» بعد صدور «مذكرات عربجى» ان الأديب الساخر المتخفى فى شخصية «الأسطى حنفى أبو محمود» هو الفنان القدير سليمان نجيب الذى أدهشهم عندما كان يسخر فى مقالاته من انتهازيى الثورات الشعبية، وفى مقدمتهم الشخصيات الجوفاء على مسرح السياسة، كما ينتقد بقسوة، نماذج بشرية يودّ أن ينزل على وجوهها بالكرباج باعتباره متقمصا لشخصية «حوذى» أو «عربجى» يستعرض حال المجتمع بعد ثورة 1919 وما جرى له من مفارقات تثير الاستياء، ويحكى «الأسطى حنفى أبو محمود» عن منهجه فى التطرق الى المسائل التى تناولها فى مذكراته: «لو أتيح لى أن أستعمل بدلا من القلم كرباجى «السوط»، إذا لقدر الله لوجوه كثيرة، أن ينزل عليها مفرقعا فى الهواء، تاركا أثرا أسود على خدود ليس للدم فيها أثر».

 


ومن أمثلة الانتهازيين السياسيين الذين يتناولهم الساخر سليمان نجيب فى «مذكرات عربجى»، المسئول الذى دخل عالم السياسة مع المنادين باستقلال مصر عن الاحتلال البريطانى، وبدأ حياته رافعا شعار «لا رئيس إلا سعد»، فى إشارة إلى الزعيم سعد زغلول، ثم تحوله إلى شعار آخر هو «عدلى فوق الجميع» وهو يعنى عدلى يكن رئيس وزراء مصر، ثم ينتقل المسئول الانتهازى إلى مرحلة ثالثة شعارها «لا حياة إلا لثروت» فى إشارة إلى عبد الخالق ثروت رئيس وزراء مصر !،

 

ويرجح سليمان نجيب بسخريته أن نهاية هذا المسئول ستكون بشعار «لا رئيس إلا ما تقتضيه الأحوال»، ويسجل سليمان نجيب على لسان الأسطى «حنفى أبو محمود» واقع عربته الخشبية التى حملت كثيرا وسط الصياح أحد المنادين بالاستقلال التام، إلى موعد بينه وبين شخصية ما، ومن ثم يأمرانه بالسير بعيدا عن زحام القاهرة، ليتشاكيا الغرام والنواح والألم، على حساب القضية، ويشبه سليمان نجيب انتهازيى السياسة والثورات بالذين «يتشعبطون» فى «الترام»، ويتشدقون بشعارات من قبيل «تحيا الحرية»، و«يحيا الاستقلال التام».

ويؤكد ساخرا أنها شخصيات متلونة تستحق «الموت الزؤام»، لأن لها أغراضا أخرى لا علاقة لها بالقضية الوطنية، ومن يتأمل بعمق ما بين السطور فى «مذكرات عربجى» سوف يستخلص الكثير من العبر والدروس التى يرصدها سليمان نجيب بسخرية لاذعة ووعى ناضج لمتغيرات مجتمع ما بعد الثورة «وأى ثورة»، وتعرى مواقف المتلونين والمتسلقين والمنافقين والانتهازيين الذين ظهروا فى أعقاب ثوره 1919 لينقضوا عليها بادعائهم الثورية، وتفضحهم «مذكرات عربجى» بخفة ظل لكاتب فنان عبقرى، وهو يجلدهم فى العلن بكرباج العربجى الساخر «الأسطى حفى أبو محمود»، الذى كشف الستار عن التحولات السياسية والاجتماعية الغريبة على المجتمع المصرى بعد ثورة 19. 


ونستخلص من المقالات التى نشرها سليمان نجيب فى «الكشكول» قبل أن يقوم بتجميعها ونشرها فى «مذكرات عربجى» أن كل ثورة تبرز مجموعة من الإنتهازيين الأفاقين المتلونين الذين ينقضون عليها ويركبون موجتها بادعاء الثورية مثلما فعلت جماعة الإخوان الإرهابية مع ثورة 23 يوليو 1952 ومحاولة اغتيال عبد الناصر لاختلافهم معه، ومثلما انقضوا على 25 يناير 2011، وظهر إرهابهم الدموى بعد أن استردت مصر هويتها فى ثورة 30 يونيو 2013 الشعبية التى نزل فيها أكثر من 30 مليون للميادين والشوارع بمساندة من قواته المسلحة، ووضع الفريق عبد الفتاح السيسى خارطة طريق أعادت لمصر الروح. 


من كتاب «مذكرات عربجى»