كنوز | أسعد زوجين

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم

جلس يصغى بانتباه إلى جهاز الراديو وقد تصاعد منه صوت ناعم يذيع: 

«يوضع اللحم فى البرام، ثم يغطى بالبطاطس، وتفرى بصلة فريا ناعما جدا، وتحمر فى السمن حتى يصفر لونها، فيضاف الدقيق ويقلب حتى يصبح ذا لون بنى فاتح، ثم تزاح الصلصة من على النار وتضاف مع البقدونس والملح والفلفل والبهار»، إلى آخر ما جاء فى برنامج التدبير المنزلى ذلك اليوم، وكان ذلك المستمع الكريم يسمع بقلب يخفق هياما فؤاد يطير شوقا ولعاب يسيل حنانا، وبرح به الغرام، والأذن تعشق قبل العين أحيانا، فلم يطق صبرا وقام إلى أهله يعلن إليهم:

«لا بد لى من الزواج من هذه المرأة». 


فسألوه: هل تعرفها ؟ 


قال: «لا أعرف إلا إذاعتها اللذيذة فى الراديو، إنها تهز قلبى».


وكان صاحبنا هذا من أولئك الذين يخلطون بين القلب والمعدة، فإذا سأله طبيب يوما: 


«أين معدتك؟» 


أشار إلى قلبه، وإذا سأله أين قلبك ؟ 


أشار إلى معدته !

وكان لا بد للمرأة التى تريد إكتساب قلبه من أن تستولى على المعدة أولا، فإذا ملكتها ملكت كل شىء.

وتمت مراسم عقد القران، وجاءت ليلة الزفاف، وأحيت الحفلة إحدى المطربات، جعلت تغنى طول الليل: «إحنا الإتنين والعين فى العين أهنأ قلبين وأسعد عريسين»، والعريس يتململ فى مقعده ضجرا من هذا الغناء، ويود الكلام فى موضع أعز عليه وألذ من هذا الهراء، وضاق صدره آخر الأمر ولم يحتمل، فانحنى على عروسه وقال لها باهتمام: 

«حدثينى بعد أن وضعت اللحم فى البرام، لقد قلت إنه يجب أن تفرى البصلة فريا ناعما جدا وتحمر فى السمن، ما قولك لو أضفنا مع البصل شيئا من الثوم والكزبرة والكمون ؟»


فنظرت إليه العروس طويلا ولم تجب!.

ومرت الأيام الأولى من أيام الزوجية، والعريس يتقلب على الشوق ويتقلى، منتظرا اليوم الذى تدخل فيه زوجته المطبخ، وتلبس فوطتها، وتشمرعن ساعديها، وتطبخ له تلك الأصناف الشهية التى طالما شنفت أسماعه بوصفها اللذيذ فى الراديو.


ودخلت الزوجة المطبخ أخيرا، وزوجها يباركها ويسأل الله أن يحميها، وعاد من عمله فى الظهر وهو يتلمظ ويقول: 


«صلوات الله على تلك التى ستسعدنى بالأكلة المثالية والطبخة النموذجية».


وانتظر ساعة ثم ساعة.. ثم كاد العصر يؤذن فخرجت الزوجة النشيطة من المطبخ والعرق والهباب يسيلان معا من وجهها وهى «ملبوخة» من رأسها إلى قدمها.. وقالت له: «لا مؤاخذة ! أنا استسهلت خوفا من التأخير وعملت لك طبق بيض مقلى»، فأخفى الزوج حسرته وكتم غضبه ومد يده صامتا إلى طبق البيض المقلى كما قالت.. فوجد سمنه قد تبخر وبياضه قد احترق وصفاره قد تحجر!

ودقت الساعة الرابعة، فبادرت الزوجة إلى ثياب الخروج وارتدتها وانطلقت مسرعة كأنها على موعد هام، وما وافت الساعة الخامسة والربع حتى سمع الزوج المسكين صوت امرأته الحنون يتصاعد من الراديو ويذيع على المستمعين المصدقين «يوضع اللحم فى البرام.. ثم يغطى بالبطاطس.. وتفرى بصلة فريا ناعما جدا.. وتحمر فى السمن ألخ... إلخ».


فأطرق الزوج مليا.. ولم يعد يدرى ماذا يفعل: «هل يضحك أم يبكى ؟!» . 


« آخر ساعة» 24 يوليو 1946
 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا