عبقرية على مر العصور..

بسّام الشماع: «تحتمس الثالث» باغت العدو في «مجدو».. وفعلها «السادات» في أكتوبر

عبقرية على مر العصور
عبقرية على مر العصور

أول جيش نظامى عرفه العالم فى الأسرة الخامسة بمصر القديمة

أغانى النصر لها أصول مصرية قديمة وأجدادنا عرفوا تقليد منح الأنواط 

احتلال الهكسوس للدلتا يشبه نكسه 67.. والمحنتان أظهرتا معدن المقاتل المصرى

 

ارتبط اسم الكاتب بسام الشماع، عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية والمحاضر فى علم المصريات، بالغوص فى أعماق التاريخ المصرى القديم مستخرجا لآلئه، فهو قادر عندما يبدأ فى الحديث على لفت انتباهك لدرجة قد تجعلك تستمع لساعات دون أن تمل أو تقول لنفسك يا ليته سكت.


وقبل سنوات كنت ضيفا على محاضرة ألقاها فى أحد المراكز الثقافية حول العسكرية فى مصر القديمة، فعرضت عليه قبل أيام من حلول ذكرى انتصار الجيش المصرى فى حرب السادس من أكتوبر، نستعيد تفاصيل محاضرته بطريقة مختلفة نحاول خلالها البحث عن أوجه الشبه بين الانتصارات التى حققها المصرى القديم، وما حققه أحفاده فى حرب السادس من أكتوبر قبل 48 عاما، فتحمس الرجل للفكرة، وفى اليوم التالى كان الحوار معه، والذى فاجأنى فيه، كما تعودت منه، بكم هائل من المعلومات تجعلك تدرك بأن ثقافة الانتصار متأصلة فى الشخصية المصرية منذ آلاف السنين..وإلى نص الحوار:

 

 شعرت بسعادة بالغة غلفت صوتك عندما عرضت عليك الحوار حول الربط بين معارك المصرى القديم ومعركة السادس من أكتوبر، فهل ستترجم هذه السعادة إلى كم هائل من المفاجأت كما تعودنا منك؟


تعلو وجهه ابتسامة عريضة قبل أن يقول: من المؤكد، فليس هناك أهم من هذه المناسبة العظيمة التى تعيدنى إلى سنوات الطفولة، عندما شاهدت فرحة الانتصار فى وجوه الجنود العائدين من سيناء، وعندما تعمقت فى قراءة التاريخ المصرى، أدركت أن هذا الجندى العظيم الذى لم تغب فرحته بالإنتصار عن مخيلتي، هو ابن حضارة عظيمة كانت أول من عرفت الجيش النظامي، الذى يتكون من أكثر من قسم وفرقة وسرية وفيلق، وكان ذلك فى الأسرة الخامسة، وهى أول أسرة تشهد جيشا موحدا يمثل مصر وليس أقاليمها فقط (حيث كان لكل إقليم قواته الخاصة)، وقد تم تعيين قائد للجيش اسمه «ونى» ليدافع عن مصر من غزوات الآسيويين آنذاك، وكان «ونى» بمثابة وزير الدفاع أو وزير الحربية فى حوالى ٢٤٠٠- ٢٣٥٠ قبل الميلاد، وقد خدم فى الجيش المصرى وقت الملوك « تتى» و «ببى الأول» و «مرنرع»، مما يدل على كفاءته القتالية وعبقرية تكتيكاته العسكرية ونجاحة كمسئول أول عن القوات المسلحة آنذاك لمدة طويلة.


 حماسك الواضح وأنت تتحدث عن هذا القائد العسكرى يشير إلى أنه لم يكن قائدا عاديا؟

يومئ بالموافقة قبل أن يقول وقد أصبح صوته أكثر حماسا: يكفى أن تعرف أن هذا القائد هو أول من أسس لنظام التجنيد، فقد وجد نص منقوش على لوحة حجرية من الحجر الجيرى كانت جزءا من الهيكل الداخلى لمقبرة القائد التى كانت على شكل مصطبة فى منطقة أبيدوس بـ «البلينا» سوهاج، يثبت أنه كانت هناك عملية تجنيد منظمة واختيار ممنهج للجنود للانضمام للجيش المصرى منذ أكثر من ٤٤٠٠ عام تقريبا، وهى نفس العملية والشروط السارية الآن، ويؤكد هذا النص أيضا على لسان هذا القائد العسكرى أن الجيش عاد من المعارك بسلام بعد أن دمر حصون الأعداء وأنه تم اقتياد القوات الجرارة للأعداء كأسرى، وهذا يعتبر تقريرا وبيانا عسكريا لحالة الانتصار بالتفاصيل كتلك البيانات التى ينتظرها الشعب لكى يتعرف على مجريات الأمور فى المنازلات العسكرية فى العصور الحديثة، حيث نقول الآن:» بيان عسكرى رقم واحد» وهكذا. 


وترك لنا «وني» عبارات رائعة تمثل لمحة من حياته الشخصية، وتثبت شخصية الجندى المصرى الاجتماعية وعلاقاته بأهله، حيث قال : « أنا إنسان محبوب من والده ، تثنى عليه والدته، أنا ابن بكر مُحبب لأشقائه.. أنا ونى». 


 يبدو أن لديك الكثير عن القائد «وني»، ولكن دعنا نكتفى بهذا القدر عنه، لنرى كيف كان يدير هو ورفاقه من القادة المعارك العسكرية، وكيف امتدت هذه الثقافة لأحفادهم فى حرب أكتوبر؟


يشير بيده طالبا الانتظار قبل أن يقول : أعرف أن هذه النقطة بالتحديد هى مبتغاك من الحوار، ولكن قبل أن ننطلق إليها يجب أن نؤسس لحقيقة أن الثقافة العسكرية المصرية قديمة، وتجلت فى كثير من الأمور الأخرى، ومنها مثلا الألقاب العسكرية، فالمصرى القديم هو أول من عرف نظام الرتب والألقاب العسكرية التى تشرح بدقة مهمة ودور الجندى، ومن هذه الألقاب « نفرو» و تعنى الشباب الصالحين وهم المجندون، و»عحاوتى» أى المُقاتل أو الفتاك، و «قن» أى الشجاع، «كفعو» أى القناص، و»كفعو قن» أى القناص المقدام، و «إدنو ن مشع» أى نائب الجيش أو (أركان حرب الجيش)، و»حرى ميدچای»، أى رئيس فيلق المدجاى، وهو من الفرق الجنوبية النوبية القوية جدا فى الجيش المصرى، وهى أشبه بفرقة الصاعقة أو القوات الخاصة بالجيش المصرى الحديث.


 هذا النظام الواضح فى الجيش المصرى القديم من المؤكد أنه مهّد لانتصارات عظيمة؟


تعود الابتسامة لتكسو وجهه قبل أن يقول : أقدّر تعجلك للحديث عن الإنتصارات فى هذه المناسبة العظيمة، وسأعطيك لمحة عن مشهد عظيم للمصرى القديم وهو يفك العجلات الحربية فى معركة « مجدو « الشهيرة، ويحملها ليعيد تركيبها فى مكان آخر، وهو مشهد مقارب للجندى المصرى الشجاع، وهو يحمل سلاحا ثقيلا فوق ظهره وهو يتسلق الساتر الترابي، فى حرب السادس من أكتوبر.


 ولماذا أقدم على فك العجلات الحربية فى تلك المعركة؟


تختفى الابتسامة لتفسح المجال لمشاعر الحماس التى عادت تكسو وجهه وهو يقول : تفكيك العجلات الحربية خدعة كبيرة قام بها المقاتل المصرى فى معركة مجدو بفلسطين، وهى أقدم وأول منازلة عسكرية فى التاريخ المصرى القديم يتم شرحها وتوثيقها بدقة متناهية، ويتم تدريسها فى الأكاديميات العسكرية، وفى هذه المعركة العظيمة عام 1482 قبل الميلاد، والتى حارب فيها الجيش المصرى القديم التحالف الآسيوى فى مجدو المكون من «٣٣٠ أميراً» بفيالقهم القوية تحت قيادة أمير قادش، جنح الملك چحوتى مس» الثالث (المعروف باسم تحتمس الثالث)إلى طرق الدرب الوعر المسمى بـ «عارونا» وهو ممر ضيق لا تصلح أرضيته لمرور العجلات الحربية، فتم إصدار الأوامر بتفكيك العجلات الحربية وحملها حتى الوصول الى الطرف الآخر فى نهاية الأمر ليتم تركيبها ومحاربة كونفدرالية الأعداء ودحرها، وكان الهجوم على الفيالق الآسيوية من منطقة لم يتوقعوها من هذه الجهة الجبلية الصعبة الوعرة، وهو ما أفقدهم اتزانهم، وهذا يذكرنا بنفس أسلوب الرئيس الراحل محمد أنور السادات ، والذى استخدم عنصر المفاجأة، ولجأ إلى طريقة غير تقليدية لتفكيك خط بارليف.


 من المؤكد أن فى حياة الشعوب عثرات تقود لانتصارات، فما هى العثرة التى أظهرت شخصية المقاتل المصرى القديم؟


يأخذ رشفة من الماء وهو يشير بإبهامه مبديا إعجابه بالسؤال، قبل أن يقول: من الجيد أنك طرحت هذا السؤال، لأنى أجد أوجه تشابه كبيرة بين نكسة 1967 واحتلال الهكسوس لجزء كبير من مصر، وتخبرنا نصوص قديمة نحتت على مقبرة القائد العسكرى «ايعح مس إبن إبانا» فى منطقة «الكاب» التى تقع على بعد ١٧ كيلومترا شمال مدينة «إدفو» بالجنوب المصرى العظيم بالعديد من التفاصيل التى تثبت شجاعة هذا الجندى المصرى فى تحد هو من أصعب التحديات التى واجهت الجيش والشعب المصرى فى التاريخ القديم.


وتذكرنى تلك الفترة بفترة بنكسة ٦٧ والسنوات التى تلتها، بصلابة معدن الإنسان المصرى، على الرغم من نجاح العدو فى الحالتين من احتلال جزء هام وعزيز من أرضنا، ففى حالة ٦٧ تم احتلال سيناء إلا «بور فؤاد»، وفى حالة الهكسوس تم احتلال شمال مصر متضمنة الدلتا، حيث أقام الأعداء عاصمتهم «أواريس أو أفاريس» و هى منطقة تل الضبعة بمحافظة الشرقية الآن، وقد عاصر هذا البطل المغوار والجندى الشجاع عددا من الملوك، وهم أحمس الأول و إمنحتب الأول وجحوتى مس الأول(تحتمس)، وقد تم تكريمه ١٣ مرة لشجاعته وإنجازاته العسكرىة وترقى إلى مناصب عسكرية عالية مثل رئيس بحارة الملك.


ويقول «إيعاح مس إبن إبانا» فى نصه القديم :» لقد كوفئت بالذهب سبع مرات فى حضرة البلاد بأسرها، كما خصصت لى قطع عديدة جدا من الأرض»، ويسرد فى موضع آخر بطولاته عندما حاصر الجيش المصرى مدينة «أواريس» عاصمة الهكسوس قائلا : «وضرب الحصار حول مدينة (أواريس) وسنحت لى الفرصة لأبرهن على بسالتى فى حضرة جلالته».


 أعتقد أن تكريم القائد «ايعاح مس إبن إبانا» يكشف عن تقليد مهم فى العسكرية المصرية وهو الاحتفاء بالمنتصرين؟


يومئ بالموافقة قبل أن يقول : بالضبط، فجميعنا لا ينسى الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وهو يكرم أبطال نصر أكتوبر المجيد فى قاعة مجلس الشعب وأهداهم الأنواط والنياشين والرتب العالية كنوع من التكريم والتقدير من الدولة متمثلة فى الحاكم، وحدث نفس الشئ فى مصر القديمة .


وكلمة نوط أى نيشان تنطق بالهيروغليفية «نوت»، ومن واقع النصوص نجد كيف تلقى أبطال الجيش فى مصر القديمة المكافآت والهدايا والانواط تقديرا لبسالتهم، وكتب البطل المغوار «إمن إم حب» والذى شارك فى معظم الأحداث العسكرية فى زمن الملك جحوتى مس الثالث (تحتمس الثالث) يقول « وهبنى ذهبا فى حضرة الجميع نظرا لشجاعتى».


كما حصلت الملكة «إيعاح حتب» زوجة القائد العظيم «سقنن رع تاعا الثانى» ووالدة الملك المنتصر ايعاح مس (أحمس) على نوط عسكري، لدورها الفعال والهام أثناء مرور البلاد بأحداث جسام منها مقتل الملك فى حرب التحرير ضد الهكسوس، وبالتالى تصبح من أوائل السيدات فى التاريخ اللاتى يحصلن على وسام عسكرى حربي.


يشجعنى هذا التقارب بين الأحداث على سؤال ربما يكون مناسبا لنختم به الحوار، وهو هل المصرى القديم يحتفل أيضا بالانتصارات كما نفعل كل عام فى ذكرى حرب أكتوبر؟ 


تعطينى الابتسامة العريضة التى ارتسمت على وجهه أملا فى أن لديه أيضا تفاصيل تكشف عن أوجه للتقارب، وهو ما تأكد بقوله : ستفاجأ بأن هناك بعض العبارات الهيروغليفية التى تشبه أغانينا وأمثالنا وكلماتنا الوطنية الآن.


 كيف؟ «قلتها وقد ارتسمت على وجهى علامات الدهشة».


يشير بيده طالبا الانتظار ليسترسل فى الحديث قائلا : من الأمثلة على التقارب هو إطلاق المصرى القديم كلمة «كمت» ومعناها سمراء على الوادى الخصيب لنهر النيل.