«الجمسي» يشرح في مذكراته .. مقدمات معجزة أكتوبر

المشير محمد عبد الغني الجمسي
المشير محمد عبد الغني الجمسي

كتبت: فادية البمبي

قال كيسنجر قبل حرب اكتوبر ١٩٧٣.. نصيحتى للسادات أن يكون واقعيا، فنحن نعيش فى عالم الواقع، ولا نستطيع أن نبنى شيئا على الأمانى والتخيلات.

والواقع أنكم مهزومون، فلا تطلبوا ما لا يطلبه إلا منتصر، لا بد أن تكون هناك بعض التنازلات من جانبكم حتى تستطيع أمريكا أن تشاهدكم، فكيف يتسنى وأنتم فى موقف المهزوم أن تملوا شروطكم على الطرف الآخر، إما أن تغيروا الواقع الذى تعيشونه، فيتغيـر بالتبعية تناولنا للحل، وإما أنكم لا تستطيعون، وفى هذه الحالة لا بد من إيجاد حلول تتناسب مع موقفكم غير الحلول التى تعرضونها .

هكذا كانت نظرة العالم لنا قبل تحقيق المعجزة والنصر الكبير فى أكتوبر 1973.

وبدأ عام ١٩٧٢ وصدر قرار تعيين المشير محمد عبد الغني الجمسي فى منصب رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة، فى الأسبوع الأول من يناير من ذلك العام، ويصحبنا الجمسي فى مذكراته التى صدرت طبعة جديدة منها منذ أيام عن دار الميدان بعد أن صدرت طبعتها الأولى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب إلى قلب الأحداث قائلا: كنت أقدر عبء هذا المنصب ومسئولياته في هذا الوقت العصيب، برغم أني لن أبدأ من فراغ، لأن جهد الرجال الذين سبقوني لا يمكن تجاهله أو إغفاله، كنا لا نزال نعلق جراحنا منذ حرب يونيو 1967، هذه الحرب التى خسرناها لأخطاء سياسية وعسكرية ارتكبناها، وخاضت القوات المسلحة بعد ذلك معارك متتالية ضد إسرائيل، تدرجت من مرحلة الدفاع، إلى مرحلة الدفاع النشط، وتصاعدت إلى حرب الاستنزاف، حتى دخلنا مرحلة اللاسلم واللاحرب، ومنها إلى طريق مسدود أمام الحلول السلمية لمشكلة الشرق الأوسط، وكان واضحا أمامنا فى القيادة العامة للقوات المسلحة، أن إسرائيل وضعت لنفسها هدفا استراتيجيًا ـ بعد حرب يونيو ـ هو «منع الدول العربية من تحرير أراضيها بالقوة حتى ترضخ الإرادة العربية للإرادة الإسرائيلية، فيتحقق السلام بشروط إسرائيل، ومعنى ذلك أن يكون لها التفوق العسكرى على الدول العربية، حتى تفرض الأمر الواقع بالقوة العسكرية فى الأرض المحتلة، وتمنع العرب من التفكير فى حرب شاملة ضدها  وخلق الإحساس لدينا بالعجز واليأس من جدوي الصراع المسلح، تحقق لإسرائيل هذا التفوق بمعاونة الولايات المتحدة الأمريكية التى أصبحت حليفا مـضـمـونـا لهـا بشكل واضح وسـافـر، تؤيدها سياسيا وتدعمها عسكريا واقتصاديا منذ حرب يونيو.

وكان الانعكاس الواضح لسياسة القوتين العظميين، أن الولايات المتحدة تغـدق على إسرائيل الأسلحة بالأنواع والكميات، وفى التوقيتات التي تضمن لها التفوق العسكرى الدائم على الدول العربية مجتمعة، وكان الاتحاد السوفيتي يقدم الدعم العسكري لمصر وسوريا بالأنواع والكميات وفى التوقيتات التى لا تسمح بالتفوق على إسرائيل، ولا تسمح بسباق التسلح فى المنطقة ـ تلك كانت معايير القوتين العظميين فى ظل سياسة الوفاق بينهما تحقيقا لمصالح كل منهما، وبالإضافة للتفوق العسكرى الذي تتمتع به إسرائيل، فإنه ـ نتيجة لحرب يونيو ـ وصلت قـواتـهـا إلى قناة السويس جنوبا، ونهر الأردن شرقا، والمرتفعات السورية (الجولان) شمالاً، وهى كلها موانع طبيعية، وأصبحت هذه الخطوط تشكل أفضل الأوضاع العسكرية الاستراتيجية لها،ولما كانت القوات المصرية هى العدو الرئيسى لإسرائيل، فقد ركزت جهودها ضدنا فى سيناء، أقامت فيها التحصينات والخطوط الدفاعية، وأنشأت المطارات، ومدت الطرق، ووضعت القوات الكافية المدرية فى سيناء لمواجهة أى هجوم مصرى محتمل، مع اعتمادها بصفة رئيسية على المدرعات، وقدرت إسرائيل ان عبور قواتنا بتشكيلات كبيرة قناة السويس، وهى مانع فريد فى مواصفاته، فى مواجهة مقاومة شديدة من جانب القوات الإسرائيلية يعتبر مشكلة ضخمة أمامنا، يصعب علينا ـ من وجهة نظرهم ـ حلها إن لم تكن مستحيلة،فإذا خاطرنا بالإقدام على هذا العمل،فستكون القناة ـ كما قال الجنرال اليعازر رئيس الأركان الإسرائيلى  مقبرة لنا، وخبرة الحروب السابقة - علّمت إسرائيل وعلمتنا - أنه لا يتم تعاون عسكرى بين الدول العربية فى الحرب، وعلى ذلك فإن إسرائيل يمكنها الإنفراد بكل جبهة على حدة، وطالما أن مصر غير قادرة على القيام بهجوم شامل، فلا مجال لباقى الدول العربية أن تحارب ونتيجة لكل ما سبق، قدرت إسرائيل أنها تفرض الأمر الواقع بالقوة حتى يستسلم العرب، وهذا الموقف، يحقق أيضا أهداف الولايات المتحدة فى صراعها السياسى ضد الاتحاد السوفيتى فى المنطقة،وبرغم الجهود السياسية والدبلوماسية التى بذلتها مصر والدول العربية منذ عام ١٩٦٧ لإيجاد حل سياسى للأزمة إلا أنه مع بداية عام ١٩٧٢ كانت الجـهـود المبذولة لتحقيق الحل السلمى قد توقفت نهائيا، وسيطرت المعركة الانتخابية انتخابات رئيس الولايات المتحدة) على التفكير الأمريكى، وسعى الرئيس الأمريكى نيكسون إلى مزيد من إرضاء إسرائيل، فأصدر تعليماته إلى وزارة الخارجية الأمريكية بتجميد أى تحرك أو مبادرة بالنسبة للشرق الأوسط، وقرر الاستجابة لطلبات إسرائيل لتزويدها بالمزيد من الطائرات،وفى ٢ فبراير ١٩٧٢ توصلت إسرائيل لتوقيع اتفاق مع الولايات المتحدة حصلت إسرائيل بموجبه على ٤٢ طائرة فانتوم و٨٢ طائرة سكاى هوك،وكانت هذه الدفعة الجديدة من الأسلحة الجديدة تتم فى ظل هدوء كامل يسود جبهة القتال - جبهة القناة - منذ حوالى عام ونصف العام.

ولكن الأمر الأكثر خطورة من ذلك، هو أن الولايات المتحدة تعهدت فى مذكرة قدمتها لإسرائيل فى الوقت نفسه بأنها لن تتقدم بأى مبادرة سياسية جديدة فى الشرق الأوسط قبل مناقشتها مع إسرائيل. ونتيجة لهذا التعهد أصبح الموقف الأمريكى رهينًا للسياسة الإسرائيلية...

وكان هذا هو أخطر تعـهـد تقـدمت به الولايات المتحدة لإسرائيل». وكان أمام مصر فى ذلك الوقت - عام ١٩٧٢ ـ إمـا قـبـول الأمر الواقع بمساوئه السياسية والعسكرية والاقتصادية والمعنوية أو خوض حرب جديدة ضد إسرائيل فى ظل ظروف سياسية وعسكرية صعبة. فكان قرار الحرب هو النتيجة الطبيعية للطريق المسدود الذى وصلت إليه الجهود السياسية، وبالتالى أصبحت الحـرب حتمية، لقـد كـان الهـدف السياسى للدول العربية بعـد حـرب يونيو 1967 هو تحرير الأراضي العربية التى احتلتها إسرائيل فى تلك الحرب، وهو ما أطلق عليه «إزالة آثار العدوان». لذلك بذلت الدول العربية على مستوى مؤتمرات القمة والجامعة العربية والاتصالات الثنائية جهودا كبيرة لضمان «قومية المعركة، واشتراك الدول العربية بجزء من قواتها العسكرية فيها، إلى أن أُنشئت فى إحدى المراحل «الجبهة الشرقية، التى تضم سوريا والأردن والعراق، يقـودها قائد عراقى، ولكنها واجهت مصاعب وحساسيات أدت إلى انهيار هذه القيادة وإلغائها، فى وقت كنا ـ نحن العرب ـ فى أشد الحاجة إلى بقائها وتقويتها وتدعيمها.

وعلى ضوء هذه التجربة فى ذلك الوقت العصيب، والخبرة السابقة منذ عام ١٩٤٨ عن عدم إمكان إيجاد تخطيط عسكرى عربى مشترك، لم يكن أمام مصر إلا التخطيط للقيام بعمل عسكرى وحـدها لتحرير سيناء،وكان على سوريا أن تقـوم بنفس العمل وحدها لتحرير المرتفعات السورية (الجولان)، وينطبق نفس الشيء على الأردن وحدها لاسترداد الضفة الغربية.