زمن الكوميديا الجميل .. هل يعود ؟

د. إلهام سيف الدولة حمدان
د. إلهام سيف الدولة حمدان

د‭. ‬إلهام‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬حمدان

برغم‭ ‬أننا‭ ‬‮«‬شعب‭ ‬ابن‭ ‬نُكتة‮»‬‭ ‬ـ‭  ‬كما‭ ‬يقولون‭ ‬ـ‭ ‬فلم‭ ‬يستطع‭ ‬كُتَّاب‭ ‬هذا‭ ‬الهزل‭ ‬والهراء‭ ‬المقدم‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الدرامية‭ ‬التي‭ ‬تطالعنا‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬،‭ ‬أن‭ ‬يلتقطوا‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬الكوميدية‭ ‬ـ‭ ‬الإيجابية‭ ‬والسلبية‭ ‬ـ‭ ‬التي‭ ‬تزخر‭ ‬بها‭ ‬مجتمعاتنا،‭ ‬لتصبح‭ ‬مادة‭ ‬ممتازة‭ ‬للكتابة‭ ‬الجادة‭ ‬الهادفة،‭ ‬لنرى‭ ‬مزايا‭ ‬أوعيوب‭ ‬أنفسنا‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ ‬الفضية‭ ‬أو‭ ‬السينمائية‭ ‬أو‭ ‬المادة‭ ‬المسموعة‭ ‬في‭ ‬الإذاعة،‭ ‬لنقتدي‭ ‬بالإيجابي‭ ‬ونتفادى‭ ‬السلبي،‭ ‬وهذا‭ ‬مايجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬صميم‭ ‬أهداف‭ ‬صانعي‭ ‬البهجة‭ ‬والفرح‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا‭ ‬المصري‭ ‬والعربي‭ . ‬

ولهذا‭ .. ‬وعندما‭ ‬يُفتقد‭ ‬‮«‬البدرُ‮»‬،‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬نغرق‭ ‬في‭ ‬تداعيات‭ ‬واستدعاء‭ ‬لذكريات‭ ‬زمن‭ ‬ملوك‭ ‬الكوميديا‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬والسينما‭ ‬والتليفزيون‭ ‬والإذاعة،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬نجيب‭ ‬الريحاني‭ ‬وعادل‭ ‬خيري‭ ‬وماري‭ ‬منيب‭ ‬وشرفنطح‭ ‬وعبد‭ ‬الفتاح‭ ‬القصري‭ ‬وعلي‭ ‬الكسار‭ ‬واسماعيل‭ ‬يس‭ ‬ومحمود‭ ‬شكوكو‭  ‬ورياض‭ ‬القصبجي‭ ‬وعبد‭ ‬السلام‭ ‬النابلسي‭ ‬وعبد‭ ‬المنعم‭ ‬مدبولي‭ ‬وعبد‭ ‬المنعم‭ ‬ابراهيم‭ ‬وفؤاد‭ ‬المهندس‭ ‬وشويكار‭ ‬وأمين‭ ‬الهنيدي‭ ‬وسميرغانم‭ ‬وجورج‭ ‬سيدهم‭ ‬والضيف‭ ‬احمد‭ ‬ومحمد‭ ‬عوض‭ ‬وعادل‭ ‬إمام‭ ‬ومحمد‭ ‬صبحي‭ ‬وغيرهم‭  ‬،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬روعة‭ ‬فوازير‭ ‬رمضان‭ ‬خفيفة‭ ‬الظل‭  ‬نيللي‭ ‬أوشريهان‭ ‬مع‭ ‬المخرج‭ ‬الراحل‭ ‬فهمي‭ ‬عبد‭ ‬الحميد‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬أشهى‭ ‬وجباتنا‭ ‬الرمضانية‭..‬إلخ‭  ‬،‭ ‬هذه‭ ‬القائمة‭ ‬الرائعة‭ ‬من‭ ‬رواد‭ ‬فن‭ ‬الكوميديا‭ ‬التي‭ ‬لاتعتمد‭ ‬على‭ ‬مجرد‭ ‬السخرية‭ ‬المقيتة‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬القدرات‭ ‬الخاصة،‭ ‬بل‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬كوميديا‭ ‬المواقف‭ ‬و‭ ‬المفارقات‭ ‬غير‭ ‬المفتعلة‭ ‬أو‭ ‬المصنوعة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬‮«‬لَـيْ‮»‬‭ ‬عنق‭ ‬اللسان‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬واستخدام‭ ‬تضاريس‭ ‬الجسد‭ ‬في‭ ‬محاولات‭ ‬يائسة‭ ‬لجلب‭ ‬مايشبه‭ ‬الضحك‭ !‬

‭ ‬والحق‭ ‬يُقال‭ .. ‬إننا‭ ‬لم‭ ‬نضحك‭ ‬أبدًا‭ ‬من‭ ‬أعمالهم‭ ‬‮«‬الكوميهزلية‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬ضحكنا‭ ‬بمرارة‭ ‬العلقم‭ ‬على‭ ‬أعمالهم‭ ‬وإسفافهم‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بتشويه‭ ‬التراث‭ ‬الكوميدي،‭ ‬بإعادة‭ ‬التقليد‭ ‬الفج‭ ‬واستخدام‭ ‬ألحان‭ ‬بعض‭ ‬الأغاني‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬عاشت‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬وجداننا،‭ ‬بتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬مسخ‭ ‬مشوَّه‭ ‬بكلماتٍ‭ ‬تحاول‭ ‬جلب‭ ‬الابتسامة‭ ‬والضحكة،‭ ‬ولكن‭ ‬هيهات‭ .. ‬فلم‭ ‬نستمتع‭ ‬بالجديد‭ ‬ولا‭ ‬تركونا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬أجواء‭ ‬القديم‭ ‬وذكرياته‭ ‬وتم‭ ‬تشويش‭ ‬أذهاننا‭ ‬على‭ ‬الجميع،‭ ‬فلا‭ ‬نعِمْنَا‭ ‬ببلوغنا‭ ‬حلاوة‭ ‬‮«‬بلح‭ ‬الشام‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬أدركنا‭ ‬حُصْرم‭ ‬‮«‬عنب‭ ‬اليمن‭ ‬‮«‬،‭ ‬ولا‭ ‬يتبقى‭ ‬لنا‭ ‬إلا‭ ‬المقولة‭ ‬التي‭ ‬أثبتت‭ ‬صحتها‭ ‬إن‭ :‬‮»‬‭ ‬شر‭ ‬البليَّة‭ .. ‬مايُضحك‮»‬،‭ ‬ولكنه‭ ‬ضحكٌ‭ ‬كالبكاء،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬الشاعر‭ ‬أبوالطيب‭ ‬المتنبي‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬سنة‭ !‬

لقد‭ ‬أضحكنا‭ ‬‮«‬شارلي‭ ‬شابلن‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬استلقينا‭ ‬على‭ ‬أقفيتنا‭ ‬في‭ ‬شخصياته‭ ‬الشهيرة‭ ‬التي‭ ‬لعب‭ ‬أدوارها‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ ‬مثل‭ :‬‮»‬المتشرد،‭ ‬الصعلوك‭ ‬أو‭ ‬المتسَكِّع‮»‬‭ ‬برغم‭ ‬عدم‭ ‬نطقه‭ ‬بكلمةٍ‭ ‬واحدة‭ ‬أيام‭ ‬السينما‭ ‬الصامتة،‭ ‬ولكننا‭ ‬عشنا‭ ‬معه‭ ‬بكل‭ ‬جوارحنا‭ ‬ومشاعرنا‭ ‬الفياضة‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭.  ‬فهل‭ ‬نضُب‭ ‬معين‭ ‬أقلام‭ ‬الأدباء‭ ‬والكتَّاب‭ ‬الذين‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يغترفوا‭ ‬فنونهم‭ ‬من‭ ‬بئر‭ ‬أدب‭ ‬الكوميديا‭ ‬العميق؟‭! ‬وبالطبع‭ ‬عجز‭ ‬المخرجون‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬يصنعوا‭ ‬‮«‬‭ ‬من‭ ‬الفسيخ‭ .. ‬شربات‮»‬،‭ ‬لماذا‭ ‬؟

‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬القُماشة‮»‬‭ ‬المهترئة‭ ‬باهتة‭ ‬الألوان‭ ‬لن‭ ‬تُعطينا‭ ‬ـ‭ ‬أبدًا‭ ‬ـ‭  ‬ثوبًا‭ ‬قشيبًا‭ !‬

افتحوا‭ ‬الأبواب‭ ‬والنوافذ‭ ‬لإبداعات‭ ‬كتابات‭ ‬الأدباء‭ ‬الشبان‭ ‬للدخول‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬الإذاعة‭ ‬والتليفزيون‭ ‬والسينما،‭ ‬بدلاًمن‭ ‬الأسماء‭ ‬التي‭ ‬أكل‭ ‬عليها‭ ‬الدهر‭.. ‬وشرب‭ ! ‬ربما‭ ‬نكتشف»بديع‭ ‬خيري‮»‬‭ ‬جديد،‭ ‬أو‭ ‬نسخة‭ ‬حديثة‭ ‬من‭ ‬جهابذة‭ ‬كتَّاب‭ ‬الكوميديا‭ ‬العظماء‭ ‬أمثال‭: ‬أبو‭ ‬السعود‭ ‬الإبياري‭ ‬ومحمود‭ ‬السعدني‭ ‬ومحمد‭ ‬عفيفي‭ ‬ولينين‭ ‬الرملي‭ ‬وغيرهم‭ .‬

لاتستهينوا‭ ‬بالمبدعين‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الكوميديا،‭ ‬أو‭ ‬وضعهم‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬وفئة‭ ‬كتَّاب‭ ‬الدرجة‭ ‬الثانية‭ ‬أو‭ ‬الثالثة‭ ‬والبخس‭ ‬من‭ ‬مقدارهم‭ ‬وأجورهم،‭ ‬فتفجير‭ ‬قنبلة‭ ‬عنقودية‭ ‬حارقة‭ ‬أسهل‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬تفجير‭ ‬ضحكة‭ ‬صافية‭ ‬صادقة‭  ‬صادرة‭ ‬من‭ ‬الأعماق،‭ ‬ولا‭ ‬تكونوا‭ ‬كـ‭ ‬‮«‬والد‭ ‬العروس‮»‬‭ ‬عندما‭ ‬قام‭ ‬بسؤال‭ ‬‮«‬العريس‮»‬‭ ‬المتقدم‭ ‬للزواج‭ ‬من‭ ‬ابنته‭ ‬عن‭ ‬مهنته،‭ ‬ورفض‭ ‬أن‭ ‬يبارك‭ ‬إتمام‭ ‬تلك‭ ‬الزيجة،‭ ‬عندما‭ ‬علم‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬طبيب‭ ‬أطفال‮»‬‭ ‬قائلا‭ ‬ً‭ ‬له‭: ‬إذهب‭ ‬يابُني‭ ‬لاستكمال‭ ‬تعليمك‭ ‬أولاً‭ ‬؟‭! ‬إنها‭ ‬كوميديا‭ ‬الكوميديا‭ ‬لو‭ ‬تعلمون‭ !‬

إن‭ ‬مصر‭ ‬المعطاء‭ ‬غنية‭ ‬دائمًا‭ ‬بمفكريها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار،‭ ‬فقط‭  ‬فتشوا‭ ‬وابحثوا‭ ‬عن‭ ‬مبدعي‭ ‬الكوميديا‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬في‭ ‬مدنها‭ ‬وقراها‭ ‬ونجوعها‭ ‬وكفورها‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬المواهب‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تحظ‭ ‬سوى‭ ‬بالتهميش‭ ‬والتطنيش،‭ ‬وإغلاق‭ ‬الأبواب‭ ‬والسجلاَّت‭ ‬على‭ ‬بضع‭ ‬أسماءٍ‭ ‬بعينها،‭ ‬اعلنوا‭ ‬عن‭ ‬عقد‭ ‬مسابقات‭ ‬بجوائز‭ ‬محترمة‭ ‬يقوم‭ ‬بالتحكيم‭ ‬فيها‭ ‬لجان‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬النخبة‭ ‬المصرية‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانين‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الفنون‭ ‬الإبداعية‭ ‬كافة‭ .‬

وبالتأكيد‭ .. ‬ستتحلَّق‭ ‬العائلة‭ ‬بكل‭ ‬أطيافها‭ ‬حول‭ ‬شاشة‭ ‬التليفزيون،‭ ‬وسيخرج‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬سهراتٍ‭ ‬جميلة‭ ‬إلى‭ ‬المسرح‭ ‬والسينما،‭ ‬فالبحث‭ ‬عن‭ ‬صفاء‭ ‬الضحك‭ ‬والابتسامة‭ ‬سنجده‭ ‬حتمًا،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬جاءت‭ ‬بالجلوس‭ ‬مع‭ ‬الأطفال‭ ‬على‭ ‬دكة‭ ‬‮«‬صندوق‭ ‬الدنيا‮»‬‭ !‬

لا‭ ‬أذيع‭ ‬سرا‭ ‬حين‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬بلادي‭ ‬ينشدون‭ ‬الضحك‭ ‬جالب‭ ‬الفرح‭ ‬القلبي‭ ‬الذي‭ ‬يعين‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬مصاعب‭ ‬الحياة،هل‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬الشهير‭ ‬بأنه‭(‬ابن‭ ‬النكتة‭) ‬بالأمر‭ ‬العسير‭ ‬وبلدنا‭ ‬غنية‭ ‬بالمواهب‭ ‬الفذة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجالات‭ ‬الفنون‭ ‬وتلاوينها؟‭! ‬يقينا‭ ‬لا‭ ‬وألف‭ ‬لا،وظني‭ ‬أن‭ ‬المختصون‭ ‬سيضعون‭ ‬في‭ ‬اعتبارهم‭ ‬تغذيتنا‭ ‬بهذا‭ ‬الفن‭ ‬المفتقد‭ ‬الذي‭ ‬تاه‭ ‬وسط‭ ‬زحام‭ ‬الفنون‭ ‬الأخرى،ربما‭ ‬نستعيد‭ ‬نسمات‭ ‬زمن‭ ‬الكوميديا‭ ‬الجميل،فالبسمة‭ ‬طريق‭ ‬إلى‭ ‬السعادة‭ ‬بها‭ ‬تعالج‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬التي‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬النفوس‭ ‬السقيمة،‭ ‬اذن‭ ‬هي‭ ‬دواء‭ ‬وليست‭ ‬مجرد‭ ‬فن‭ ‬للتسلية‭ ‬وتمضية‭ ‬الوقت‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬زاد‭ ‬للروح‭ ‬العطشى‭ ‬إلى‭ ‬الفرح‭ ‬،وطريقة‭ ‬من‭ ‬طرائق‭ ‬التنفيث‭ ‬عن‭ ‬مشكلات‭ ‬نواجه‭ ‬بها‭ ‬أنفسنا‭ ‬ومجتمعنا‭ ‬تدفعنا‭ ‬إلى‭  ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬الحلول،فهي‭ ‬ليست‭ ‬مرادفة‭ ‬للهزل‭ ‬بل‭ ‬ننشدها‭ ‬هادفة‭ ‬كما‭ ‬اعتدنا‭ ‬تعاطيها‭ ‬من‭ ‬مدارسها‭ ‬وروادها‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬ليس‭ ‬بالبعيد‭.‬