فى ذكرى رحيلك الــ 51 ستظل حاضراً يا «حبيب الملايين»

الرئيس جمال عبد الناصر وكاتبه المفضل محمد حسنين هيكل
الرئيس جمال عبد الناصر وكاتبه المفضل محمد حسنين هيكل

اللهم اعطنا القوة لندرك أن الخائفين لا يصنعون الحرية والضعفاء لا يخلقون الكرامة والمترددين لن تقوى أيديهم المرتعشة على  البناء. 

جمال عبد الناصر
 

فى الثامن والعشرين من شهر سبتمبر عام 1970 أسلم زعيم الأمة جمال عبد الناصر الروح وخرجت الملايين فى كل المحافظات تبكيه وتنوح عليه وهى تناديه «الوداع يا حبيب الملايين»..

من عاش هذه اللحظة أصبح عمره الآن 51 عاما، ومن لم يعشها ننقلها إليه لمعرفة الساعات الأخيرة فى حياة الرئيس كما يرويها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى مقال له


يقول الأستاذ هيكل فى مقال «بصراحة» المنشور بتاريخ 16 أكتوبر 1970 إن الرئيس عبد الناصر خرج من البيت قبل الساعة التاسعة بدقيقتين ، واتصل به فى الساعة الواحدة ، كان صوته متعبا ، واقترح على الرئيس ضرورة الحصول على إجازة ، فقال لهيكل إنه سوف يستريح بعد وداع أمير الكويت ، وفى الدقائق الأخيرة من وداع أمير الكويت بالمطارأحس الرئيس بأنه متعب ، وقبل أمير الكويت وهو يتصبب عرقا والدوار يعتريه ، صعد أمير الكويت إلى طائرته ، والتفت الرئيس يطلب سيارته على غير المعتاد وهو يقول لسكرتيره محمد أحمد: «أطلب الدكتور الصاوى يقابلنى الآن فى البيت».


وصل الرئيس لبيته ثم صعد لغرفة نومه وبدل ملابسه وأحس الجميع بأنه متعب ، وكانت معه بالغرفة السيدة قرينته ، دخل إلى سريره وجاء الدكتور الصاوى ولم يطاوعها قلبها على الخروج بغير سؤال لمحه الرئيس فى عينيها قبل أن تنطق به، فقال لها الدكتور مطمئنا : «لا تخافى ، أظنه نقص فى السكر» ، فقالت بسرعة: «هل أجيئك بشيء ؟» فقال الدكتور الصاوى: «أى عصير» ، خرجت من الغرفة ، بينما الدكتور الصاوى يشعر من أول لحظة أن هناك طارئا خطيرا ، طلب من محمد أحمد استدعاء الدكتور منصور فايز، والدكتور زكى الرملي، عاد إلى غرفة نوم الرئيس ، ودخلت قرينة الرئيس حاملة كوب عصير برتقال وكوب عصير ليمون، واختار الرئيس كوب البرتقال وشربه ، بدأ الدكتور الصاوى محاولاته لوقف الطارئ الخطر، كان تشخيصه أن هناك جلطة فى الشريان الأمامى للقلب، ولما كانت الجلطة السابقة فى سبتمبر من العام الماضى قد أثرت فى الشريان الخلفى ، إذن الموقف دقيق وحرج ، وصل الدكتور منصور فايز، وبوصوله أحست قرينة الرئيس أن هناك شيئا غير عادى ، اقتربت منه وهى تقول له : «لا تؤاخذنى يا دكتور، لا اقصد اساءة ، ولكن مجيئك يقلقنى، أنت تجيء عندما يكون هناك شيء غيرعادى» ، قال لها: «أرجوك ان تطمئنى ، كل شىء بخير إن شاء الله»، ولحق به بعد قليل الدكتور زكى الرملى، وكان التشخيص واحدا .


ويقول الأستاذ هيكل فى المقال إن الأمل بدأ يقوى فى الساعة الخامسة إلا خمس دقائق بالضبط، كان النبض قد بدأ ينتظم ، وضربات القلب تعود إلى قرب ماهو طبيعي، واستراح الأطباء، والتقطوا أنفاسهم وهم بجواره ، وهو يراقبهم بابتسامة هادئة على شفتيه ، ثم بدأ يتحدث معهم ، وقال له الدكتور منصور فايز : « ان الرئيس فى حاجة إلى إجازة طويلة» ، فقال الرئيس : « كنت أريد أن أذهب إلى الجبهة قبل الإجازة ،هل استطيع أن أذهب وأرى «أولادنا» هناك قبل أى إجازة ؟» ، فقال الدكتور منصور: «ذلك سوف يكون صعبا ، ولا يجب أن تسبق الإجازة أى نشاط آخر» ، فقال الرئيس : «إن كل الوزراء اليوم فى الجبهة ، لقد طلبت أن يذهبوا إلى هناك ، وأن يعيشوا يومين مع الضباط والجنود، يجب أن يعرفوا، ويعرف كل مسئول حقيقة ما يقوم به الجيش فى الجبهة» ، وهم الرئيس من فراشه ومد يده إلى جهاز راديو بجانبه وفتحه، يريد أن يسمع نشرة أخبار الساعة الخامسة من اذاعة القاهرة، وبينما اللحن المميز لنشرة الأخبار من اذاعة القاهرة ينساب فى الغرفة، ويبدد بعض الشىء جوها المشحون بالطارئ الخطر أحس الدكتور منصور فايز انه يريد أن يدخن سيجارة، وتصور أن خروجه من الغرفة ليدخن سيجارته قد يكون فرصة يطمئن فيها السيدة الجليلة قرينة الرئيس على صحته ، وخرج فعلا إلى غرفة المكتب ثم إلى البهو المؤدى إلى غرفة الجلوس ووجدها أمامه ويداها تعصران وجهها من القلق ومشقة الانتظار، فقال لها باسما انه بخير والحمد لله ، فسألته بلهفة «صحيح ؟» ، فقال لها «اننى كطبيب ، أسمح لك بأن تذهبى وتريه بنفسك» ، فقالت له «أخشى إذا دخلت أن يشعر بقلقى ويتضايق ،إنه لم يتعود أن أدخل وهناك أطباء، وإذا دخلت فقد يتصور أن هناك شيئا غير عادى»..

فى غرفة النوم ، كان المشهد يتغير بسرعة لم تكن متوقع، استمع الرئيس إلى مقدمة نشرة الأخبار ثم قال: « لم أجد فيها الخبر الذى كنت أتوقع أن أسمعه « ولم يقل شيئا عن الخبر الذى كان ينتظر سماعه ، وتقدم منه الدكتور الصاوى وقال : «ألا تستريح سيادتك ،لا داعى لأى مجهود الآن؟» وعاد الرئيس يتمدد على فراشه ، وهو يقول: «لا يا صاوي..الحمد لله.. دلوقت أنا استريحت» ، فقال الدكتور الصاوى: «الحمد لله يا فندم» ونظره مركز على الرئيس، حتى وجده يغمض عينيه ثم وجد يده تنزل من فوق صدره وتستقر بجواره.


بعدها لم يشعر الرئيس بشىء ، لم يقل كلمة ،كانت ملامح وجهه تعكس نوعا من الراحة المضيئة ، وجرى الدكتور الصاوى هالعا ينادى الدكتور منصور فايز، ووقف كل الأطباء حول الفراش، وبأيديهم وعقولهم كل ما يستطيعه العلم .


هذا ما عرفه « هيكل» قبل حضوره لمنزل الرئيس ، وعندما حضر قال انه صعد السلم قفزا، وكانت السيدة قرينة الرئيس أول من قابله ، كانت إحدى يديها تضغط على خدها ، واليد الأخرى تمسك برأسها وليس على لسانها إلا نداء واحد» جمال..جمال» ، وكانت تكتم نداءها ، حتى لا ينفذ إلى حيث يرقد هو، ويقول «هيكل» انه دخل غرفة نوم الرئيس وكان الأطباء حوله ، وهو ممدد على الفراش بالبيجامة البيضاء وخطوطها الزرقاء ، ويقول : « عندما دعيت إلى البيت لم يخطر ببالى ما قدر لى أن أراه ، أقصى ما خطر ببالى أنه متعب، لكننى لم أكن مهيأ لما رأيت ، ولأول نظرة على الفراش ، أحسست بما لا أستطيع اليوم ، ولا غدا أن أصفه من مشاعرى، كان هناك على الفراش هدوء غريب ، صمت كامل، كان هناك شيء واحد يلمع بشدة ، وهو دبلة الزواج فى يده ، ينعكس عليها ضوء النور المدلى من السقف ، ولم أحاول أن أقترب من أى واحد من الأطباء، فلم يكن من حق أحد أن يشغلهم ،والتفت حولى إلى بقية من فى الغرفة: شعراوى جمعة ، سامى شرف ، محمد أحمد ، كانوا جميعا مثلى معلقين بين السماء والأرض، ووجدتنى أدور فى الغرفة وابتهل ، أردد والدموع تنزل صامتة : « يارب .. يارب» ، ثم أرقب محاولات الطب الأخيرة ، وأناديه فى علاه: « يارب غير ممكن ، يارب غير معقول» ثم أرقب محاولات الطب الأخيرة ، وتستمر محاولات التدليك الصناعى للقلب وتتكرر تجربة الصدمة الكهربائية ، والجسد الطاهر المسجى يختلج ، ولكن الهدوء يعود بعد كل اختلاجة ، بلا حس ولا نبض، وأحسست أن الأطباء قد فقدوا الأمل».


ويتحدث « هيكل» فى المقال عن وصول على صبرى وحسين الشافعي، وأنور السادات والفريق أول محمد فوزى الذى صرخ فى وجه أحد الاطباء عندما قال «ان كل شيء قد انتهي» قائلا بفزع : «لا ، لا يمكن ، واصلوا عملكم»، وانفجر الدكتور منصور فايز باكيا ، وانفجر معه كل الأطباء باكين، وانهمرطوفان من الدموع ،ودخلت السيدة قرينته إلى الغرفة المشحونة بالجلال والحزن، أمسكت يده تقبلها ، وسمعت أحد الباكين يقول :«الرئيس.. الرئيس» فالتفتت تقول: «لا تقولوا الرئيس ، قولوا جمال عبدالناصر وكفى ، سيبقى بالنسبة لى وللناس كلهم جمال عبدالناصر» ثم انحنت تقبل يده مرة أخرى وهى تقول « لم يكن لى فى الدنيا سواه ، ولا أريد فى الدنيا غيره ، ولا أطلب شيئا إلا أن أذهب إلى جواره حيث يكون» ، ثم التفتت تسألني: «قل لى أنت ، ألن أسمع صوته بعد الآن؟» وأقبل أحد الأطباء يغطى وجه الرئيس، فنظرت إليه متوسلة «اتركوه لى ، أنظر إليه ، أملأ عينى به» ، واستدار كل من فى الغرفة خارجين ، تاركين لها اللحظة الأخيرة ، وحدها معه ، وعندما جاءت السيارة التى تنقل جثمانه الطاهر إلى قصر القبة ، كانت فى وداعه حتى الباب ، وكانت كلمتها المشبوبة باللهب الحزين والسيارة تمضى به «حتى بعد أن مات ، أخذوه منى ، لم يتركوه لى» ، وانطلقت به السيارة فى جوف الليل الحزين.
ويختتم الأستاذ هيكل المقال قائلا: «كان جمال عبدالناصر فى حياته أكبر من الحياة ، وكان بعد رحيله أكبر من الموت»!


محمد حسنين هيكل - «بصراحة» 16 أكتوبر 1970
 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا