هدى توفيق
يزخر سرد القاص المصرى محمود الديب بحساسية المبدع التعبيرية شديدة الرهافة، والحساسية الخلاقة لتجعل من إشارات الواقع البسيطة تصورات وتخيلات تتجاوز منطق الواقع، بتشكله المادى إلى محسوسات مجردة داخل المتخيل السردي، وبرؤى تخييلية منفتحة على دوائر الواقع الضيقة والمغلقة، لنتبعه فى منهج محدد حتى نصل إلى ما يشغلنا من فنيات المخيال، والتخيل السردى القابع خلف أطروحاته الفنية. وقع اختيارى على ثلاث قصص ضمن مجموعته القصصية «إيماءة قلب»، تجسد القصص الثلاث(سياج، مقام ملعون، حبة)، والتى أبدع المؤلف منها بطولاته الحياتية الذاتية وسط واقعه المأساوي. تحكى قصة (سياج) عن علاقة معقدة وشائكة بين رجل ضائع، ومشرد، وجائع، وبين كلبه الذى يماثله فى الهيئة والتكوينات الظاهرية، والداخلية من ضياع وتشرد، وجوع، ليتحمل الفعل السردى القصصى مستويات دلالية ووظيفية فى آن واحد، إذ يتحول الفعل القصصى إلى وصف الشخصية والحدث بتعزيز أهم عنصرين فنيين فى القصة القصيرة وهما: الشخصية والحدث، ويولى اهتماماً استثنائياُ لهما. وهذه الثنائية البارزة والمشتركة فى القصص الثلاث أى (الشخصية والحدث)، تجسد المعول الأساسى لبؤرة التكوين القصصى بوجه عام فى القصص الثلاث، وهى قائمة على محور رئيس شيدته متاريس الواقع المر والقاسي. كما فى قصة سياج التى تنفتح على تعبيرية واقعية عصيبة، وهى تصور لنا لحظات مصيرية وحاسمة فى حياة هذا الرجل ورفيقه الكلب، وتتناول القصة حياة رجل ما يعيش فى مدينة غير مسماة، وغير محددة المكان مخربة ومهدمة، بعد أن دمرتها المليشيات الإرهابية وسلبتها خيراتها وأمنها، ومن ثم أصبح هذا الرجل يتضور من الألم والعوز والحرمان والجوع القاتل، ويصل به أن يبحث عن أى قطع متناثرة من الخبز وبقايا الطعام من فتات، ويراقبه كلبه المشرد، وعيناه تصرخان من الجزع والجوع الفتاك التى تصل به للشعور بالفجيعة عندما تلتقط عيناه سيده، وهو يضع اللقمة الأخيرة فى فمه (كدجاجة مشوية). كما ذكر فى النص بينما هى محض لقم وبقايا طعام من الخرابات أو القمامة. فيفطن الرجل لذلك الذعر، ويخرجها من فمه ليعطيها لكلبه المسكين. لتتحول تلك اللقمة الأخيرة لفكرة حاذقة غيرت مسار حياة الرجل الضائع. الذى يتمنى الموت فى كل لحظة حتى ينجو من آلام الجوع المبرحة، وتلك الحياة البائسة. والتى لا فائدة ولا قيمة لها وسط الخراب، والدمار، والحطام التام لكل شيء. ملاحظة أخيرة فى حضور إبداعى لقصة سياج، يوجد تعالق ولو ضمنى إلى حد ما. بين دلالة الاستهلال، وبين التوظيف السردى داخل مقترحات المتخيل السردي، إذا ما جاز لنا هذا التأويل عن رؤى النص القصصى المفتوحة على انشغالات النص المنغلق على نفسه فى بؤرة الشخصية والحدث، بينما الطرح ينسج وتيرة هائلة من التأويلات، مع ضبابية ظهور واقع زمنى أو مكانى بارز فى أرضية واقع المتن الحكائي.
لنطرح سؤالاً إشكاليًا مهماً عن: (كيف تكتمل الدائرة السردية التى تبدأ وسط العزلة واليأس وتنتهى فيها؟). هذا السؤال الفنى فى قصة «مقام ملعون»، التى تحكى عن فتى يحاول الوصول إلى والده فى الغيط فى قريته الصغيرة بأسرع وقت، لكنه كان لا بد أن يعبر تلك الحارة الضيقة الملتوية، لكن الجميع كان يخاف من عبورها فى الليل والنهار. لأنه كان عليه أن يمر على هذا المقام الملعون الذى يُحكى ويقال إن لعنته أوغرت قلوب الجميع من أهالى القرية بالخوف والرهبة والخشية.
من عنوان قصة (مقام ملعون) تبدأ تيمة التعبيرية الرمزية الذى يوحى بسرد يفصح عن لعنة ما. توجد فى قرية ما غير مسماة أيضاً. كسابق العهد فى القصة السابقة عن عدم ذكر أسماء أى كائن حى أو شيء مادي. وبدون تاريخ أو جغرافيا محددة. غير أن الحكاية تقص لنا عن وجود مقام ملعون فى بقعة جغرافية ما، وفى زمن ما احتوتهما المتخيل السردى للقصة. ومن عنوان القصة مقام ملعون تبدأ تيمة الواقعية الرمزية الذى يُوحى بسرد معبر عن مكان ما يوجد فى قرية، وهو مقام ملعون. وفى وقت ما يتضمنه المتخيل السردى على لسان فتى صغير يحاول الوصول إلى والده فى الغيط فى أسرع وقت. ليقدم إجابة غير شافية داخل الدائرة السردية المنغلقة. وعن كيف تكتمل الدائرة السردية التى تبدأ وسط فتى منعزل حائر يشعر بالخوف، واليأس بمفرده، ويحاول عدم الاستسلام من أجل تحقيق مراده الطبعي، والمنطقى فى دوران السرد التخييلي، فقط وجوب الوصول إلى والده سريعاً. تفترض القصة افتراضاً سردياً أنه يوجد مقام ملعون يحاط بالحجب والأسرار، التى جعلت منه مقاما مخيفا يثير الرهبة، والقشعريرة، ويتجاوز الأمر، بأنه يصب اللعنات لمن يحاول أن يزيله، أو حتى يتجرأ بالمرور بجانبه للامتثال أمامه، لأنه يخيف ويؤذى أى شخص مهما كان قدره، وهذا الافتراض السردى المغاير تماماً عما هو مشاع ومعروف عن كل المقامات الأخرى، التى يستأنس بها أهل القرية، ويقيمون الموالد والاحتفالات بجوارها.
إن ثنائية تناوب السرد هنا تأتى بين الشخصية والمقام الملعون الذى يحدث غرابة من نوع ما تتسم ببعض الغموض، والإبهام أن يوجد فى الواقع هذا المقام الملعون غير المعتاد، والمتعارف عليه عن المقامات الأخرى المعهودة فى واقعنا الحياتي، ليستخرج لنا هذا التخليق الغريب، بتعبيرية رمزية واسعة الدلالة والتوظيف فى آن واحد، فربما هذا المقام الملعون إشارة إلى حاكم ملعون، وحرب ملعونة ، وفكر ملعون يختبىء فى جوف هذا المقام، فيمنع البشر من الحياة والانطلاق فى مسارها بحرية، وعدالة، وكرامة ،وخاصة أن بطل الحدث هو فتى نقي، وبرئ السريرة، نبيل الهدف.
وتمثل المرحلة الثالثة من التعبيرية أبرز عناصر تكوين هذه القصص الثلاث. وصولاً إلى القصة الثالثة بعنوان (حبة) عنصر التعبيرية الشيئية. البطل هنا حبة عرق تسقط على جبين شخص ما أيضاً، دون مسمى أو تعريف، وإن اختلفت هذه القصة بتحديد المكان وهو (صحراء نجد)، وربما هذا يؤازر شيئية التكوين القصصي، إذ إن المؤلف يحكى برهافة وحساسية عالية عن حبات العرق، والتى تشكل رؤية مختلفة عن رؤى القصتين السابقتين. وإن تشارك الثلاث فى التمكين من التعبير عن واقعه الضيق بخطاب تعبيرى متنوع بين (التعبيرية الواقعية، والرمزية، والشيئية). التى جميعها تسير فى مسار السرد الذاتى الواقعي، والمنغلق على ذات مأزومة داخل عوالم ضيقة ذات عناصر فنية ثنائية بين الشخصية والحدث. لذلك أى شحوب زمنى أو مكانى يأتى بضرورات واستدعاءات إبداعية، ابتدعتها مكونات البناء الفنى الداخلى للقصص، لتعمل فى دورانها الإبداعى بين الشخصية والحدث، فأهملت الخلفية المكانية والزمانية إلى حد كبير. وهذا تأويله والحديث يشير بوجه عام عن القصص الثلاث، التى تمثل وحدة تتجانس فيها حساسية عالية للمبدع والتعبير عن واقعه برؤى متنوعة، والتى تصب فى رافد واحد من التشكيلات التعبيرية. وهذا يؤكد التالي: (لقد شحبت الزمانية والمكانية، وبدت عبارة عن حالة سرابية بتجربتها الشخصية، وهى تتضور ألماً منها، دون أن تستطيع كشف حدود عالمها، وهذه حالة مسوغة بالنسبة لشخصية ضبابية ترى ولا تفسر إلا بحدود ضيقة، وهى تراقب انحسار دورها، وانعدام أهميتها).