عمر على الجقومى
بينما كُنت أدرس المرحلة الثانوية شمال مدينة أمدرمان، كان والدى يعمل مزارعًا على ضفة النيل شمال أمدرمان أيضًا، ولطالما كانت الدروس التى نتلقاها تترك علينا رهقًا بالغًا، لأن جهدًا عصيبًا نبذله، كنت أستغل عطلة نهاية الأسبوع للذهاب إلى والدى فى مكان زراعته، أزوره، أسلمُ عليه فيسألنى عن سير الدراسة ولا ينسى أن يسألنى باِستمرار عن الامتحانات، حتى لو لم تكن هنالك امتحانات، أجيبه باِقتضاب، ثم أطوف بالحقل كما لو أننى أبى وهو يتفقد حقله فى الصباح، هذا يروح عنَّى كثيرًا، أفرغُ رهق الأسبوع واستبدله بطاقة إيجابية تعيننى على مواجهة الأسبوع القادم.
بطبيعة الحال ينتهى حقل والدى بالنيل، حاله حال كل الحقول هُناك. حينما زرته أول مرة، حذرنى من الذهاب إلى النيل وهو الأمر الذى جعلنى ابتعدُ فى كل مرة، ما كنت أعرف النيل أبدًا، ولم يسبق لى رؤيته بعد، فأنا قادم من أرض تموتُ من التصحر جرذانها، هُناك فى الصحراء، حيث الفراغ يبتلعُ كل الأشجار والحيوانات والبشر.
وفى كل مرة تدفعنى رغبة عمياء لرؤية النيل، أجد أن وصية أبى توتئد رغبتى فى مهدها، أعودُ لبيت جدتى دون ملء ذاكرتى بحدث جديد، تسكننى خيبة أمل كبيرة، يبددها مصروفى الذى نلته من أبي، أعود لبدء أسبوع جديد.
حينما سرتُ بجوار الحقل كأننى أبي، لم أكن أحسب أننى أسير نحو الموت، تقودنى قدماى وذاكرة مشغولة بالمصروف الذى سيدفعه لى والدى حينما أودُّ العودة لبيت جدتى فى الغد، حيث أسكن.
رأيت النيل يتمدد فى المكان باسطًا نفوذه، يسرعُ نحو الشمال، مضطرباً، شعرتُ به يستلطفنى بينما تسمّرت مدهوشًا لرؤية الموت، الموت الذى حذرنى منه أبي، صرختُ حتّى أصبت بدوار الرأس، عدتُ راكضًا نحو أبى كما لو أنَّ النيل يجرى خلفى ليبتلعني.
منذ ذلك اليوم وبالإضافة لتحذير أبى أصبحت أخاف من النيل ولا أودُّ أن أقربه أبدًا، بدأ لى النيل مصيرًا يتوددني، كنت أشعر به يترصد مجيء قريبًا منه، ليبتلعني.
أذكر أن والدى قد شرح لى تكوين النيل وهو الأمر الذى لا أذكره الآن على وجه الدقة، لكننى أتذكر أحداث الغرق التى كانت تحدث، الكثير من أبنائنا ابتلعهم النيل دون أن يكترث.
حينما حاضرنا أستاذ اللغة العربية عن النيل وأسهب يعدد هدوءه وسكونه ووداعته ومنظره الجميل، وأن الناس يخرجون فى المساء للتنزه والاستمتاع بمنظر النيل. كنت أشعر به يقودنا نحو الموت، وتملكتنى رغبة قوية للصراخ فى وجهه، كنت أودّ الوقوف وتحذير زملائى من النيل وأن هذا الأستاذ ما هو إلا كاذبًا يريد هلاكنا.
رغم أننى ظللت أكرر زياراتى لأبى بشكل راتب إلا أننى كنت لا أزور النيل إطلاقاً، حتى أكملت دراسة مرحلتى الأساس والثانوي، كانت رهبتى من النيل على حالها، لم تتغير أبدًا، الكثير من قصص الغرق التى كنت أسمعها كانت تأخذنى بعيدًا عنه. دخلت الجامعة، وبدأت أكثر معرفة بتكوين النيل وأهميته فى الحياة وقد قرأت كثيرًا عن نهر النيل وروافده المهمة وغيرها من الأشياء التى جعلتنى أرغب فى تغيير نظرتى للنيل.
فكرت فى حل العقدة النفسية بينى والنيل وقد استشرتُ أصدقائى فى أمري، وبدؤا بصورة جادة مساعدتى وهو الأمر الذى غير حياتى للأبد، وفى كل مرة تستحضرنى حكايات أبى عن النيل وقصص الغرقى كنت أطردها عني، ما زال أبى مزارعًا يحب النيل ويعشقه، فلماذا لا أحبه أنا!
تحركنا بسيارة صديقى وقصدنا النيل قبالة هيئة الإذاعة والتلفزيون، كنت متوجسًا كالعادة، لكننى كنت أشعر بالأمان، جسلت على الضفة أرقب النيل بعيون مرتبكة وقلب لا يكاد يثبت على حال، وحدهم أصدقائى كانوا يمدوننى باليقين. ظلوا يلعبون بمياه النيل كما لو أنهم أصدقاء منذ الأزل، كنت أرقبهم بحذر، أجدنى أشفق عليهم تارة وأضحك لمرحهم تارة أخرى.
تكررت زياراتى معهم للنيل، أذكر أن آخر مرة ودّعت فيها الخوف، حينما نزلنا بشاطئ جزيرة توتي، وقد وجدت نفسى أنزل للمياه وأرشقهم بها كما لو أننى واحد منهم منذ قديم الزمان.
منذ ذلك العهد، صار النيل صديقًا لي، أذهب إليه كثيرًا، أقضى أوقاتًا ممتعة عنده، أتأمله، أحدثه، ألعب معه، يؤانسنى ويذهب عنَّى تعب الأيام، وفى الآونة الأخيرة وحده أصبح من يمدنى بالسعادة.
لم أكن أتوقع على الاِطلاق أن تتغير نظرتى للنيل، لم أكن أتوقع أن تزول الرهبة الكبيرة التى كانت تمنعنى عنه، ولكن الآن صرتُ أعزى ذلك لطفولتى القاسية، طفولتى التى عشتها فى الصحراء، حيث لا يوجد نيل ولا بحر إلا من خلال شاشات التليفزيون والهواتف الذكية مؤخرًا.
السودان