بين الزهد في الدنيا وهوي النفس والاشتياق الشخصي شعرة لا ينتبه إليها إلا من استنارت بصيرتهم بفقه المقاصد والأولويات في أمور الدنيا والدين.
لأنه كثير الحج والعمرة جاء سائلاً الفقيه الزاهد بشر بن الحارث: «قد عزمت علي الحج، أفتأمرني بشيء؟»، قال بشر: «كم أعددت للنفقة؟ «، فقال: «ألفي درهم»، قال بشر: «فأي شيء تبتغي بحجك؟ تزهداً، أم اشتياقاً إلي البيت، أم ابتغاء مرضاة الله؟»، فقال: «ابتغاء مرضاة الله»، قال : «فإن أصبت مرضاة الله تعالي وأنت في منزلك، وتنفق ألفي درهم وتكون علي يقين من مرضاة الله تعالي، أتفعل ذلك؟»، قال: نعم، قال بشر: «اذهب فاعطها عشرة أنفس، مدينا يقضي دينه، وفقيرا يرم شعثه، ومعيلا يغني عياله، ومربيا يتيما يُفرحه، وإن قوي قلبك تعطها واحداً فافعل، فإن إدخالك السرور علي قلب المسلم، وإغاثة اللهفان، وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام الأولي، قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك ؟»، فقال : «يا بشر سفري أقوي في قلبي»، فتبسم بشر - رحمه الله وأقبل عليه وقال له: «المال إذا جُمع من وسخ التجارة والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطراً، فأظهرت الأعمال الصالحات، وقد آل الله علي نفسه ألا يقبل إلا عمل المتقين».
حكاية أخري، بل هي ومضة مضيئة كاشفة لهذه الشعرة الدقيقة بين الزهد وهوي النفس، بطلها أبو الدرداء وزوجه أم الدرداء وسلمان الفارسي الذي رأي أم الدرداء متبذلة، فقال لها: «ما شأنك؟» قالت : «أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا»، ولما صنع أبو الدرداء طعاماً لسلمان، وقال له: «كل فإني صائم»، فقال سلمان: «ما أنا بآكل حتي تأكل»، فأكلا، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال سلمان : نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان : قم الآن، وصليا معاً، ثم قال لأبي الدرداء : « إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فاعط كل ذي حق حقه «، فأتي أبو الدرداء النبي صلي الله عليه وسلم، فذكر له ما قال سلمان، فقال الحبيب المصطفي عليه الصلاة والسلام: «صدق سلمان».
من أهم مقومات المجتمعات العربية والإسلامية إدراكها وتطبيقها لفقه المقاصد والأولويات، فبعدما غاب عنا في العقود الأخيرة اختلط الحابل بالنابل، وتبددت جهودنا وأموالنا فيما لا يدفع مجتمعاتنا البائسة خطوة واحدة للأمام، وصرنا نمد يدنا إلي غيرنا بحثاً عن مقومات الحياة اليومية.
الله سبحانه وتعالي يريدنا أن نكون اليد العليا لا السفلي في هذا العالم، فأحب الناس إلي الله أنفعهم للناس.
إذا أردت أن تحافظ علي الشعرة التي بين هوي نفسك وإيمانك الحقيقي فارجع إلي فقه المقاصد والأولويات حتي لا تختلط عليك الأمور.