رواية الريف.. حكايات معجونة بـ«العرق»

كتاب الفلاح لعبد الرحمن الشرقاوي
كتاب الفلاح لعبد الرحمن الشرقاوي

حسن‭ ‬حافظ

يشكل‭ ‬الفلاح‭ ‬جوهر‭ ‬الحياة‭ ‬فى‭ ‬مصر،‭ ‬ففى‭ ‬الريف‭ ‬وحتى‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬كانت‭ ‬تتركز‭ ‬القيم‭ ‬المصرية،‭ ‬وتفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬المنحوتة‭ ‬منذ‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬والتقاليد‭ ‬المتوارثة‭ ‬عبر‭ ‬أجيال‭ ‬وأجيال،‭ ‬والعادات‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تتغير‭ ‬رغم‭ ‬توالى‭ ‬الأيام،‭ ‬كان‭ ‬الريف‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬المدينة‭ ‬التى‭ ‬استقبلت‭ ‬المحتلين‭ ‬وتغيرت‭ ‬طباعها‭ ‬مع‭ ‬مجيء‭ ‬الهجرات‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬لذا‭ ‬ظل‭ ‬الريف‭ ‬هو‭ ‬منبع‭ ‬الحكايات‭ ‬والمخزن‭ ‬الذى‭ ‬تخرج‭ ‬منه‭ ‬أكثر‭ ‬القصص‭ ‬عذوبة‭ ‬وإنسانية‭.. ‬شكلت‭ ‬عوالم‭ ‬الريف‭ ‬المصرى‭ ‬حالة‭ ‬شخصية‭ ‬وخاصة‭ ‬جداً،‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬كالبصمة‭ ‬التى‭ ‬ميزت‭ ‬أعمال‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭ ‬المصريين،‭ ‬وأعطتهم‭ ‬الفرصة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬تفاصيل‭ ‬دقيقة‭ ‬فى‭ ‬المجتمع‭ ‬تعكس‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التطورات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والسياسية،‭ ‬وانعكاسها‭ ‬على‭ ‬الريف‭ ‬الذى‭ ‬تحول‭ ‬فى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬لرمز‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬مصر‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬واجهته‭ ‬من‭ ‬أزمات‭ ‬ومواجهة‭ ‬للاحتلال‭ ‬ومتاعب‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭.‬

بدأت‭ ‬الرواية‭ ‬فى‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالريف‭ ‬منذ‭ ‬بدايتها،‭ ‬فرواية‭ "‬زينب‭" (‬1914‭)‬،‭ ‬لمحمد‭ ‬حسين‭ ‬هيكل،‭ ‬ظهرت‭ ‬بعنوان‭ ‬فرعى‭ ‬هو‭ "‬مناظر‭ ‬وأخلاق‭ ‬ريفية‭"‬،‭ ‬ووقعها‭ ‬هيكل‭ ‬باسم‭ "‬فلاح‭ ‬مصرى‭"‬،‭ ‬وتدور‭ ‬فى‭ ‬إطار‭ ‬رومانسى،‭ ‬كما‭ ‬ظهر‭ ‬الريف‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منظور‭ ‬ابن‭ ‬المدينة‭ ‬الذى‭ ‬رأى‭ ‬فى‭ ‬الريف‭ ‬فقط‭ ‬المناظر‭ ‬الطبيعية‭ ‬والخضرة‭ ‬الجذابة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬تناول‭ ‬قضايا‭ ‬الريف‭.‬

وقدم‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬التى‭ ‬كشفت‭ ‬أوضاع‭ ‬الريف‭ ‬ومشكلاته‭ ‬فى‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬نصه‭ ‬عن‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭ "‬الأيام‭" (‬1927‭)‬،‭ ‬الذى‭ ‬تحدث‭ ‬فى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬تفاصيله‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬فى‭ ‬الريف‭ ‬المصرى،‭ ‬وكانت‭ ‬مصر‭ ‬وقتذاك‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال‭ ‬البريطانى‭ ‬المتحالف‭ ‬مع‭ ‬الإقطاع‭ ‬المصرى‭ ‬على‭ ‬قمع‭ ‬الفلاح‭ ‬صاحب‭ ‬البلد‭ ‬الحقيقى‭ ‬والوحيد‭.‬

ثم‭ ‬عاد‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ "‬دعاء‭ ‬الكروان‭" (‬1934‭)‬،‭ ‬وقدَّم‭ ‬بعض‭ ‬الآراء‭ ‬والأفكار‭ ‬حول‭ ‬تقاليد‭ ‬الريف‭ ‬وعاداته،‭ ‬وينتقد‭ ‬نظرة‭ ‬المجتمع‭ ‬التحقيرية‭ ‬للمرأة‭ ‬الذى‭ ‬يرى‭ ‬فيها‭ ‬عورة‭ ‬تستحق‭ ‬الوأد،‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬وقدَّم‭ ‬مجموعته‭ ‬القصصية‭ "‬المعذبون‭ ‬فى‭ ‬الأرض‭" (‬1949‭)‬،‭ ‬بعض‭ ‬النماذج‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬الريف‭ ‬الذى‭ ‬يعيش‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ ‬فقر‭ ‬مدقع،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬فى‭ ‬رصدها‭ ‬لأزمة‭ ‬المجتمع‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال‭ ‬البريطانى‭ ‬مؤشراً‭ ‬واضحاً‭ ‬على‭ ‬قُرب‭ ‬انفجار‭ ‬المجتمع‭ ‬فى‭ ‬وجه‭ ‬الاحتلال‭ ‬والنظام‭ ‬الملكى‭ ‬كله،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬بعد‭ ‬نشر‭ ‬المجموعة‭ ‬القصصية‭ ‬بثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬فقط‭ ‬فى‭ ‬شكل‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬1952‭.‬

وارتقى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الفلاح‭ ‬والريف‭ ‬درجة‭ ‬مع‭ ‬صدور‭ ‬رواية‭ "‬عودة‭ ‬الروح‭" (‬1933‭)‬،‭ ‬لتوفيق‭ ‬الحكيم،‭ ‬ثم‭ ‬إصداره‭ ‬رواية‭ "‬يوميات‭ ‬نائب‭ ‬فى‭ ‬الأرياف‭" (‬1937‭)‬،‭ ‬إذ‭ ‬يقدِّم‭ ‬فيهما‭ ‬عرضاً‭ ‬وافياً‭ ‬لواقع‭ ‬الريف‭ ‬وحياة‭ ‬الفلاحين‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬خلال‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يجمِّل‭ ‬الحقيقة،‭ ‬بل‭ ‬يكشف‭ ‬إهمال‭ ‬السلطة‭ ‬الملكية‭ ‬المدعومة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الاحتلال‭ ‬البريطانى‭ ‬للريف،‭ ‬لذا‭ ‬دعا‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ "‬عودة‭ ‬الروح‭" ‬للثورة‭ ‬لإعادة‭ ‬الروح‭ ‬للفلاح‭ ‬الذى‭ ‬تحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬رمز‭ ‬لوطن‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال،‭ ‬بينما‭ ‬يشن‭ ‬نقداً‭ ‬قاسياً‭ ‬فى‭ ‬قالب‭ ‬من‭ ‬الكوميديا‭ ‬السوداء‭ ‬لفساد‭ ‬المنظومة‭ ‬الإدارية‭ ‬والقانونية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عمله‭ ‬الفذ‭ "‬يوميات‭ ‬نائب‭ ‬فى‭ ‬الأرياف‭".‬

كانت‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬1952‭ ‬منعطفاً‭ ‬مهماً‭ ‬فى‭ ‬مسيرة‭ ‬رواية‭ ‬الفلاح،‭ ‬فقد‭ ‬أصبح‭ ‬النظام‭ ‬السياسى‭ ‬مصرياً‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬بعد‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الملكى‭ ‬والاحتلال‭ ‬البريطانى‭ ‬معاً،‭ ‬وبدأت‭ ‬الروح‭ ‬الجديدة‭ ‬تعمل‭ ‬عملها‭ ‬فى‭ ‬مخيلة‭ ‬أجيال‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬بدأوا‭ ‬ينظرون‭ ‬لمشكلات‭ ‬الريف‭ ‬بشكل‭ ‬أعمق،‭ ‬وبقدرة‭ ‬أعلى‭ ‬على‭ ‬الغوص‭ ‬فى‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬للفلاحين،‭ ‬والتعبير‭ ‬عنها‭ ‬بكل‭ ‬دقة،‭ ‬فكانت‭ ‬البداية‭ ‬مع‭ ‬رائعة‭ "‬الأرض‭" (‬1954‭)‬،‭ ‬لعبدالرحمن‭ ‬الشرقاوى،‭ ‬إذ‭ ‬تعد‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الروايات‭ ‬المصرية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أنها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬وأعمق‭ ‬الأعمال‭ ‬الروائية‭ ‬فى‭ ‬عكس‭ ‬واقع‭ ‬الريف‭ ‬المصرى،‭ ‬فيما‭ ‬قبل‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو،‭ ‬فقد‭ ‬قدم‭ ‬القرية‭ ‬على‭ ‬واقعها‭ ‬وحالها‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬أى‭ ‬تصورات‭ ‬رومانسية‭ ‬للريف‭ ‬متأثرة‭ ‬بالأدب‭ ‬الفرنسى‭ ‬أو‭ ‬الغربى‭ ‬عموماً،‭ ‬بل‭ ‬عمد‭ ‬لنحت‭ ‬ملحمة‭ ‬مصرية‭ ‬خالصة‭ ‬أبطالها‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬الريف‭ ‬المصرى‭ ‬ودمه‭.‬

وعاد‭ ‬الشرقاوى‭ ‬لتيمته‭ ‬المفضلة‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ "‬الفلاح‭" (‬1967‭)‬،‭ ‬التى‭ ‬عادت‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬مشكلات‭ ‬الريف،‭ ‬خصوصاً‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الفاسدين‭ ‬الذين‭ ‬يحاولون‭ ‬سرقة‭ ‬مجهود‭ ‬الفلاحين،‭ ‬إذ‭ ‬يستعرض‭ ‬البطل‭ ‬القاهرى‭ ‬ابن‭ ‬المدينة‭ ‬الذى‭ ‬يأتى‭ ‬إلى‭ ‬القرية‭ ‬ويرصد‭ ‬أزمتها‭ ‬التى‭ ‬تحول‭ ‬بين‭ ‬تحولها‭ ‬إلى‭ ‬الاشتراكية‭ ‬التى‭ ‬يرى‭ ‬فيها‭ ‬البطل‭ ‬الوسيلة‭ ‬الناجعة‭ ‬لحل‭ ‬مشكلات‭ ‬مصر،‭ ‬عبر‭ ‬سيادة‭ ‬قيم‭ ‬العدل‭ ‬والمساواة‭.‬

فيما‭ ‬قدم‭ ‬يوسف‭ ‬إدريس‭ ‬تجربة‭ ‬عن‭ ‬الريف،‭ ‬عبر‭ ‬روايته‭ "‬الحرام‭" (‬1959‭)‬،‭ ‬سلط‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬عمال‭ ‬التراحيل‭ ‬وهم‭ ‬أشد‭ ‬الطبقات‭ ‬تهميشا‭ ‬فى‭ ‬الريف‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬كما‭ ‬قدم‭ ‬فى‭ ‬مجموعته‭ ‬القصصية‭ "‬النداهة‭" (‬1969‭)‬،‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬التى‭ ‬تتعرض‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬فى‭ ‬الريف،‭ ‬خصوصاً‭ ‬النداهة‭ ‬تلك‭ ‬الأسطورة‭ ‬الريفية‭ ‬الشهيرة،‭ ‬التى‭ ‬تتحول‭ ‬فى‭ ‬العمل‭ ‬الروائى‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬التى‭ ‬تغتال‭ ‬براءة‭ ‬ابن‭ ‬الريف‭. ‬ولم‭ ‬تقف‭ ‬تجربة‭ ‬إدريس‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬بل‭ ‬استلهم‭ ‬روح‭ ‬الريف‭ ‬فى‭ ‬بناء‭ ‬تجربة‭ ‬مسرحية‭ ‬مصرية‭ ‬خالصة،‭ ‬حين‭ ‬أعاد‭ ‬إنتاج‭ ‬فن‭ ‬الحكواتى‭ ‬فى‭ ‬رائعته‭ ‬المسرحية‭ "‬الفرافير‭".‬

وقدمت‭ ‬الأجيال‭ ‬التالية‭ ‬تجارب‭ ‬شديدة‭ ‬النضج‭ ‬مثل‭ ‬عبدالحكيم‭ ‬قاسم‭ ‬وروايته‭ "‬أيام‭ ‬الإنسان‭ ‬السبعة‭" (‬1969‭)‬،‭ ‬التى‭ ‬تغوص‭ ‬فى‭ ‬الأبعاد‭ ‬الصوفية‭ ‬المتغلغلة‭ ‬فى‭ ‬نسيج‭ ‬الريف،‭ ‬لتقدم‭ ‬إجابات‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬وجودية‭ ‬عميقة،‭ ‬بينما‭ ‬تألق‭ ‬خيرى‭ ‬شلبى،‭ ‬فى‭ "‬الوتد‭" (‬1986‭)‬،‭ ‬التى‭ ‬تقدم‭ ‬الريف‭ ‬المصرى‭ ‬على‭ ‬حقيقته‭ ‬كما‭ ‬يعرفه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬عاش‭ ‬تفاصيله‭ ‬بلا‭ ‬أى‭ ‬تخيلات‭ ‬أو‭ ‬تصورات‭ ‬رومانسية‭.‬

ونرى‭ ‬الريف‭ ‬حاضراً‭ ‬بقوة‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬يوسف‭ ‬القعيد،‭ ‬خصوصاً‭ ‬روايته‭ "‬الحرب‭ ‬فى‭ ‬بر‭ ‬مصر‭"‬،‭ ‬كما‭ ‬قدم‭ ‬خليل‭ ‬حسن‭ ‬خليل‭ ‬سيرة‭ ‬روائية‭ ‬فى‭ ‬عمله‭ "‬الوسية‭"‬،‭ ‬التى‭ ‬يقدم‭ ‬فيها‭ ‬قراءة‭ ‬شديدة‭ ‬الواقعية‭ ‬للريف‭ ‬فى‭ ‬الحقبة‭ ‬الملكية،‭ ‬حيث‭ ‬تحالف‭ ‬رجال‭ ‬الملك‭ ‬مع‭ ‬الإقطاعيين‭ ‬وعملاء‭ ‬الاحتلال‭ ‬على‭ ‬استعباد‭ ‬الفلاحين‭ ‬المعدمين‭.‬

وعاد‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالريف‭ ‬فى‭ ‬الرواية‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬إذ‭ ‬كتب‭ ‬إبراهيم‭ ‬القاضى‭ ‬رواية‭ "‬عزبة‭ ‬الباشا‭" (‬2014‭)‬،‭ ‬التى‭ ‬ترصد‭ ‬التحولات‭ ‬التى‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬الريف‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وقدم‭ ‬كمال‭ ‬رحيم‭ "‬أيام‭ ‬لا‭ ‬تنسى‭" (‬2018‭)‬،‭ ‬التى‭ ‬تدور‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬بيت‭ ‬العمدة‭ ‬ذاته،‭ ‬أما‭ ‬أشرف‭ ‬العشماوى‭ ‬فقدم‭ ‬تجربة‭ ‬عن‭ ‬الريف‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ "‬بيت‭ ‬القبطية‭" (‬2019‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬عالج‭ ‬موضوع‭ ‬الفتنة‭ ‬الطائفية،‭ ‬كما‭ ‬أصدر‭ ‬ممدوح‭ ‬عبدالستار‭ ‬روايته‭ "‬جواز‭ ‬سفر‭" (‬2019‭)‬،‭ ‬أما‭ ‬محمد‭ ‬المنسى‭ ‬قنديل‭ ‬فقدم‭ ‬أحدث‭ ‬أعماله‭ "‬طبيب‭ ‬أرياف‭" (‬2020‭)‬،‭ ‬التى‭ ‬تدور‭ ‬فى‭ ‬أجواء‭ ‬الريف‭ ‬المصرى‭ ‬فى‭ ‬لحظة‭ ‬تحولات‭ ‬مهمة‭ ‬وقاسية‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬السبعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضى،‭ ‬أما‭ ‬أحدث‭ ‬رواية‭ ‬عن‭ ‬الريف‭ ‬فهى‭ "‬خالتى‭ ‬بهية‭" (‬2021‭)‬،‭ ‬لخليل‭ ‬الجيزاوى،‭ ‬التى‭ ‬يرصد‭ ‬فيها‭ ‬الأحقاب‭ ‬الزمنية‭ ‬المختلفة‭ ‬التى‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬الريف‭ ‬المصرى‭.‬

من‭ ‬جهته،‭ ‬حلل‭ ‬الدكتور‭ ‬مصطفى‭ ‬الضبع،‭ ‬أستاذ‭ ‬النقد‭ ‬بجامعة‭ ‬الفيوم،‭ ‬ظاهرة‭ ‬رواية‭ ‬القرية،‭ ‬قائلا‭ ‬لـ‭"‬آخرساعة‭": "‬استلهم‭ ‬الروائى‭ ‬المصرى‭ ‬الريف‭ ‬بوصفه‭ ‬شريحة‭ ‬اجتماعية‭ ‬معبرة‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬المصرية،‭ ‬ونظرا‭ ‬لخصوصية‭ ‬تجربة‭ ‬الريف‭ ‬فلم‭ ‬تتسع‭ ‬دائرة‭ ‬الكتابة‭ ‬عنه‭ ‬ولم‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬الذين‭ ‬خبروه‭ ‬وكانوا‭ ‬على‭ ‬وعى‭ ‬بالحياة‭ ‬فيه،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬أن‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬مثلا‭ ‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬القرية‭ ‬المصرية‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬الفلاح‭ ‬المصرى،‭ ‬لذا‭ ‬وظف‭ ‬الروائى‭ ‬الفلاح‭ ‬وفق‭ ‬ثلاث‭ ‬مراحل‭ ‬مؤثرة‭ ‬فى‭ ‬تشكيل‭ ‬الصورة‭ ‬ووظيفة‭ ‬الرمز،‭ ‬الأولى‭ ‬خاصة‭ ‬بالفلاح‭ ‬الديكورى‭ ‬فى‭ ‬المرحلة‭ ‬الرومانسية‭ (‬زينب‭ ‬لمحمد‭ ‬حسين‭ ‬هيكل‭ ‬نموذجاً‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬الفلاح‭ ‬بوصفه‭ ‬شخصية‭ ‬فاعلة‭ ‬لها‭ ‬استقلالها‭ ‬ولها‭ ‬رمزيتها‭ ‬بداية‭ ‬من‭ (‬الأرض‭) ‬للشرقاوى‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1973،‭ ‬ليأتى‭ ‬بعدها‭ ‬فلاح‭ ‬الانفتاح‭ ‬أو‭ ‬الرامز‭ ‬للقرية‭ ‬المصرية‭ ‬بعد‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر‭ ‬وبداية‭ ‬من‭ ‬الانفتاح‭".‬

وأوضح‭ ‬الضبع‭ ‬صاحب‭ ‬الدراسة‭ ‬المهمة‭ "‬رواية‭ ‬الفلاح‭.. ‬فلاح‭ ‬الرواية‭"‬،‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬عن‭ ‬القرية‭ ‬تخضع‭ ‬لثلاث‭ ‬زوايا‭ ‬حسب‭ ‬السارد،‭ ‬فهناك‭ ‬الروائى‭ ‬المقيم،‭ ‬الذى‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬خبرة‭ ‬بالمكان‭ ‬والبيئة‭ ‬التى‭ ‬يعايشها‭ ‬ولم‭ ‬يغادرها،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬فى‭ ‬عمال‭ ‬مصطفى‭ ‬البلكى‭ ‬وأحمد‭ ‬أبوخنيجر‭ ‬ومنى‭ ‬الشيمى،‭ ‬وهيام‭ ‬عبدالهادى،‭ ‬وعصام‭ ‬راسم،‭ ‬وأحمد‭ ‬قرنى،‭ ‬وغيرهم‭ ‬ممن‭ ‬لم‭ ‬يغادروا‭ ‬بيئاتهم‭ ‬الأصلية،‭ ‬ويكتبون‭ ‬مستلهمين‭ ‬خبرتهم‭ ‬بها،‭ ‬ثم‭ ‬الروائى‭ ‬الزائر،‭ ‬والذى‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬يعايشه‭ ‬زمنا،‭ ‬مثل‭ ‬فتحى‭ ‬غانم‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ "‬الجبل‭"‬،‭ ‬كما‭ ‬كتب‭ ‬صبرى‭ ‬موسى‭ ‬عن‭ ‬جبل‭ ‬الدرهيب‭ ‬فى‭ ‬رائعته‭ "‬فساد‭ ‬الأمكنة‭"‬،‭ ‬ثم‭ ‬نجد‭ ‬الروائى‭ ‬العائد،‭ ‬أى‭ ‬ابن‭ ‬المكان‭ ‬الذى‭ ‬عايشه‭ ‬زمناً،‭ ‬وانفصل‭ ‬عنه‭ ‬زمنا،‭ ‬وعاد‭ ‬للكتابة‭ ‬عنه،‭ ‬وتكاد‭ ‬تكون‭ ‬السمة‭ ‬الغالبة‭ ‬على‭ ‬الرواية‭ ‬المكتوبة‭ ‬عن‭ ‬القرية،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الأسوانى‭ ‬وبهاء‭ ‬طاهر‭ ‬والشرقاوى‭ ‬ومحمد‭ ‬مستجاب‭ ‬وعبدالحكيم‭ ‬قاسم‭ ‬وإدريس‭ ‬على‭ ‬وحجاج‭ ‬أدول،‭ ‬وشوقى‭ ‬عبدالحكيم،‭ ‬ويوسف‭ ‬أبورية،‭ ‬وعبدالفتاح‭ ‬الجمل،‭ ‬وغيرهم‭ ‬ممن‭ ‬قاربوا‭ ‬عالم‭ ‬القرية‭.‬

من‭ ‬جهته،‭ ‬يرى‭ ‬الدكتور‭ ‬شريف‭ ‬الجيار،‭ ‬أستاذ‭ ‬النقد‭ ‬الأدبى‭ ‬والأدب‭ ‬المقارن‭ ‬بجامعة‭ ‬بنى‭ ‬سويف،‭ ‬أن‭ ‬الفلاح‭ ‬المصرى‭ ‬شكل‭ ‬ركيزة‭ ‬أساسية‭ ‬فى‭ ‬بنية‭ ‬الخطاب‭ ‬السردى‭ ‬عموماً،‭ ‬والخطاب‭ ‬الروائى‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬إذ‭ ‬انخرط‭ ‬فى‭ ‬لعبة‭ ‬الاستقلال‭ ‬الوطنى،‭ ‬وتجلى‭ ‬هذا‭ ‬بوضوح‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ "‬عودة‭ ‬الروح‭"‬،‭ ‬التى‭ ‬جذرت‭ ‬لعلاقة‭ ‬الفلاح‭ ‬المصرى‭ ‬بالأرض‭ ‬وربطت‭ ‬بينه‭ ‬وبينها‭ ‬بتاريخ‭ ‬الفراعنة،‭ ‬واستطاع‭ ‬الحكيم‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الفلاح‭ ‬فى‭ ‬الرواية‭ ‬جزءاً‭ ‬أصيلاً‭ ‬من‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسى‭ ‬المصرى‭ ‬بل‭ ‬والخطاب‭ ‬القومى‭ ‬الذى‭ ‬يدعو‭ ‬لحرية‭ ‬الوطن‭ ‬واستقلاله‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬الاحتلال‭ ‬البريطانى‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والقصر‭ ‬العثمانى‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬لذا‭ ‬أثرت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬فى‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭.‬

وتابع‭: "‬مع‭ ‬رواية‭ (‬الأرض‭) ‬للشرقاوى‭ ‬انتقلنا‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬أعلى‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬الريف،‭ ‬إذ‭ ‬قدم‭ ‬الشرقاوى‭ ‬رؤية‭ ‬لهيمنة‭ ‬الطبقة‭ ‬الإقطاعية‭ ‬على‭ ‬خيرات‭ ‬مصر،‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬تمسك‭ ‬الفلاح‭ ‬الأصيل‭ ‬بالأرض‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬خصومه،‭ ‬حيث‭ ‬نجحت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬فى‭ ‬تجذير‭ ‬علاقة‭ ‬الفلاح‭ ‬بالأرض‭ ‬والانتماء‭ ‬للأرض‭ ‬المصرية‭".‬

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا