مدارات

آفة الكسل وأثرها

رجائى عطية
رجائى عطية

الكسل فيما يبدو أمر نفسى وعقلى، وهو خوف وإعراض عن تصور موقف جديد يدفعنا إلى الهرب من تغيير ما هو موجود، فالكسل ليس مجرد كراهة وإعراض عن بذل المجهود فى ذاته .. ذلك أن الآدمى لا يكف حتى فى نومه عن بذل المجهود بصورة أو بأخرى، وحياته العضوية والنفسية سلسلة متصلة من الجهود التى لا تتوقف . فالكسل ليس مجرد رفض المجهود، وإنما يزيد برفض الجديد الذى يحدث تغييرًا فى تصوراتنا أو مواقفنا، ونحن حين نتخذ موقفًا جديدًا ندخل فيما يشبه المغامرة، وقد تكون منهكة تدعونا إلى الكف والعودة لالتزام ما ألفناه ! 
 نرى شيئًا من ذلك لو تأملنا حال « الموجة المادية » التى بدأت تظهر بين المسلمين مع الفتوح فى أواخر عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فهذه الموجة المادية التى علت وامتدت بعد ذلك، كانت فى جوهرها موجة كسل عام بالمعنى المتقدم، تسربت إلى نفوس كثيرة لم تر الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم تشهد المشاهد معه لتغيير حياتهم التغيير الشامل الجاد الذى يتطلبه تطبيق الإسلام تطبيقا صحيحا كاملا . فلما أطل الرخاء وزاد، ضاقوا بجسامة التغيير الواسع العميق المطلوب الذى يدعو إليه الإسلام، وتهيبوا تطبيق الإسلام الكامل ( المُجْهِد )، وغلب عليهم الاسترخاء النفسى والعقلى والروحى، واكتفوا بتطبيق الإسلام تطبيقا فيه مصالحة ومواءمة عند حدود وأجزاء معينة، وتأبى التغيير الكلى الذى هو هدف الإسلام الأساسى، ولا يزال هدفه إلى قيام الساعة .
 مثل هذا حدث ويحدث فى كل حركة دينية أو اجتماعية تتغيّا إحداث مثل هذا التغيير الكلى فى حياة الناس، لأنها تصطدم بعد وقت قصير أو طويل بمقاومة الكسل البشرى .. هذا الكسل الذى يفسر قصر عمر العصور المثالية فى تاريخ الإنسانية ! 
 ومن الملاحظ أن حائط الكسل يزداد كثافة كلما ازداد نفوذ الكتل والعامة، ونفوذها فى العصر الحالى جسيم، وهو لا يرجع إلى النظر الفكرى، لأن الفكر مهما تساهل لا يسلم للعوام فى قيادة البشرية إلاّ بدور ثانوى . ويبدو أن مكانة الكتل فى زماننا إنما ترجع أساسا إلى دورهم فى الصناعة والتجارة الحديثتين، فهما تحتاجان على النطاق الواسع إلى الكتل والعامة . فالصناعة والتجارة هما القوتان الخفيتان اللتان تسوقان الكتل إلى مساواة الخاصة . ولذلك فليس عجيبا ما نشاهده من شدة الروح المادية لدى الكتل، وظهور الأنانية والغرور، وضعف الشعور بالواجب، وقلة ضبط النفس والاتزان ! 
 ولكن، هل يمكن أن تصبح الأشياء المادية أغلى وأثمن من الآدميين فى مجتمع متحضر ؟ أجل، وللأسف يحدث ذلك حينما نغفل أمر الآخرين ونسقطهم من تفكيرنا، وحين نبعدهم عن دائرة اهتمامنا، وحين لا نرى إلاّ أنفسنا وأغراضنا وما نخططه ونـدبره لتنفيذها أو تحقيقها .. فعندئذ يصبح الآدميون فى نظرنا مجرد عوامل مساعدة نستخدمها فى تحقيق أغراضنا !
 لا بد أن يحدث هذا حينما نتصور أن الإنسان سيد مصيره بلا حدود ولا سقوف، وحين نسقط من رؤيتنا وحساباتنا أنه توجد جهة عليا سامية لا بد أن تخضع لها مشيئتنا .
 لا شك أننا جميعا نريد خيراً كثيراً لديننا وإخواننا، ولكننا نتردد ونحجم عن دفع ثمن هذا الخير الكثير الذى نريده ، لأننا لا نحب شيئا قدر حبنا لأنفسنا وأموالنا ومصالحنا، ولأننا رغم الأقوال والابتهالات لسنا واثقين تماما من وجهتنا، ولا يخلو معظمنا من استرابة قليلة أو كثيرة فى وعد الحق عز وجل . حين يسأل كل منا نفسه : هل يثق فعلاً فيما عند الله تبارك وتعالى ثقته فى البنك الذى فيه ودائعه، أو الخزينة التى يكنز فيها أمواله، أو فى شركة التأمين التى أمَّن لديها على حياته وماله !
 يبدو أن العقود والعهود التى نعقدها أمام الله عز وجل معظمها كلام وأحلام، لأننا نفر فى الواقع من تحمل المشاق والصعاب والتضحيات التى يقتضيها الصدق مع الله، والوفاء للإنسانية، واحترام الإنسان من حيث هو إنسان، مع أن ما نترك هذا من أجله ما هو إلاّ الوهم والباطل وقبض الريح !