فى الذكرى العاشرة لوفاة «ماركيز العرب»

علامات «خيرى شلبى».. منشد السرد المصرى

الأديب الكبير الراحل خيرى شلبى
الأديب الكبير الراحل خيرى شلبى

الأديبة البارزة والناقدة الكبيرة د.أمانى فؤاد خصتنا بهذا المقال فى الذكرى العاشرة لرحيل ماركيز العرب الأديب الكبير الراحل خيرى شلبى الذى قدم بصمات باقية  فى صرح السرد العربى وعلامات مضيئة حفرت اسمه فى سجل الخالدين.

د. أمانى فؤاد

نشأ الروائى الكبير (خيرى شلبى) فى بيئة الريف المصرى التى خصبتها الأساطير والمعتقدات والموروثات، وأثقلتها بعبق تراثى شديد التميز، ففى مقدمة رواية «بغلة العرش» يصف ظروف كتابته لهذا النص، يقول:».. يخيل لى أنها كتبت نفسها بنفسها، فإذا كنت قد وُفقت فالفضل يرجع لقوة الأسطورة، وتجذرها فى الواقع المصرى».

إشارته تلك تصوب الأنظار لتجذر الأساطير الموروثة فى تكوينه النفسى والثقافى، وهو ما دفعه لخلق نماذج غرائبية فى سردياته، والتنوع فى بنيتها وشخوصها، عابرا للنموذج النمطى فى السرد.

بحث ماركيز العرب ــ كما أُطلق عليه ــ عن الحكمة المخزونة فى صدور البشر المهمشين، أو العائشين فى الظل كما سماهم «يحيى حقى»، وكان بالفعل فى مقام العارف والمنغرز مع هؤلاء المهمشين، يستمع لهم، ويستشرف طموحاتهم البسيطة، ويكتوى بإخفاقاتهم. اختبر حياة قاع المجتمع فى الريف والمدينة، وعانى معاناته، حتى أصبح صوت هذه البيئات ومنصفها وراصداً للمناطق الإنسانية الخصبة فيه.

استنطق خيرى شلبى المكان وخصوصيته المصرية، بنبضه العميق، وحَكَى سيرته الاجتماعية بطبقاته المتنوعة، فلقد انغمس ببسطاء الناس المكتوين بالفقر والفساد، عرفهم وسمع أنّاتهم وخبر مواجعهم، لمس ثقافتهم وموروثهم وطبيعة عقلهم الجمعى، سواء فى القرية المصرية وطبقاتها المتعددة بداية من المعدمة حتى علية القوم وأصحاب الأرض والتجارة، وفى المدينة عرف مناطقها الشعبية والعشوائية، وجوانبها الخفية المجهولة، عايش عالم الحشاشين والصعاليك، وأصحاب المهن المختلفة التى تندرج من الجزارين والسماكين والعمال ووصولا إلى طبقات المثقفين وعليَّة القوم، حيث قدم الكاتب فى نصوصه عوالم فاحشة الثراء، وذلك فى سيرته الروائية «موال البيات والنوم»، ونص «إسطاسية» وذلك فى مشاهد نابضة ومرسومة بعناصرها الغنية وتفاصيلها كافة.

يقول «حاتم حافظ» «إن تسكين العم خيرى شلبى فى خانة أدب المهمشين ــ كما يتردد ــ، قد ظلمه إلى حد كبير. لا لأنه لا يكتب عن المهمشين ولكن لأنه فى كتاباته عن المهمش قد تجاوز المفهوم المباشر لما هو مهمش، وأطلقه فى مساحات أكثر رحابة، فهو لا يكتب عن المهمش فحسب، وإنما عن المهمش فى الذات البشرية، ما يبدو أنه مهمش تحت ثقل القشرة الخارجية السميكة فى بعض الأحيان والتى يحلو لنا مواجهة العالم بها، يستكشف العم خيرى هذا المهمش فإذا به هو الركن الركين فى الشخصية وما تهميشه إلا من قبيل عدم الوعى به أو رفضه فى جملة ما نرفضه من ملامح شخصياتنا.

عبَّر خيرى شلبى عن مخزون خبرات حياتية لا حدود لثرائها، متميزة بوفرة تجاربها الحسية، وترابطاتها الحيوية، ومرادفاتها الواقعية، وعلاقاتها العجائبية، وذاكرتها التى تجمع بين الخاص والعام، المأثور الفردى والميراث الجمعى، فكان حكاء ومنشد السرد فى جيل الستينيات بلا منافس.
كأن تعدد العوالم التى خبرها الكاتب بين الهامش والمتن، والمشكَّلة من الطبقات كافة هى ما وضعت الحياة أمامه ــ بكل وجوهها وأقنعتها ــ معرضا ثريا ينتقى منه ويحلل ويمتع قراءه.

ولقد كان التمازج بين المعيش الواقعى والمبتدع المتخيل هو سمة إبداع خيرى شلبى، هذا التداخل الانسيابى هو سر تدفقه الروائى، ذلك أن الرواية عنده، مثل الحياة، نهر يتدفق، يفيض بعناصر طميه المخصبة، وتقديمها إلى القارئ فى لغة منسابة رقراقة بلا أى توعر، لغة تتراوح تركيباتها بين المعانى المتداولة الواقعية، أو الصور المجازية الرائقة، رغم ما قد تحمله من علاقات متباعدة بحسب بنية الشخصيات وثقافتهم.

كان الزمن سائرا دوما فى طريقه الخطى فى نصوص الروائي، مهما اعترضته الأحداث القدرية وشوشت إيقاعه، فلقد استمر خيرى شلبى طيلة كتاباته لنصوصه الكثيرة يمد يده فى وعاء زمن الشخوص، وسيرة المكان، مهما استطال مداها الزمني، ليختار المرحلة الزمنية التى يريدها من سنواتهم، ويوظف عناصرها، فيرسم شخوصه بحاضرهم الآني، مستندا وبانيا على ماضيهم، ومتضمنا لأحلام مستقبلهم، ولعل روايته «وكالة عطية» نموذجا لثراء نماذجه البشرية.

أظنه لم يكف بتساؤلاته عن كينونة المعنى وفلسفة الوجود البشري، والتساؤل الأبدى هذا، هو الذى كان يدفعه دوماً للكتابة، فالكتابة كانت الاقتراحات المستمرة والمتطورة والموغلة فى الإجابات، وهذه الإجابات كانت تجر تساؤلات جديدة، إنه الباحث والمتحرى عبر كل إبداعاته المتنوعة عن المعانى الجوهرية لحقيقة الإنسان. الكاتب الذى لم تنهض به ظروفه الاجتماعية الأسرية، لكنه شيّد ثقافته من منابعها الثرية المختلفة، باحثا عن القيم الحقيقية التى تضفى معنى عميقا لهذه الحياة البشرية.

وتتألق عقيدة «خيرى شلبى» فى التكوين الإنسانى من خلال «البورتريهات» التى كتبها، حيث رسم بالكلمات نوعاً من التداخل بين شخصية البورتريه ومكونات الوجود من حولها، فالتكوين الفردانى للإنسان لا يقتصر على التاريخ والحضارات التى تعاقبت، وعلى ما يكوَّن الحضارات من معطيات ثقافية، لا يقتصر أيضا على الجغرافيا التى تسهم فى بناءات الشخوص، قدر ما يسهم تفاعل كل هذا مع إرادة الإنسان الفرد حتى يصبح على نحو ما متفردا.

يقول «خيرى شلبى» عن الشخصية المصرية «ليست عرقاً.. إنما هى مكونات غذائية ونفسية ومناخية يصنعها نهر النيل الأفريقى، صانع هذا المكان العبقرى المسمى بمصر». وفى كتابه «عناقيد النور» تحت عنوان: الأسطورة يرسم بورتريه للزعيم الراحل (سعد زغلول) يقول فيه: «.. فصاحب هذا الوجه النهر نيلى كان ولا يزال يشخص جدلاً حميمياً بين الواقع والأسطورة بصورة تؤدى إلى اللبس أحياناً؛ إذ متى تنتهى الأسطورة ليبدأ الواقع فى شخصية الزعيم خالد الذكر سعد زغلول؟!
يتلخص فى هذا الرسم القلمى مجموعة من المحددات لدارس إبداع شلبي، أين يبدأ محدد من هذه العناصر وأين ينتهى؟ جميعهم دون شك فى مخيلة وعقيدة صانع البورتريه فى بوتقة تنصهر فيها تلك الموجودات وتتراسل العلائق، وتغيم الحدود وإن بقيت فهى حدود وهمية ربما تبقى ردءاً لحالة من السيولة التامة.

وكما يحتفى بالأعلام المصرية ينشغل أيضا فى مؤلفه «أنس الحبايب» بشخصية مصرية عادية «الشيخ محمد زيدان عسر» ويصفه بأنه ذابت فى شخصيته العروق بين الأزهرى والأفندى المدنى والفلاح القرارى والحكواتى الفلكلورى.

بقدر ما يركز شلبى على المشترك فى البورتريه قدر ما يبرز الخاص بكل شخصية، التميز الخاص والبصمة التى لا تماثل الآخرين، نحن بإزاء كاتب يحتفى بالخاص، ويضعه فى السياق العام من خلال إبراز العلاقات غير المرئية، غير المكرورة، علاقات تدعو إلى الدهشة والبكارة، هيئ لى أحياناً وأنا أقرأ «عناقيد النور» أنه كان يحتفظ على مكتبه بجوار القلم بأزميل للنحت، وبريمة للحفر فى الزمن والصخر والتاريخ، ومبضع جراح مرهف اليدين والروح، وأدوات أخرى ناعمة كفرشاة ألوان، أو ناى حزين من أعواد الخيزران المصرى النابت على حافة النهر، ليصنع صوراً قلمية لشخصياته التى يقول عنهم أنهم: «روح مصر، نفسها الطويل، صمودها فى مواجهة التحديات، وهم شجر المقاومة يستظل به عموم الناس يتشربون أنفاسهم يستردون ما فقدوه من أمل فى عودة الأمور إلى وضعها المعدول، وهم صناع الوجدان وبنَّاءو ذاكرة الوطن ومشيدو صروح مجده».

أظنه لم يكف عن التساؤل أبداً عن معنى الوجود الإنسانى وتجلياته، والتساؤل الأبدى هذا، هو الذى كان يدفعه دوماً للكتابة، فالكتابة كانت الاقتراحات المستمرة والمتطورة والموغلة فى الإجابات، الإجابات التى تجر تساؤلات جديدة، إنه الباحث الأبدى عبر كل إبداعاته المتنوعة عن المعانى الجوهرية لحقيقة الإنسان.
فى نصوص خيرى شلبى نحن لسنا بصدد شخصنة الأشياء وإضفاء صفات الإنسان عليها، قدر ما يريد الكاتب أن يبرز العلاقات الحميمة بين الأشياء والإنسان، ما تضفيه الأشياء على الأشخاص.

منذ زمن بعيد لاحظ الباحثون الغربيون والمستشرقون العلاقة الحميمة بين الفلاح المصرى والأرض وأدواته وحيواناته، وسجلوا أنه يتشكل من تلك الأرض التى يطؤها، فهو معجون بداخلها، وبالكاد يظهر على سطحها، فهو يجمع بين عنصرى الأرض وماء النيل، ورأوا أنه ليس هناك أى مكان يكون فيه الاتفاق بين الإنسان والأرض أوضح من ذلك.
تتطور تلك العلاقة الأزلية بين المصرى الفلاح والأرض المصرية لتشمل الموجودات الكونية جميعها فى وحدة كلية تتماهى فيها كل المخلوقات فى أدب خيرى شلبى لتشير إلى منظومة وجودية واحدة، تتبادل فيها الموجودات الأدوار والوظائف دون تمييز أو عناء كما فى نص «الوتد».

يقدم المبدع فى رواياته وقصصه ومقالاته حكيا يتضمن فكراً عميقاً، يرى الجوهر الواحد المتعدد فى الموجودات، فى أشكالها وبدائلها اللامتناهية، كما يبرز انصهار الحضارات المتعاقبة على المصرى البسيط، فى سيمفونية أنتجتها خصوصيته الفرعونية، القبطية، الإسلامية، وخصوصية المكان بنهره الخالد، وموقعه فى قلب العالم، وتميز الإنسان المصرى.