أبطال الرواية الحديثة..

أبطال الرواية الحديثة| الجاحظ وابن سينا وابن عربى..نجوم من التراث

أبطال الرواية الحديثة
أبطال الرواية الحديثة

حسن حافظ

سؤال الأصالة والمعاصرة، شغل أجيالاً من المثقفين العرب على مدار الـ150 عاماً الماضية، لكن يبدو أن على صفحات الرواية تم العثور على الإجابة، فلا أحد يريد هجر تراثه ولكن لا يمكن إنكار إيقاع العصر، فالراوية باعتبارها شكلاً حداثياً للتعبير عن الأفكار، استطاعت أن تعيد النظر فى شخصيات فكرية تراثية وتعيد إليها الحياة عبر تحولها إلى أبطال فى العديد من الروايات التى ظهرت فى العقود الأخيرة.

وقد شكلت هذه الأعمال الإبداعية مظهراً من مظاهر الرواية المصرية والعربية الحديثة، كبوابة لطرح أسئلة عميقة على التراث والحاضر معا، ومحاولة استكشاف طريق للخروج من أزمات تحيط بالمجتمعات العربية، والرد على من يرى أن التراث ذو وجه واحد، هو وجه التطرف بالتأكيد على أن التراث متنوع ولديه الكثير من الأوجه الحضارية التى تستحق الاحتفاء والاستدعاء بعيداً عن الجمود والتطرف.

لم يعد مفاجأة أن تجد الجاحظ أو ابن سينا أو ابن رشد أو ابن عربي، أبطالاً فى أعمال روائية تعيد طرح أسماء هذه الشخصيات الفكرية التى أثرت فى فترات من تاريخ حضارة المسلمين، وتركت علامات لا تُمحى فى تاريخ الحضارة الإنسانية كلها، إذ يلجأ الروائيون العرب إلى استدعاء هذه الشخصيات للتأكيد على أن التراث لديه أكثر من خطاب منها ما هو حضارى يقوم على فهم عميق للدين باعتباره أحد مكونات الوجود الإنساني، وأن محاولات البعض اختطافه وتصويره على أنه تراث دموى قائم على الكراهية والتدمير والسلب والنهب، هى محاولات لتشويه هذا التراث العظيم القابل للاستدعاء والمعاصرة دون مشكلة، وهو ما نجحت فيه الكثير من الروايات التى مزجت بين إعادة توظيف شخصيات لعلماء من مختلف الاتجاهات فى قالب الروائية الحديث دون أى مشكلة أو شعور بالتنافر.
حظيت شخصية الشيخ الرئيس الفيلسوف المسلم ابن سينا، بحيز مهم من التقدير والاهتمام الروائي، فالرجل شخصية مثيرة للجدل، فهو من الشخصيات الملونة التى ظهرت على صفحات التاريخ الإنساني، فالرجل الذى رفض فكر والده وأخيه الإسماعيلى الشيعي، وقرر أن يصل إلى قناعات شخصية عبر البحث والقراءة النهمة، حتى أصبح أحد أكبر فلاسفة وأطباء الإسلام، والرجل الذى استفادت أوروبا من عمله وفكره فى بناء نهضتها، كان يصلى ركعتين إذا ما استغلقت عليه مسألة حتى يفتح عليه، والذى اتهم بالكفر والإلحاد، حتى قال مقولته الشهيرة: "بلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم".


بدأ الاهتمام بابن سينا عبر الروائى الفرنسى جلبير سينويه الذى عاش فى مصر فترة طفولته، فألف رواية "ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان" 1988، والذى قدَّم سيرة الفيلسوف المسلم على لسان تلميذه المقرب الجوزجاني، وسط أجواء غريبة تستمد من خصوصيات الحضارة الإسلامية روعتها، كما ألف سينويه رواية أخرى عن الفيلسوف الكبير ابن رشد تحت عنوان "ابن رشد أو كتاب الشيطان"، وهى رواية تبحر فى عالم ابن رشد وتقدم نموذجاً للتعايش الحضارى بين ثقافات مختلفة، عبر مراسلات ابن رشد مع الفيلسوف اليهودى موسى بن ميمون الذى تشرَّب الفكر الإسلامى فى صورتيه الكلامية والفلسفية.


فى 2013، نشر الروائى المصرى محمد العدوى رواية "الرئيس" التى تدور حول السيرة الذاتية لابن سينا، فى عمل خلاب ولغة آسرة يدور حول البطل الشاب وهو طبيب تشرب التراث، واختار اسم ابن سينا له على وسائل التواصل، لإعجابه بالفيلسوف الطبيب، ما دفع البطل الشاب للسفر من مصر لمشاهدة البلاد التى عاش فيها ابن سينا، أى "بُخارى" وبلاد فارس، لتمتزج رحلة البطل بحياة ابن سينا، ما يمكن الكاتب من طرح الكثير من القضايا الفكرية والخاصة بواقع المجتمعات الإسلامية والعربية للنقاش، مؤكداً حقيقة رسوخ هذه المجتمعات حضارياً وأنها لكى تنطلق فى اللحظة الحاضرة عليها أن تستوعب تنوعها واختلافها الصحي.


ودخل يوسف زيدان على الخط برواية "فـردقـــان.. اعتقـــال الشـــــيخ الرئـيــس" (2018)، وتـــدور أحـــداثها حـــول واقعة اعتقال ابن سينا فى قلعة فردقان بوسط بلاد فارس، وهى واقعة تاريخية مثبتة، والتى يستغلها زيدان من أجل إعادة رواية حياة ابن سينا كلها، واستخدامها بما تحمله من رمزية لطرح الكثير من الأفكار السياسية والفلسفية والاجتماعية والدينية، ولم يكن يوسف زيدان باعتباره باحثاً فى التراث غريباً عن ابن سينا، إذ سبق أن نشر له نصه "حى بن يقظان" الذى يعتبر بدوره نصاً مؤثراً فى الآداب العالمية.


وعاد زيدان لاستخدام شخصية تاريخية ممثلة فى العالِم الكبير الحسن بن الهيثم، فى أحدث أعماله الروائية "حاكم: جنون ابن الهيثم" (2021)، وهى رواية تقوم على حدث تاريخى عندما ادعى ابن الهيثم الجنون هرباً من عقوبة الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله، حيث زعم ابن الهيثم قدرته على بناء سد يحمى مصر من مخاطر الفيضان، ما دفع الخليفة الفاطمى لاستدعائه من البصرة، ووفر له ما أراد، لكن ابن الهيثم تأكد على أرض الواقع أن تكنولوجيا عصره أقل من أن تحقق الفكرة، فادعى الجنون هرباً من عقاب الخليفة وسيفه.


أما الروائى الفرنسى اللبنانى أمين معلوف، المعروف بعودته إلى التاريخ فى الكثير من أعماله، فقد قدم رواية "سمرقند" (1988)، التى تعتبر نموذجاً للفن الروائى القائم على استرجاع شخصيات فكرية وعلمية من التراث الإسلامي، ففى هذه الرواية المدهشة يتتبع معلوف قصة الشاعر الفارسى عمر الخيام، الذى يعد أحد كبار علماء الرياضيات والفلك المسلمين، ووضعه لنصه الشعرى المدهش "الرباعيات"، وعلاقته بزعيم الحشاشين الحسن الصباح، ثم تنتقل الأحداث لتتبع قصة عالم أمريكى للحصول على المخطوطة الأصلية من الرباعيات، والتى يعود بها من إيران، لكن تغرق المخطوطة فى المحيط الأطلنطى مع غرق السفينة الشهيرة "تيتانيك".


ووصل الروائى السعودى محمد حسن علوان، لذروة هذا الفن الروائى عربياً، عبر روايته "موت صغير" (2016)، التى حازت جائزة البوكر، وتدور الرواية حول قصة حياة الصوفى والفيلسوف محيى الدين بن عربي، وتتبع المؤلف قصة حياة ابن عربى منذ ميلاده فى الأندلس ورحلاته إلى المشرق مروراً بالمغرب ومصر وسوريا والعراق والحجاز وغيرها من الأقطار.


وسبق للروائى المغربى عبدالإله بن عرفة، أن تناول شخصية ابن عربى فى رواية "جبل قاف" (2002)، وهو يستغل الأبعاد المتعددة لشخصية الشيخ الأكبر لطرح الكثير من الأسئلة والأفكار حول واقع المجتمعات العربية، خاصة أن استدعاء الشخصيات الصوفية روائياً أصبح ظاهرة بعد النجاح الأسطورى لرواية "قواعد العشق الأربعون" للروائية التركية إليف شافاق، وهى رواية تدور حول الشاعر الصوفى جلال الدين الرومي.


ويقدِّم الروائى الموريتانى أحمد فال ولد الدين، تجربة مختلفة فى روايته "الحدقي" (2017)، عبر الحديث عن شخصية أمير البيان العربي، الجاحظ، وعبر هذه الشخصية الكبيرة والغنية بالتفاصيل تغوص الرواية فى عصر الخلافة العباسية فى قمة تألقها الحضاري، ويستغل الكاتب الرواية فى الدفاع عن العربية لغة وحضارة، بينما فضل الروائى والمفكر المغربى بنسالم حميش، تناول سيرة العلامة ابن خلدون فى رواية "العلامة" (1997)، وهى تجربة روائية تستند إلى الوجود الحقيقى لابن خلدون لكنها تنسج مساراً متخيلاً لحياته بعيداً عن التماس مع الوقائع التاريخية، فظهر ابن خلدون فى الرواية كما يتخيله حميش لا كما هو فى الواقع التاريخي.