فى ذكراه .. أديب مصر العالمى يطل من شرفات الخلود

ناقدان بارزان و«حرفوشان» وفيان يستحضرون روح نجيب محفوظ في ذكري وفاته

.
.

15 عاما مضت على مفارقة الروح للجسد،ورغم ذلك يشعر المرهفون بحضوره قويا يرفف بأجنحته فى الأفق المضيء، ففى مثل هذا اليوم غادر عالمنا أديب مصر العالمى حقا نجيب محفوظ بعد رحلة حافلة حفر على امتدادها بصماته ليس فقط على الوجدان العربى والمخيلة المصرية ولكن على صفحة الوجدان الإنسانى بأسره، واليوم يشاركنا الاحتفاء بذكراه عبر هذه الصفحة المخصصة لإستعادة بعض عبيره وجزء من شذاه الآسر ناقدان بارزان وحرفوشان وفيان مخلصان كانا مقربين من نجيب محفوظ الذى ظل يطل على تلاميذه وعشاقه على مدى أكثر من نصف القرن سواء فى مرحلة الحرافيش القدامى أو الجدد وكأنه شمس تمد توابعها الدائرة فى فلكها بالضوء والدفء والطاقة،وها هى ذى الصحبة تحاول معنا فى ذكرى الرحيل عن عالمنا استحضار روح صاحب الثلاثية والحرافيش وسائر الأعمال الفذة الخالدة.

الناقد د.حسين حمودة : قدم نماذج ناصعة للانتماء

شيّد نجيب محفوظ مشروعه كله، من بدايته وحتى منتهاه، على وعى عميق بأبعاد الهوية المصرية، بمعناها الذى تبلور خلال تاريخ طويل، وقام على حراك واضح، واتصل بتفاعل مشترك بين مؤثرات وثقافات وانتماءات عديدة، انصهرت معا وكوّنت صيغة فريدة، قائمة على قيمة التعدد وعلى معناه،وهذا الوعى كان يمثل قاسما مشتركا بين مثقفين مصريين كبار (منهم طه حسين الذى حلل أبعاد هذا التعدد للهوية المصرية، فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، فى نهايات ثلاثينيات القرن الماضي)، كما أن هذا الوعى هو ما قاد نجيب محفوظ الشاب، فى الفترة نفسها ، إلى التفكير فى كتابة سلسلة من الروايات تتصل بالتاريخ المصرى الممتد الطويل منذ عصور القدماء المصريين وحتى الزمن الراهن وقتذاك (وإن عدل عن هذا المشروع بعد كتابة روايات فرعونية ثلاث)، فضلا عن أن هذا الوعى كان حاضرا وراء صياغة نجيب محفوظ، فى تقديم نفسه إلى القائمين على «نوبل»، فى حفل تسلّم جائزتها: «أنا ابن حضارتين تزوجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجا موفقًا.. إلخ»، و: « ثم ارتويت من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة»..  والأهم أن هذا الوعى كان وظل حاضرا، بوضوح وبأشكال لا حصر لها، فى كتابات نجيب محفوظ الإبداعية التى تأسست فيما تأسست على الاحتفاء، بجانب البعد الفرعوني،  بالثقافة العربية، وبالبعد «المتوسطي» نسبة للبحر الأبيض المتوسط، وبالتعبير عن التجاور المشترك بين شخصيات مصرية، عربية، مسلمة ومسيحية، فضلا عن الروابط التى تصل بين هذه الشخصيات وشخصيات أخرى، تنتمى انتماءات متنوعة.


فضلا عن حضور التراث المصرى القديم فى الروايات الثلاث المبكرة، ثم فى رواية (العائش فى الحقيقة) فى زمن لاحق، تمثّل محفوظ واستلهم الميراث السردى العربى فى عدد من أعماله (رحلة ابن فطومة، وليالى ألف ليلة، وحديث الصباح والمساء.. مثلا)، ويتصل بهذا البعد «العربي» حرص محفوظ على كتابة رواياته وقصصه بلغة عربية فصحى، مشبعة بروح العامية المصرية فى حوارات شخصياتها، كما اهتم بحضور البعد «المتوسطي» فى بعض رواياته («السمان والخريف» و»ميرامار» خصوصا)، ومع هذا الحضور تراءت فى كتابات محفوظ  روابط وصداقات وأواصر تصل بين أبناء الوطن الواحد، من ديانات وثقافات وجنسيات متعددة (مثلا: كمال المسلم ورياض قلدس المسيحى مثلا فى «الثلاثية»، وماريانا اليونانية وكل من حولها فى «ميرامار»)، وخلال هذا كله، احتشدت أعمال محفوظ، كلها تقريبا،  بتعبيرات متنوعة عن نماذج ناصعة للانتماء إلى مصر، والاهتمام بقضاياها الحقيقية، وتجسيد أماكنها وشخوصها المحلية، وإن حرصت هذه الأعمال على الوصل بين كل ما هو مصري، محلي، وبين الإنسانية كلها.

 

الأديب الحرفوش نعيم صبري : لم يعبر عن الهوية أحد مثله

استهل الأستاذ نجيب محفوظ عمله الروائى بمصر القديمة فأبدع فيها ثلاث روايات تشى منذ البداية بمكانة مصر وهويتها عنده، وآخر تلك الروايات كفاح طيبة، حيث صور هبة الروح المصرية فى وجه الغازى وطرده من البلاد بقيادة ابنها البار أحمس،استدار بعدها فى لفتة مفاجئة إلى الحاضر المصرى فى واقعه السياسى والاجتماعى فكتب القاهرة الجديدة، أو القاهرة ٣٠، ليعرض واقعا سياسيا واجتماعيا أليما فى فترة الثلاثينيات من القرن العشرين، تأذى له ضمير الكاتب فانتبه لتشريحه وعرضه، واصل بعدها ابن القاهرة القديمة فى عرض وتشريح الواقع المصرى فى فترة الأربعينيات فى رواياته: خان الخليلى وزقاق المدق وبداية ونهاية ليختم مرحلته الواقعية بثلاثيته الشهيرة التى عرضت لمصر وحياتها بين الحربين العالميتين من خلال رواية أجيال تعرض وتُفَصل الواقع المجتمعى لمصر وتَشكل هويتها الحديثة من خلال كفاح حزب الوفد بقيادة سعد زغلول ومن بعده مصطفى النحاس، الذى حمل لواء الهوية المصرية منذ مشارف القرن العشرين فى كفاح البلاد من أجل الاستقلال عن الاحتلال الإنجليزى،كان الأستاذ نجيب محفوظ وفدى الهوى، ذلك الحزب الذى رفع لواء الهوية المصرية منذ جمع المصريون التوكيلات له ممثلا للأمة فى مواجهة السلطة المحتلة تأييدا للمطالبة بالاستقلال من المستعمر الإنجليزى، رفع حزب الوفد لواء الهوية المصرية من خلال وحدة الأمة جميعا بشعاراته الواعية، الدين لله والوطن للجميع،صمت الأستاذ فترة خمس سنوات بعد قيام ثورة 23 يوليو ليراقب ويفهم، عاد بعدها متأملا بأعماله الفلسفية الكلية ليتوقف منتبها مرة أخرى فى الستينيات لمباذل التطورات السياسة التى ألمت بالبلاد فيتجه بكل أمانة وصدق لنقد الوضع السياسى وسلبياته فى عمليه الفذين ثرثرة فوق النيل وميرامار ليشرح ضياع النخبة المثقفة فى ضوء الواقع المتدنى ومباذل الحزب الواحد وانحرافاته وفساده، هكذا نرى من خلال الصورة الشاملة لعمل الأستاذ أن شغله الشاغل كان مصر وهويتها وواقعها ومجتمعها فى مجمل إنتاجه الفنى منذ البداية وخلال مسيرته العامرة،فى ظنى المتواضع، لن نجد من عبر عن الهوية المصرية بثبات وقوة وشمول فى الأدب المصرى مثل الأستاذ نجيب محفوظ، لروحه السلام.

دعابة الذاكرة!

رأيت شخصا هائلا ذا بطن تسع المحيط،وفم يبلع الفيل،فسألته:من أنت؟
فأجاب باستغراب :أنا النسيان فكيف نسيتني؟!
من «أصداء السيرة الذاتية»

عين امرأة!

رأيت فيما يرى النائم أن ثمة عينا ترنو إلى ..عين كبيرة كأنها فسقية،جميلة الرسم عميقة السواد،ناصعة البياض مستوية فى مكان غير معروف ولكن سحائب بيضاء تظللها، وفى نظرتها ما يوحى بأنها تراني،وربما تعرفني،ولكن يكتفها حياد يقصينى إلى ما وراء الغيب،وقلت لنفسى إنها عين إمرأة فأين بقيتها؟
وقلت أيضا بصوت مسموع: آفة الحب الحياء!
من «رأيت فيما يرى النائم»

الناقد د. حسن البيلاوى

غوص فى قاع الحارة .. وتحليق فى أفق العالم

الهوية عند فلاسفة الحداثة والتنوير هى مجمل السمات الثقافية لشعب من الشعوب فى مكان وزمان معين،ومن ثم فالهوية عندهم فى تغير مستمر،والثقافة المنفتحة تتجه فى تغيرها نحو الرقى على مسار التقدم الحضاري،أما التراثيون أصحاب الرؤية الأصولية، فهم يحددون الهوية بالدين والعرق،ومن ثم فالهوية عندهم،أى عند التراثيين فى ثبات،أى ثابتة لا تتغير،إلا أن فلاسفة الحداثة،يرون الثبات أزمة،لأنه يعوق التقدم،ويحبس الشعوب فى زمان مضي،وفى تراثنا الحداثة بدعة،والبدعة مكروهه،هويتنا إذن ثابتة محاصرة بالماضي،ولاريب فيها هكذا رأى الأديب الفيلسوف نجيب محفوظ هويتنا «هوية فى أزمة» لأن ثقافتنا تراثية ماضوية،لاريب فيها،لم يكن نجيب محفوظ فيلسوفا،لكنه كان أديبا يتفلسف،أديبا امتلك ناصية الفلسفة امتدت رؤيته إلى أعماق الحياة فى مصر،يجسد قلمه رؤيته للهوية فى مصر،فى أبعاد المكان والزمان،وانعكاساتها على سمات الشخصية المصرية فى هذين البعدين فى حقب تاريخية متتالية عالج قضايا الوطن،عينه على الطبقة الوسطى،التى يقول عنها علماء الاجتماع أنها المحور الرئيسى فى أى مجتمع فى أى حقبة تاريخية،وحتى نتعرف على المجتمع لابد أن نفحص وندرس الطبقة الوسطى،أزمتها وأحلامها وطموحاتها،هكذا فعل نجيب محفوظ،فى معالجته لأبطال روايته فى كل حقبة تاريخية،فى المكان والزمان،،كانت طريقة نجيب محفوظ،فى تناوله لقضايا مصر قبل أحداث ثورة يوليو 1953 تعتمد على منهجية «الواقعية الصريحة» ،كشف بجرأة صريحة واقع أزمة الهوية فى مصر،وهكذا فعل فى رواياته فى مطلع الخمسينيات فى ثلاثيته المشهورة،،كشف نجيب محفوظ أزمة الهوية كما رآها فى بنية « العائلة « المصرية،عائلة السيد عبد الجواد نموذجا،فى بين القصرين،فأفاض فى تشريح معالم وخصائص هذه البنية سلط الضوء على سيرة الأب،واتجاهاته وثقافته وسلوكه،أبرز سمات الثقافة الأبوية الذكورية،فى انغلاقها وتناقضاتها،باختصار فى أزمتها العائلة المصرية نواة تحمل فى طياتها كل خصائص مجتمعها الكبير..الأسرة منغلقة،المرأة حبيسة،الأب متسلط،الثقافة المخيمة على الأسرة - القيم والتقاليد والسلوكيات - ثقافة جامدة من تراث ماضوى مليء بالتناقضات،الشباب من أبناء هذه الطبقة الوسطى،عائلة السيد عبد الجواد،يتطلعون إلى الخروج على هذه الثقافة والانفكاك منها،مرة من خلال الكفاح الوطنى ضد الإنجليز،وأخرى بحثا عن الرفاه والمرح فى حياة خارج الأسرة تحمل النقيض،ينهى نجيب محفوظ روايته مع ظهور بريق حل الأزمة على يد الشباب،كفاح الشباب،كفاح المرأة وخروجها دفاعا عن استقلال الوطن،الوحدة الوطنية..وقائع واضحة صريحة لمجاوزته أزمة الهوية من خلال القوة الكامنة فيها لكن للأسف،مع أول حدث أو ضوء لحل الأزمة،يسكت نجيب محفوظ ويعلن نهاية الرواية!! كأن نجيب محفوظ يصرخ فى آذاننا..إنها أزمة الهوية..أزمة الثقافة..أزمة الانحباس فــــــــى مكان مسدود،وتاريخ مسدود..،وفى عام 1952 كان الحدث الكبير فى مصر بظهور ثورة 23 يوليو،تغيرت الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية،وعاماً بعد عام كانت تتصاعد الآمال والآلام،والأحداث السياسية تتوالى تعبر عن صراع الهوية،بين قوى اليسار الشيوعي،والإخوان المسلمين،وقوى اليمين الرأسمالي،وفى هذه الأجواء يتوقف نجيب محفوظ عن كتابة الرواية (بعد إصداره الثلاثية فى بداية الخمسينيات) توقف للرصد،وعدسة الرصد عند الأديب الفيلسوف نجيب محفوظ عدسة واسعة ترى الحياة فى كليتها،يتداخل فيها السياسي،والاجتماعي،والدينى والشخصي،وفى العالم البعيد خارج مصر فى ذات الوقت والتاريخ،كانت الدول الكبرى فى سباق مع الثورة العلمية والتكنولوجية،يعلن الاتحاد السوفيتى نجاح إطلاق أول سفينة لغزو الفضاء سبوتنيك (57)،والأديب محفوظ يتجول فى شارع المحروسة عينه على قاع الحارة وعقله فى الأفق العالمي، مع الثورة العلمية والتكنولوجية فى العالم المتقدم،وسؤاله الذى يتردد فى صدره ماذا يدور فى مصر؟ وإلى أين؟ بالطبع لن يصلح التعبير،فى هذه الحالة،عن هذه الأحداث الصاخبة والصراع السياسى المحتدم فى مصر،ورصد رؤية المستقبل بالأسلوب الواقعى الصريح الذى عالج به نجيب محفوظ كل أعماله قبل 23 يوليو 1952،والثلاثية نموذجا،بالطبع لن يصلح الأسلوب الواقعى للتعبير عما يجيش فى صدر المفكر العظيم،فى وسط هذه الصراعات المتلاطمة،وبالفعل جاء أول عمل له بعد فترة توقف يحمل عنوان « أولاد حارتنا « عام 1959،،كانت أولاد حارتنا تعبر عن انتقال نجيب محفوظ من الواقعية الصريحة الى الرمزية وظهرت الرمزية بعد ذلك فى رواية « بين السماء والأرض « ورواية « ثرثرة فوق النيل « حيث عبر بالرمز عن رؤيته فى رصد الأزمة والخروج منها،فى ذلك السياق التاريخى، ويلاحظ أن نجيب محفوظ حين انتقل إلى الرمزية..وكانت أحداث رواياته تدور فى مكان محدود كأنه مغلق..سواء فى « الحارة «،أو مثلما حدث بعد ذلك..حيث كانت أحداث ثرثرة على النيل محبوسة فى العوامة،أو محبوسة فى المصعد فى رواية «بين السماء والأرض «وهنا نسأل: ما معنى المكان المحدود الذى تكرر فى روايات نجيب محفوظ؟ أرى أن نجيب محفوظ قد لاحظ أن المصريين لم يخرجوا عن ضفاف النيل 95% من السكان يعيشون فى 5% من مساحة الأرض،رغم امتداد الصحراء حولهم،كأن المكان مسدود،وهكذا يعانى المصريون من انسداد المكان وانسداد التاريخ،وأعنى بانسداد التاريخ،انسداد الفكر، ظللنا محبوسين تحت هيمنة التراث الماضى، فتوقف التاريخ عن الحركة منذ القرن الثالث عشر الميلادى،وظل الخروج من انسداد الأرض إلى الصحراء يحتاج إلى الفكر والعلم، وقد انسدت سبله أمامنا والخروج من انسداد التاريخ بثقافته الماضوية،لا يتم ولن يتم إلا بالعلم، بالمعرفة،بالتنوير..هذه هى أزمة الهوية التى نعتقد أن الأستاذ عبر عنها مرة بالواقعية الصريحة،ومرات بالرمزية .

الحرفوش مجدى سعد :الحكمة من أفواه البسطاء

أدب نجيب محفوظ الذى يبدو مغرقاً فى المحلية والذى يستلهم أحداثه من الحارة المصرية الصميمة بتفاصيلها الدقيقة، هو فى حقيقته أدب إنسانى يتذوقه ويستمتع به القارئ فى كافة أرجاء المعمورة، وبالرغم أن الأدب يفقد الكثير عندما يترجم من لغته الأصلية إلى اللغة التى يترجم إليها، إلا أن الأدب المحفوظى قد فرض نفسه من من خلال ذلك الصدق المبهر فى تشريح النفس البشريةالذى برع فيه عمنا الكبير، على مدار تاريخه الأدبى الطويل الذى إمتد من النصف الثانى لثلاثينيات القرن الماضى حتى صعدت روحه الصافية إلى بارئها فى السنة السادسة من الألفية الثالثة، وإذا كان المكان هو البطل الظاهر فى العديد من أعمال نجيب محفوظ ، إلا أن الشخصية المصرية الثرية بتجربتها الإنسانية وتاريخها العريق، كانت هى البطل الحقيقى لأدب الراحل العظيم، فقد إستطاع نجيب محفوظ أن يستخلص قيماً نبيلة من أناس ربما لا نعيرهم إلتفاتاً فى حياتنا اليومية، وإنسابت الحكمة من أشخاص ليست لهم تلك المكانة الإجتماعية التى تآلف الناس على توقيرها لأسباب مادية أو مظهرية، فقد كان الراحل العظيم نموذجاً فذاً للشخصية المصرية فى أعظم تجلياتها، تلك الشخصية التى تستطيع أن تملك القلوب والعقول فى آن واحد من خلال نبل الزهد، وتواضع الكبرياء.