محمود الوردانى: «نجيب محفوظ» أسس فن الرواية العربية 

الكاتب الكبير محمود الوردانى
الكاتب الكبير محمود الوردانى

كثيرون هم الذين ساروا فى تلك الطرق التى مهدها نجيب محفوظ، وامتد تأثيره لكل الأجيال التى جاءت بعده، هنا نحاول تتبع الأثر الذى لا يبهت أبدا، وحول أدب نجيب محفوظ بمناسبة ذكرى وفاته، يقول الكاتب الكبير محمود الوردانى, لـ«أخبار الأدب»، لم أقرأ نجيب محفوظ إلا متأخرا، بل ومتأخرا جدا، على الرغم من أننى كنت من بين المترددين على جلسته الأسبوعية فى «كافيه ريش» فى مطلع الشباب، وباستثناء قصته القصيرة «تحت المظلة» التى كتبها فى ظل أجواء هزيمة 1967، واعتبرتها أنا متأثرة بالقصة التى كان يكتبها الستينيون آنذاك، ابتعدتُ عن قراءته ولم أنجذب لأعماله، ربما كانت فواجعه الميلودرامية الباكرة مثل خان الخليلى والقاهرة الجديدة سببا فى تجنبى له، وربما كانت الأفلام السينمائية الكثيرة جدا المأخوذة من أعماله سببا فى ابتعادى عنه، ولطالما اشتغله السينمائيون واستخدموا إسمه وأهانوا أعماله للأسف. 

وفى مطلع الثمانينيات من القرن الماضى وقعت فى يدي «الحرافيش» فبدأت علاقة مختلفة تماما معه، الحرافيش سحر خالص، سحر لافكاك منه، بل يتلبس الواحد ولايملّ من قراءتها وإعادة قراءتها.. وهكذا اكتشفته وانطلقت نحوه. قرأت أغلب أعماله عدة مرات دون ملل، الثلاثية مثلا قرأتها أكثر من مرة، ومازلت أكتشف كم كنت مخطئا، فقد وقعت فى يدى أخيرا- أى خلال هذا الأسبوع- روايته «زقاق المدق» ليتأكد لى أننى خسرت كثيرا من المتعة الخالصة، أكرر الخالصة عندما تأخرت كل هذه السنوات فى قراءته، فزقاق المدق التى تنتمى لرواياته الباكرة متعة خالصة، حسبما تبينتُ وأنا فى هذه السن.

ربما ينفرد محفوظ من بين سائر الكتاب، جيله والأجيال التالية، بأنه مازال مقروءا، ومازال الواحد يعيد قراءته، ومازالت الأجيال الطالعة تُقبل عليه.

 ويضيف الكاتب الكبير محمود الوردانى هذا البنّاء العظيم نهض وحده بتأسيس وتشييد فن الرواية العربية عبر خمسة وخمسين رواية ومجموعة قصصية، فى كدح مستمر متواصل لم يتوقف لحظة واحدة، حتى بعد محاولة اغتياله لإسكاته، قام مرة أخرى وعاد للكتابة، ومن بين الأعمال التى أضعها فى متناولي، وأعيد قراءتها باستمرار، عمليه الفاتنين” أصداء السيرة الذاتية” و” أحلام فترة النقاهة” وكلاهما بعد المحاولة الآثمة.

  أخذ الرجل نفسه بالشدة، ولم يلتقط أنفاسه، واكاد أجزم أنه كان ممتلئا تماما بالمهمة التى اعتبرها مقدسة وهى كتابة حياتنا وأيامنا وتأسيس وتشييد الفن الروائى وحده. ولا أظن أيضا أن كتابته السهلة التى يُقبل عليها الجميع بيسر وسلاسة كانت مصادفة. باختصار كان الرجل كاتبا شعبيا، اجتاح كل الأشكال والأجواء، وبين الجمالية والعباسية استطاع أن يكتب الدنيا عبر عشرات الشخصيات والنفوس القوية والضعيفة، والنساء والرجال والسياسيين والحشاشين والشهداء والظالمين.. لم يترك الرجل ملليمتر دون أن يكتبه حتى صانع العاهات زيطة لم يفلت منه.

  كتب رواية الأصوات المتعددة مثل ميرامار، كما كتب رواية الشخصيات مثل المرايا. كتب الرواية المكتوبة بضمير المتكلم أو التى يرويها راو عليم، بنفس الكفاءة والغوص والسهولة الآسرة، وكان مهموما حقا وتشغله البساطة والوصول لكل مستويات القراء دون الوقوع فى الشعبوية. وربما كان من بين القليلين جدا الذين أخذوا على عاتقهم أن يكون لأعمالهم محتوى ومعنى وقيمة أخلاقية بالمعنى الإيجابى للكلمة؛ ولأنه “ وحش” فعلا كتب عن الفقراء والأغنياء، وليس الطبقة الوسطى وحدها كما يتردد. “ وحش” لاحل له، أكرمنا الله به، وخصّنا بفيوضه التى أفاضها علينا.. أسخر دائما ممن يطلقون عليه الكاتب “العالمي”..محفوظ ليس كاتبا عالميا، وقيمته الكبرى أنه كاتب مصرى كادح، كانت الكتابة لديه احتياجا شخصيا قبل أن تكون أى شئ.

وعندما تعرض للقتل وكادت يده تتوقف تماما، انخرط فى مقاوما أسطورية ضارية وتمرينات مضنية وهو شيخ يقترب من الثمانين حتى استعاد يده” الكاتبة” مرة أخرى.
ذكراه ذكرى جميلة.. نتذكره بكل حب وتوقير واعتراف بالفضل.