أحمد القرملاوى: نجيب محفوظ راهب فى معبد الكتابة والفلسفة

الروائى أحمد القرملاوى
الروائى أحمد القرملاوى

وعن أثر أدب نجيب محفوظ فى حياته الإبداعية بمناسبة ذكرى وفاته، طرح الأديب والروائى أحمد القرملاوى سؤالا فى تصريحه لـ«أخبار الأدب»: ماذا تعلَّمتُ من نجيب محفوظ؟ سؤال أتوه فى إجابته كلما طُرِح؛ فالأحرى أن أُسأَل عما لم أتعلَّم من هذا الحَبْر الكبير، من هذا الكاهن الأكبر حامل المفاتيح فى معبد الكتابة والفلسفة.


تفتَّحَت ذائقتى داخل حديقة محفوظ، فى سنِّ مبكِّرة نسبيًّا، كنتُ أقتطف النصوص من مكتبة أبى بطريقة عشوائية، دون وعى بالمراحل المختلفة التى خاضها الرجل بحثًا عن إجاباتٍ لأسئلته الملِحَّة، وسَعيًا وراء تطوير تقنيات الكتابة وتطويعها للغة العربية. لم أكُن واعيًا أيضًا بهذا الخِضم الهائل من التساؤلات - الفلسفية والسياسية والأيديولوجية - التى يعتمل بها ذهنُ الرجل وشخصياته القريبة منه؛ كنتُ واقِعًا تحت تأثير سِحره فقط، سِحر المجاز والشخصيات المدهشة والسرد المتدفق والعبارات المخاتِلة، تلك الحِيَل السحرية هى أول ما تعلَّمتُه من الأستاذ، وأول ما جرفَنى نحو تيّار الكتابة وتأمُّل الحياة من كل زاوية ممكنة.


فى وقت لاحق، وعَبْر بوابة حديقة محفوظ، خرجتُ إلى العالم الخارجى حامِلًا أسئلتى وشهيَّتى المفتوحة على التعلُّم والاكتشاف، زرتُ حدائق بروست وجويس وفوكنر وكافكا، وتجوّلتُ فى فناء الفلسفة الوجودية لفترة غير قصيرة، فقرأت سارتر وكامو، والأخير فُتِنتُ به لدرجة استثنائية.
ويضيف الأديب أحمد عونى ثم أبحرتُ طويلًا فى سيرته، وقرأتُ الكثير عنه وعن أعماله، فأُعجِبتُ بدأبه وصبره على الكتابة وإعادة الكتابة رغبة منه فى المزيد من التجويد، كما استلهمتُ طريقته فى إدارة الوقت والتعامل مع مرور الزمن بالجدية التى يستحقّها. استفدتُ أيضًا من حواراته وإجاباته الذكية والمقتضبة على الأسئلة التى يُوجِّهها إليه المحاوِرون. تعلَّمتُ حتى من مُراسلاته مع صديقه أدهم رجب، ومن مقدرته الفذة على الالتحام بالحياة حتى النُّخاع، وفى نفس الوقت تأمُّلها من مسافةٍ تُتيح الفهم العميق والخروج بنتائج يُمكن صياغتها فى قوالب فنية مُبتكرة.


اليوم، أُعيد قراءة محفوظ بين الحين والآخر، أتجوَّل فى حديقته المزدانة بشتى ألوان الأفكار والأجناس الفنية؛ ألاحِظ قُدرته الفذة على البناء، على التكثيف، على التجريب والتعبير عن المطْلَقات فى قوالب فنية ظلت تتجدد باستمرار على امتداد رحلته الطويلة مع الكتابة. يكفى أن أُعيد قراءة رواية «الطريق»، وقصة «الزعبلاوى» من مجموعة دنيا الله، حتى أكتشف الكيفية التى يُمكن بها صياغة نفس الفكرة فى أكثر من قالب. يكفى أن أقرأ «الثلاثية» و«حديث الصباح والمساء» و«الباقى من الزمن ساعة» على التوالى، حتى أختبر ثلاثة طرق متباينة تمامًا لبناء رواية أجيال ممتدة فى الزمن. يكفى أن أقرأ «المرايا» و«حكايات حارتنا» حتى أتبيَّن الأشكال الفنية المتعددة التى يُمكن إنتاجها من السِّيَر الشخصية والخبرات الذاتية.


لا تسألنى إذًا ماذا تعلَّمت من محفوظ، بل ما الذى لم أتعلَّمهُ بعد، ومتى سأتعلَّمه، فهذه هى القضية الأهم.