غادة العبسي: «نجيب محفوظ» كان يعزف بالقلم.. ورواياته تكتب بنظام موسيقي

الروائية الدكتورة غادة العبسى
الروائية الدكتورة غادة العبسى

تقول الدكتورة والروائية غادة العبسي، عن أديب نوبل وأبو الرواية العربية، قبل خمسة أعوام عندما أنجزتُ روايتى الثانية الإسكافى الأخضر، والتى تقمصتُ فيها روح بذرة قمح اختارت أن تسكن الأذن اليسرى لطفل، ليتحول إلى إنسان بسنابل تزحف على جسده البشرى، كتبتُ إهداء خاصًا إلى نجيب محفوظ قلتُ فيه: «كانت المرة الأولى التى أراك فيها، على شاشة تلفاز 14 بوصة بالأبيض والأسود، انشغلت ساعتها بنظارتك الداكنة وشامة مميزة فى وجهك بحجم الحُمّصة أصابتنى بقشعريرة، وبسماعة تستقر فى أذنك اليسرى، حينها أشرت بحماس إلى التلفاز وقلت لأبى: إنه يرتدى سماعة مثلك! كان أبى يخلعها أغلب الوقت، وهكذا تيسر لى أن ألهو بها وأحاول اكتشاف من أين تتسرب الأصوات إلى الداخل، ضاعت السماعة، وبقيت الأصوات فى أعماقى وأصداؤها وهذا الخوف المزمن من فقدانها».


وتضيف غادة العبسى قبل أشهر، بدأتُ أعانى من ضعف السمع فى أذنى اليسرى بشكلٍ ملحوظ، أصابنى الأمر بإحباط عنيف، فالأمر لا يتعلق فقط بضعف التواصل الإنسانى، ولكن بالنسبة لى السمع والسماع والطرب والموسيقى، كلها عوالم تتضافر حولى وبداخلى لتحقق لى سعادة مطلقة، لا تضاهى منذ طفولتى، تخفيفًا لمعاناتى، بدأت أستحضر روح نجيب محفوظ المطرِب والعازف الذى التحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية عام 1933، والذى قال: «كل ما أستطيع قوله أننى أحببت الفنون التشكيلية والموسيقى لدرجة أن شغفى بالموسيقى يكاد يفوق شغفى بالأدب». نعم هذا هو نجيب محفوظ الذى عرفته من خلال ما قص وروى، ذلك الإحساس الدفين الذى طالما تسرب إلى أعماقى قبل حتى معرفتى بتاريخ عشقه وممارسته للعزف والغناء، الفقرات ذات الإيقاع الآسر، والروايات التى تكتب بنظام موسيقى تشبه فى روعتها الأدوار وما تحوى من تكرار محبب إلى النفس الطِّربة، القصص ما هى إلا مونولوجات وطقاطيق، الخفة والرصانة والمتعة المسخرة لنجيب الأديب، أفكاره وفلسفته الخاصة جدًا والتى ربما تكونت من وحى رؤى موسيقية لم تتحقق له فى الحياة ولكنه مارسها من خلال الكتابة فأصبح صوته المقروء يفوق حلاوة وعذوبة صوته المسموع الذى لم تسنح لنا فرصة سماعه قط.


كان فى ذلك أكبر عزاء، فى نجيب محفوظ أكبر عزاء، كتبت فى الإسكافى الأخضر: «الجنة للحالمين» وأزداد يقينًا بغدٍ أجمل عندما أقرأ ما قاله فى «الحرافيش»: «لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة»، كان هو واحدًا من هؤلاء.. وأصدّقه.