جابر عصفور: ركن محفوظ هو الأكبر في مكتبتي.. وتعلمت منه الصبر

الدكتور جابر عصفور
الدكتور جابر عصفور

دائما ما كانت حياة نجيب محفوظ مصدر إلهام لغالبية المبدعين، وعندما رحل عن عالمنا ظلت أعماله لها النصيب الأكبر داخل حيّز مكتباتهم، تخلق لنفسها مكانا يتجدد كل فترة، ويستقبل الجديد دائما، فما زالت الكتب الجديدة عن عوالم محفوظ تصدر ولازالت أعماله تكسب قراء جددا كل يوم، لكن العلاقة مختلفة خاصةً مع هؤلاء الذين اقتربوا منه إنسانيا فهو لم يكن مجرد كاتب بالنسبة إليهم، لكنه ربما وصل إلى صورة «الكمال»، إذ أضاف لهم محفوظ الكثير خلال حياتهم، هنا نحاول الاقتراب أكثر، لنتعرف عن بدايات معرفتهم بكتابات محفوظ وأعماله، وكذلك الإجابة عن سؤال رئيسى هو «ماذا يمثل ركن محفوظ بالنسبة لهم؟».

يقول الكاتب الكبير جابر وزير ثقافة مصر الأسبق والأديب والمفكر، أن ركن محفوظ فى مكتبتى هو الركن الأكبر فى الرواية، والتى تحوى جميع أعمال محفوظ، فقد ارتبطت طوال حياتى بأعماله، منذ اللحظة التى وقعت عيناى على عمل له، ووقتها كنت فى المرحلة الإعدادية، وعلى ما أتذكر أول عمل قرأته له كان «زقاق المدق» وأنا لم أنس هذا العمل، خاصةً «الست حميدة»، وبعد ذلك عندما بدأت أكتب عن محفوظ كتبت وقتها عن الرواية التاريخية، إذ اعتبرت «كفاح طيبة» أنها قدمت نموذجًا للحاكم الصالح، وأن «عبث الأقدار»  نموذج للحاكم الذى يرضى بالعدل الإلهى لكى يحققه على الأرض، وكذلك رواية رادوبيس  رأيتها أيضًا نموذجًا للحاكم الإلهى، وحين كتبت عنها منذ زمن، رأيت أنها إشارة للملك فاروق.

تعلمت من محفوظ أشياء كثيرة جدًا أولها الصبر، والانتظام فى العمل، إذ كانت حياته دقيقة ومنتظمة، وهذا الانتظام هو الذى انتهى به إلى ما صار عليه فى النهاية، فمحفوظ لم يكن «هلاسًا» وقد حرص على العمل المنتظم والجدى طوال حياته، وهو على عكس يوسف إدريس على سبيل المثال الذى لم يكن منتظمًا، فبسبب هذا الإصرار والدأب والانتظام، وصل محفوظ إلى ما وصل إليه، وحصل على نوبل فى نهاية الأمر، لذلك أعتبر هذا الأمر درسًا هائلًا تعلمته منه خلال حياتى، فحتى عندما كبر وأصيب بمرض السكر، حذره الطبيب من التدخين، وسمح له بالتدخين مرة كل ساعة، ووقتها كنت أتابعه ورأيته حريصًا على إرشادات الطبيب ملتزمًا بالوقت المحدد وحين يأتى ميعاد شرب السيجارة كان ينظر فى ساعته ويسحبها من العلبة كما حدد له الطبيب، وبعدها بساعة يقوم بالأمر ذاته مرة أخرى، فهذه الدروس البسيطة هى التى كونت شخصية محفوظ ولولا انضباطه لما وصل إلى ما وصل إليه، وهى دروس بالرغم من بساطتها، إلا أن محفوظ قدمها لكل من شخص يريد أن يصل إلى شىء مهم فى حياته.

هناك الكثير من أعمال محفوظ التى أعدت قراءتها أكثر من مرة، فهو شخصية ثرية واستطاع أن يكتب أشكالا مختلفة من الكتابة، والانتقال من مرحلة لأخرى، إذ إنه كتب ثلاثيته وانتقل بعدها لمرحلة جديدة من الكتابة وهى مرحلة استثنائية والتى كتب فيها «أولاد حارتنا» وبعد أن انتهى من كتابتها بدأت مرحلة جديدة ناقش فيها قضايا سياسية واجتماعية، ذات الرمز السياسى، فكتب «اللص والكلاب» وتغير أسلوبه وقتها، إذ إن أسلوبه فى الروايات القديمة مثل الثلاثية وغيرها كان أسلوب وصفى، لكن فى «اللص والكلاب» اختلف ذلك الأسلوب منذ أول جملة بالرواية، وهذه الأعمال هى التى أطلق عليها يحيى حقى اسم «المرحلة الديناميكية»، إذ إنه قسم إنتاج محفوظ لمرحلتين رئيسيتين وهما «المرحلة الاستاتيكية» والتى هى ما قبل «اللص والكلاب»، و«المرحلة الديناميكية» التى ذكرتها منذ قليل والتى تخص أعمال ما بعد «اللص والكلاب»، فالمرحلة الديناميكية أيضًا كانت متنوعة، وما كتبه فى «الشحاذ»  اختلف عما كتبه فى «الباحث عن الحقيقة»و«أفراح القبة» فكل عمل تميز عن غيره بخاصية نوعية، بعكس الكثير من الروائيين، لأنه دائمًا ما كان يأخذنا لآفاق بعيدة من الفكر الفلسفى، لكن العمل الذى تأثرت به كثيرًا لمحفوظ هو الثلاثية، وخاصة الجزء الثالث، وخصوصًا الفصل الأخير منها، وتحديدًا الصفحات الأخيرة من هذا الفصل، والتى جاءت على لسان البطل عندما قال «إنى أعيش حياتى وأحترم القيم التى يحترمها الناس، أما إذا لم يحترم الناس هذه القيم، فإنى أسير عليها بغض النظر عنهم»، فأنا دائمًا ما اقرأ هذه العبارة، وأتذكر أنه فى المرة الأولى عندما قرأتها كتبتها فى كراسة من كراساتى، وعلى ما أتذكر كنت فى المرحلة الثانوية، فأنا تأثرت بمحفوظ فى حياتى كلها، وفى جميع مراحل عمرى، كنت دائمًا ما أنظر إليه منبهرًا.